Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 107-110)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱلَّذِينَ } أي : ومن المنافقين الذين { ٱتَّخَذُواْ } أي : بَنَوْا : { مَسْجِداً ضِرَاراً } أي : مضارّ لأهل مسجد قباء { وَكُفْراً } أي : تقوية للكفر الذي يضمرونه { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً يؤدون أجلّ الأعمال ، وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام بجمع قلوب أهله على الخيرات ، ورفع الاختلاف من بينهم { وَإِرْصَاداً } أي : إعداداً وترقباً وانتظاراً { لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } أي : كفر بالله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فاسقاً ) . وكانوا أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سنفصله - { وَلَيَحْلِفُنَّ } أي : بعد ظهور نواياهم ومقاصدهم السيئة { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } أي : ما أردنا ، ببناء المسجد ، إلا الخصلة الحسنى ، أو الإرادة الحسنى ، وهي الصلاة ، وذكر الله ، والتوسعة على المصلين { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في حلفهم . { لاَ تَقُمْ فِيهِ } أي : لا تصلّ في مسجد الشقاق { أَبَداً } أي : في وقت من الأوقات ، لكونه موضع غضب الله ، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه كما يأتي . وإطلاق ( القائم ) على المصلّي والمتهجد معروف ، كما في قولهم : فلان يقوم الليل ، وفي الحديث : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً " { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } أي : بنيت قواعده على طاعة الله وذكره ، وقصد التحفظ من معاصي الله ، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهو مسجد قباء { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي : من أيام وجوده { أَحَقُّ أَن تَقُومَ } أي : تصلي { فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } أي : المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة . ثم أشار إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار بقوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ } أي : مخافة منه { وَرِضْوَانٍ } أي : طلب رضوان منه { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا } أي : طرف { جُرُفٍ } بضم الراء وسكونها أي : مهواة { هَارٍ } أي : مشرف على السقوط { فَٱنْهَارَ بِهِ } أي : سقط معه { فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } . { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزول وَسْمُهُ عن قلوبهم ، ولا يضمحلّ أثره { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي : قِطَعاً ، وتتفرق أجزاءًَ ، فحينئذ يسلون عنه . وأما ما دامت سالمة مجتمعة ، فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت ، أو بعذاب النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بنياتهم { حَكِيمٌ } أي : فيما أمر بهدم بنيانهم ، حفظاً للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة . تنبيهات الأول : قال الزمخشريّ : في مصاحف أهل المدينة والشام { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } بغير ( واو ) ؛ لأنها قصة على حيالها ، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم . الثاني : سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة ، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، رجل من الخزرج يقال له : أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصار للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارّاً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام ( أُحُد ) ، فكان أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته . فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عيناً ، يا فاسق ، يا عدو الله ! ونالوا منه وسبّوه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرّد . فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً ، فنالته هذه الدعوة . وذلك أنه لما فرغ الناس من ( أُحُد ) ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله ، فوعده ومنّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار ، من أهل النفاق والريب ، يعدهم ويمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وكان أمَرَهم أن يتخذوا له معقلاً ومرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك . فأتوه فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه . فقال : " إني على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قدمنا ، إن شاء الله تعالى ، أتيناكم ، فصلينا لكم فيه " فلما نزل بذي أَوَانٍ - موضع على ساعة من المدينة - أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عديّ أو أخاه عامراً ، فقال : " انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه " فخرجا سريعين ، حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله ، فأخذ سعفاً من النخل ، فأشعل فيه ناراً ، ثم خرجا يشتدّان ، حتى دخلا المسجد ، وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم ما نزل - ذكره ابن كثير ، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه . وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمُجَمِّع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ونعمة عين ! أليس هو إمام مسجد الضرار ؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فوالله ! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، وكنت غلاماً قارئاً للقرآن ، وكانوا شيوخاً لا يقرؤون ، فصليت بهم ، ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ، ولم أعلم ما في نفوسهم . فعذره عمر ، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء . الثالث : ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء ؛ لأن السياق في معرضه ، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك ، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله ، وجمع كلمة المؤمنين . ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكباً وماشياً ، ويصلي فيه ركعتين - كما في الصحيح - . وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاريّ " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : " إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ " فقالوا ، يا رسول الله ، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء " - رواه الإمام احمد وأبو داود والطبرانيّ ، واللفظ له . وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجده رواه الإمام أحمد ومسلم . قال ابن كثير : ولا منافاة ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى - انتهى . ومرجعه إلى أن هذا الوصف - وإن كان يصدق عليهما - إلا أن الأحرى به بعد ، هو المسجد النبوي ، أي : فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية ، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن . وقال السهرورديّ : كل منهما مراد ؛ لأن كلاًّ منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه . والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك ، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء ، والتنويه بمزية هذا عن ذاك . الرابع : قال السهيليّ ، نور الله مرقده : في الآية - يعني قوله تعالى : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } - من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة ؛ لأنه الوقت الذي عزّ فيه الإسلام ، والحين الذي أمِنَ فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبنيت المساجد ، وعُبد الله كما يحب ، فوافق رأيُهم هذا ظاهر التنزيل ، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن . فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية ، فهو الظن بهم ؛ لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات ، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد ، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل ، إذ لا يعقل قول القائل : فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم ، أو شهر معلوم ، أو تاريخ معلوم . وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم ، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال ، فتدبره ، ففيه معتبرٌ لمن ادّكر ، وعِلْمٌ لمن رأى بعين فؤاده واستبصر . الخامس : ( التأسيس ) وضع الأساس ، وهو أصل البناء ، وأوله ، وبه إحكامه ، ففي الآية شبَّه التقوى والرضوان تشبيهاً مكنيّاً مضمراً في النفس ، بما يعتمد عليه أصل البناء . و { أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } تخييل ، فهو مستعمل في معناه الحقيقيّ ، أو هو مجاز بناء على جوازه ، فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه ، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة ، بحال من بنى بناءً محكماً مؤسساً يستوطنه ويتحصن به . أو ( البنيان ) استعارة أصلية ، و ( التأسيس ) ترشيح أو تبعية ، و ( الشفا ) : الحرف والشفير . و ( جُرُف الوادي ) : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول ، فيبقى واهياً . و ( الهار ) : الهائر : وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قيل : هو مقلوب ، وأصله ( هاور ) أو ( هاير ) . وقيل : حذفت عينه اعتباطاً ، فوزنه ( فال ) . والإعراب على رائه كباب ، وقيل : لا قلب فيه ولا حذف ، ووزنه في الأصل ( فعِل ) بكسر العين ، ككتف ، وهو ( هَوِرٌ ) أو ( هير ) ، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط . وفاعل ( انهار ) ، إما ضمير البنيان ، وضمير ( به ) للمؤسس ، أي : سقط بنيان الباني بما عليه . أو لـ ( الشفا ) ، وضمير ( به ) للبنيان . والظاهر في التقابل أن يقال : أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله ، ولذا قال في الكشاف : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية ، وهي الحق ، الذي هو تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ، وأقلها بقاء ، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك . وضع ( شفا الجرف ) في مقابلة ( التقوى ) ، لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى ، يعني أنه شبه الباطل بـ ( شفا جرف هار ) في قلة الثبات ، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى ، والتقوى حق ، ومُنَافِي الحق هو الباطل . وقوله : { فَٱنْهَارَ } ترشيح ، وباؤه للتعدية ، أو للمصاحبة ، فـ ( شفا جرف هار ) استعارة تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازيّ المراد منها . فإن قلت : لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل ، وبالثاني على طريق الإستعارة والتمثيل ؟ قلت : التفنن في الطريق رعايةٌ لحق البلاغة ، وعدولاً عن الظاهر ، مبالغةٌ في الطرفين ، إذ جعل أولئك مبنياً على تقوى ورضوان ، هو أعظم من كل ثواب ، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب ، ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده ، مع ما فيه من التهويل . وقولنا : ( فانهار ترشيح ) أوضحه الكشاف بقوله : لم جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل ، قيل : { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الإنهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جرف من أودية جهنم ، فانهار به ذلك الجرف ، فهوى في قعرها . السادس : دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا حرمة ، ولا يصح الوقف عليه . وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها . نقله بعض المفسرين . قال الزمخشريّ : قيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياءً وسمعة أو لغرضٍ سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب - فهو لاحق بمسجد الضرار . وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بني على ضرار ، كل مسجد بني على ضرار ، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً . وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه ، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضارّ أحدهما صاحبه - انتهى . وقال الإمام ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في فوائد غزوة تبوك : ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ، ويذكر إسم الله فيه . لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه ، فواجب على الإمام تعطيله ، إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له . وإذا كان هذا شأنه مسجد الضرار ، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتُها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله ، أحق بذلك وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات . وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفيّ وسماه ( فويسقاً ) ، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية . وهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم ، كما أخبر هو عن ذلك - انتهى . ثم قال ابن القيّم : ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد . وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر ، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره - فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معاً لم يجز . ولا يصح هذا الوقف ، ولا يجوز ، ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً ، أو أوقد عليه سراجاً . قال ابن القيّم : فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه ، وغربته بين الناس كما ترى . انتهى . السابع : قال بعض المفسرين اليمانيين : في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة ، يعني التأسيس على التقوى ، وفيها : أن نية القربة في عُمارة المسجد شرط ، لأن النية هي التي تميز الأفعال . وفيها : أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار - ذكر ذلك الحاكم ؛ لأنه قال تعالى : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } وأراد بـ ( القيام ) الصلاة . الثامن : قال ابن كثير : في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده ، لا شريك له وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات . وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : " إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء " فدلّ هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكماله ، والقيام بمشروعاتها . التاسع : ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية ، الطهارة من الذنوب ، والتوبة منها ، والتطهر من الشرك . قال الرازيّ : وهذا القول متعيّن ، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى ، واستحقاق ثوابه ومدحه ، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارّة المسلمين ، والكفر بالله ، والتفريق بني المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم ، وما ذلك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي . انتهى . أقوال : لا تسلم دعوى التعيّن ، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة . بل الثانية ما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : " " قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون ؟ " فقالوا : نستنجي بالماء " . وروى البزّار عن ابن عباس قال : هذه الآية في أهل قباء ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نتبع الحجارة بالماء . فإن صح ذلك كان المرادَ من الآية ، وتكون حثّاً على الطهارة المذكورة ، ومدحاً لها . وكون ذويها على الضد من صفات أولئك ، يستفاد من عموم هذا ، ومن قوله تعالى : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ … } الآية . العاشر : قال القاشانيّ : لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت ، وتسخيره ، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال ، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية ، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفا ، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة ، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم . ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبيّ من أنبياء الله ، بنية صادقة ، ونفس شريفة صافية ، عن كمال إخلاص لله تعالى ؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع ، والكدورة والتفرقة في بعضها . وما هو إلا لذلك ، فلهذا قال : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ … } الآية - لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس ، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام ، فإذا كان موضع القيام مبنيّاً على التقوى وصفاء النفس ، تأثرت النفس باجتماع الهم ، وصفاء الوقت ، وطيب الحال ، وذوق الوجدان ، وإذا كان مبنيّاً على الرياء والضرار ، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض . وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني ، وصدق نيته ، مؤثر في البناء ، وأن تبّرك المكان ، وكونه مبنيّاً على الخير ، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ، ممن يناسب حاله حال بانيه ، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } .