Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 86, Ayat: 5-10)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } جواب لمقدر . والفاء فصيحة . أي : إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب ، فلينظر … إلخ . قال الإمام : قوله : { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ } بمنزلة الدليل على الدعوى المقسَم عليها ، زيادة في التأكيد . ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها . ثم إن هذا السائل ينشأ خلقاً كاملاً كالإنسان ، مملوءاً بالحياة والعقل والإدراك ، قادراً على القيام بخلافته في الأرض . فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية ، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن ، ثم منح قوة الإدراك والعقل ، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره ، وهو الله جل شأنه . ويجوز أن يكون قوله : { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى . كأنه يقول : فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب ، فمن الواجب على الإنسان أن لا يهمل نفسه ، وأن يتفكر في خلقه . وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة ، قادر على أن يعيده . فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق . ويعدل بها عن سبل الشر . فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال . انتهى . و { دَافِقٍ } من الدفق . وهو صبٌّ فيه دفع . وقد قيل : إنه بمعنى مدفوق ، وإن اسم الفاعل بمعنى المفعول . كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل كـ { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . والصحيح أنه بمعنى النسبة كـ ( لابن وتامر ) أي ذي دفق ، وهو صادق على الفاعل والمفعول . أو هو مجاز في الإسناد . فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة . أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقاً ؛ لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضاً أي : يدفعه . أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل ، كما نقل عن الليث . أقوال . وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } أي : من بين صلب الرجل ونحر المرأة . قال الإمام : الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فقار . ويعبر عنه في كلام العامة بسلسلة الظهر . وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقاً لاسم الجزء على الكل وَ { ٱلتَّرَآئِبِ } موضع القلادة من الصدر ، وكني بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة . أي أن ذلك الماء الدافق إنما يكون مادة لخلق الإنسان ، إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه ، وهو رحم المرأة . فقوله { يَخْرُجُ } إلخ وصف لابد من ذكره لبيان أن الإنسان إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منه . وقال بعض علماء الطب : الترائب جمع تربية : وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى . ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى ، ومنها قول امرئ القيس : @ * ترائبُها مَصْقولة كالسَّجَنْجَل * @@ قال : ومعنى الآية أن المنيّ باعتبار أصله وهو الدم ، يخرج من شيء ممتد بين الصلب - أي فقرات الظهر في الرجل - والترائب أي : عظام صدره . وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر ( الأورطي ) وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريباً . ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة . ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين ، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين ، فيغذيانهما . ومن دمهما يتكون المنيّ في الخصيتين ويسميان شرياني الخصيتين ، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المنيّ : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر . وهذه الآية ، على هذا التفسير ، تعتبر من معجزات القرآن العلمية . وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول . انتهى . وقوله تعالى : { إِنَّهُ } أي : الحافظ سبحانه ، المتقدم في قوله : { لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] أو الخالق المفهوم من خلق { عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } أي : رجع الإنسان وإعادته في النشأة الثانية ، لقادر . كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } أي : تظهر وتعرف خفيات الضمائر . قال الزمخشري : السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ، وما أخفى من الأعمال . وبلاؤها تعرفها وتصفحها ، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } أي : من قوة يمتنع بها من عذاب الله وأليم نكاله . ولا ناصر ينصره فيستنقذه ممن ناله بمكروه . يعني : أنه فقد ما كان يعهده في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته ، يمتنع منهم ممن أراده بسوء . وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده . ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم .