Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 29-29)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، وعدم الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم - ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، هو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، منبهاً في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكليّ ، مرشداً إلى سلوكه ابتغاء لفضله ، واستنجازاً لوعده . قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك . وقال الكلبيّ : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين . انتهى . ولا يخفى شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص . قال ابن كثير : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحرّ . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامة ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعدُ إن شاء الله تعالى . انتهى . والتعبير عن ( أهل الكتاب ) بالموصول المذكور ، للإيذان بعليّة ما في حيز الصلة للأمر بالقتال ، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كما أمر تعالى ، إذ لديهم من فساد العقيدة ، فيما يجب له تعالى ، وفي البعث ، أعظم ضلال وزيغ ، { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } ، يعني : ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة . وقيل : المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه ، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً ، إذ غيّروا وبدّلوا أتباعاً لأهوائهم . قال الشهاب : فيكون المراد : لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم ، وقوله تعالى : { دِينَ ٱلْحَقِّ } من إضافة الموصوف للصفة ، أو المراد بـ { ٱلْحَقِّ } ، الله تعالى . وقوله تعالى : { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ } أي : ما تقرر عليهم أن يعطوه . قال ابن الأثير : الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابيّ الذمة ، وهي ( فِعْلَة ) من الجزاء ، كأنها جَزَتْ عن قتله . وقال الراغب : سميت بذلك للاجتزاء بها عن حقن دمهم . وقال الشهاب : قيل : مأخذها من ( الجزاء ) بمعنى القضاء . يقال : جزيته بما فعل ، أي : جازيته ، أو أصلها الهمز من ( الجزء والتجزئة ) ، لأنها طائفة من المال يعطى ، وقيل : إنها معرب ( كزيت ) ، وهو الجزية بالفارسية . انتهى . وقوله تعالى : { عَن يَدٍ } حال من فاعل { يُعْطُواْ } و ( اليد ) هنا إمّا بمعنى الإستسلام والإنقياد ، ويقال : هذه يدي لك ، أي : استسلمت إليك ، وانقدت لك ، وأعطى يده أي : انقاد . كما يقال في خلافه : نزع يده من الطاعة . لأن من أبى وامتنع ، لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، وإما بمعنى النقد ، أي : حتى يعطوها نقداً غير نسيئة ، فيكون كـ ( اليد ) في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب والفضة " … إلى قوله : " يداً بيد " وإما بمعنى الجارحة الحقيقية ، و { عَن } بمعنى الباء ، أي : لا يبعثون بها عن يد أحد ، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ . وإما بمعنى : من طيبة نفس ؛ قال أبو عبيدة : كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه ، من غير طيب نفس به وقهر له ، من يد في يد ، فقد أعطاه عن يد . وإما بمعنى الجماعة ، أنشد ابن الأعرابي : @ أعطى فأعطاني يداً وَدَارَا وباحةً حوَّلها عَقَارَا @@ الأساس 2 / 560 ، واللسان 15 / 425 ، بيروت . ومنه الحديث : " وهم يدٌ على من سواهم " أي : هم مجتمعون على أعدائهم ، يعاون بعضهم بعضاً - قاله أبو عبيدة - وإما بمعنى الذل - نقله ابن الأعرابيّ وحكاه وجهاً في الآية - . هذا إن أريد باليد يد المعطي ، وإن أريد بها يد الآخذ ، فاليد إما بمعنى القوة ، أي : عن يد قاهرة مستولية ، ويقولون : ما لي به يد أي قوة ، وإما بمعنى السلطان ، وهو كالذي قبله ، ومنه يد الريح سلطانها . قال لبِيد : @ نِطافٌ أمْرُهَا بِيَدِ الشَّمَالِ @@ اللسان 15 / 422 . وصدره كما جاء في الأساس2 / 560 . @ أضَلَّ صِوَارَهُ وتَضَيَّفَتْهُ @@ وفيه : نُطُوفٌ . لما ملكت الريح تصريف السحاب ، جعل لها سلطان عليه . وإما بمعنى النعمة ، أي : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية ، وترك أنفسهم عليهم ، نعمة عليهم . قال الناصر في ( الانتصاف ) : وهذا الوجه أملى بالفائدة . وإمّا بمعنى الغنى ، حكاه في ( العناية ) ، ونقله ( التاج ) من معاني اليد . وقوله تعالى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : أذلاء . تنبيهات الأول : قوله تعالى : { عَن يَدٍ } إما حال من الضمير في { يُعْطُواْ } أو من ( الجزية ) أي : مقرونة بالانقياد ، ومسلمة بأيديهم ، وصادرة عن غنى ، ومقرونة بالذلة ، وكائنة عن إنعام عليهم . كذا في ( العناية ) . الثاني : قال السيوطي في ( الإكليل ) : هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب . الثالث : قال أيضاً : استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم ، الغني ، أنها لا تجب على مُعسر ، ومن قال بأنه لا يرسل بها ، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها ، ولا أن يضمنها عنه ، ولا أن يحيل بها عليه . الرابع : قال السيوطيّ أيضاً : استدل بقوله تعالى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } من قال : إنها تؤخذ بإهانة ، فيجلس الآخذ ، ويقوم الذميّ ويطأطئ رأسه ، ويحني ظهره ، ويضعها في الميزان ، ويقبض الآخذ لحيته ، يضرب لهزمتيه . قال : ويردّ به على النوويّ حيث قال : إن هذه سيئة باطلة . انتهى . قلت : ولقد صدق النوويّ عليه الرحمة والرضوان ، فإنها سيئة قبيحة ، تأباها سماحة الدين ، والرفق المعلوم منه ، ولولا قصد الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة . ثم رأيت ابن القيّم ردّ ذلك بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، قال : والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك الصغار ، وبه قال الشافعيّ . انتهى . ثم قال السيوطيّ : واستدل بالآية من قال : إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام ؛ لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها ، ومن الكف ألا يجلوا ، ومن قال : لا حدَّ لأقلها ، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار . انتهى . الخامس : روى أبو عبيد في كتاب ( الأموال ) عن ابن شهاب قال : أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب ، أهل نجران ، وكانوا نصارى . السادس : قال أبو عبيد : ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب ، وعلى المجوس بالسّنة . وقال ابن القيّم : لما نزلت آية الجزية أخذها صلى الله عليه وسلم من ثلاث طوائف : من المجوس واليهود والنصارى ، ولم يأخذها من عباد الأصنام ، فقيل : لا يجوز أخذها من كفار غير هؤلاء ، ومن دان بدينهم اقتداءً بأخذه وتركه ، وقيل : بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار وهم كعبدة الأصنام من العجم ، دون العرب ، والأول قول الشافعيّ وأحمد ( في إحدى روايتيه ) ، والثاني قولُ أبى حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى . وأصحاب القول يقولون : إنما لم يأخذها من مشركي العرب ؛ لأنها إنما نزَلت فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب ، ولم يبق فيها مُشِركٌ ، فإنها نزلت بعد فتح مكة ، ودخول العرب في دين الله أفواجاً ، فلم يبق بأرض العرب مشرك ؛ ولهذا غزا بعد الفتح تبوك ، وكانوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه ، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين . ومن تأمل السير وأيام الإسلام ، علم أن الأمر كذلك ، فلم تؤخذ منهم الجزية ، لعدم من يؤخذ عنه ، لا لأنهم ليسوا من أهلها ، قالوا : وقد أخذها من المجوس ، فليسوا بأهل كتاب ، ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورفع ، وهو حديث لا يثبت مثله ، ولا يصح سنده . ولا فرق بين عبادة النار ، وعبادة الأصنام ، بل أهل الأوثان أقرب حالاً من عباد النار ، وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار ، بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل ، فإذا أخذت منهم الجزية ، فأخذها من عباد الأصنام أولى ، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال : " إذا لقيت عدوَّك من المشركين ، فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث ، فأيتهن أجابوك إليها ، فاقبل منهم ، وكف عنهم " ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، أو الجزية ، أو يقاتلهم . وقال المغيرة لعامل كسرى : أمرَنا نبيُّنَا أن نقاتلكم حتى تعبُدوا الله أو تؤدُّوا الجزية . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش : " " هل لكم في كلمة تدين لكم بها العرب ، وتؤدي العجم إليكم بها الجزية ؟ " قالوا : ما هي ؟ قال : " لا إله إلا الله " " . ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين ، وعارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين فرساً ، وثلاثين بعيراً ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون بها ، حتى يردوها عليهم ، إن كان باليمن كيدة أو غدرة ، وعلى ألا يُهْدَم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قسّ ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما لم يحدثوا حدثاً ، أو يأكلوا الربا . ولما وجه صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل محتلم ديناراً ، أو قيمته من ثياب . وفى هذا دليل على أن الجزية غير مقدرة الجنس ، ولا القدر ، بل يجوز أن تكون ثياباً وذهباً وحللاً ، وتزيد وتنقص بحسب حاجة المسلمين ، واحتمال من تؤخذ منه ، وحاله في الميسرة ، وما عنده من المال . ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم ، بل أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب ، وأخذها من مجوس هَجَر وكانت مدينة قاعدة البحرين ، وكان أهلها عرباً ، فإن العرب أمة ليس لها في الأصل كتاب ، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين من جاورها من الأمم ، فكانت عرب البحرين مجوساً لمجاورتها فارس وتنوخ وبهرا ، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم ، وكانت قبائل من اليمن يهود ، لمجاورتهم ليهود اليمن ، فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الجزية ، ولم يعتبر آباءهم ، ولا متى دخلوا في دين أهل الكتاب ، هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده ، ومن أين يعرفون ذلك ، وكيف ينضبط ، وما الذي دل عليه ؟ وقد ثبت في السير والمغازي أن من الأنصار من تهوّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى ، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } [ البقرة : 256 ] وفي قوله لمعاذ : خذ من كلّ حالم ديناراً ، دليل على أنها لا تؤخذ من صبي ولا امرأة . السابع : قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتابه ( الخراج ) : وليس في شيء من أموالهم ، الرجال منهم والنساء ، زكاة ، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم ، فإن عليهم نصف العشر ، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم ، أو عشرين مثقالاً من الذهب ، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة ، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية ، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها ، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره ، ولكن يرفق بهم ، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ؛ ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفي منهم الجزية ، ولا يحل للوالي أن يدع أحداً من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة ، إلا أخذ منهم الجزية ، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك ، ولا يحل أن يدع واحداً ويأخذ من واحد ، ولا يسع ذلك ، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية ، والجزية بمنزلة مال الخراج . ثم قال أبو يوسف مخاطباً هارون الرشيد : وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم ، والتفقد لهم حتى لا يُظلموا ولا يؤذوا ، ولا يُكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يُؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه " وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته : أُوصِي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم . قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مرّ على قوم قد أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام ، فقال : ما شأن هؤلاء ؟ فقيل له : أقيموا في الشمس في الجزية ! قال : فكره ذلك ، ودخل على أميرهم ، وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من عذب الناس عذبه الله " . قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب مرّ بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس ، يصبّ على رؤوسهم الزيت ، فقال : ما بال هؤلاء ؟ فقال : عليهم الجزية لم يؤدوها ، فهم يعذبون حتى يؤدوها ! فقال عمر : فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية ؟ قالوا : يقولون لا نجد ! قال : فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون . فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تعذبوا الناس ، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا ، يعذبهم الله يوم القيامة " وأمر بهم فخلى سبيلهم . ثم قال : وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال : مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال : من أي : أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهوديّ . قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية ، والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده ، وذهب به إلى منزله ، فرضخ له بشيء من المنزل ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شيبته ، ثم نخذله عند الهرم { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب . ووضع عنه الجزية وعن ضربائه . قال : قال أبو بكر : أنا شهدت ذلك من عمر ، ورأيت ذلك الشيخ . انتهى . الثامن : في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم : قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب ( الإسلام والنصرانية ) في هذا المعنى ، تحت بحث المقابلة بين الإسلام الحربيّ ، والمسيحية السلمية ما نصه ص 74 : الإسلام الحربيّ ، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس ، وما كانوا عليه من الدين ، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الإعتقاد ، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها ، لتكون عوناً على صيانتهم ، والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة ، خلفاء المسلمين ، كانوا يوصون قوادهم باحترام العبّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال ؛ وكل من لم يُعِن على القتال . جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، ومن آذى ذميّا فليس منا . واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام ، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في الإسلام . وضيقُ الصدر من طبع الضعيف ، فذلك مما لا يلصق بطبيعته ، ويخلط بطينته . المسيحيةُ السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها ، تراقب أعمال أهله ، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر ، مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ، وتعميدهم ، أجلتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاءً حقيقيّا ، لا يمنع غيرَ المسيحيّ من تعدي المسيحيّ إلا كثرة العدد ، أو شدة العضد ، كما شاهد التاريخ ، وكما يشهده كاتبوه . ثم قال : فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلّبه عليهم ، بأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلّون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شؤونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم . انتهى . وفي كتاب ( أشهر مشاهير الإسلام ) في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه : إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ ، وأنه لا إكراه في الدين ، فمن قبلها كان من المسلمين ، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم ، وأن يعطيهم جزءاً من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه ، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه ، وألا يُفْتَنَ عن دينه ، وأن تكون له الذمة والعهد أنَّى حل ، وحيثما وجد من ممالك الإسلام ، ما دام وافياً بعهده ، مؤدّياً لجزيته ، لا يخون المسلمين ، ولا يمالئ عليهم عدوّهم ، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل ، خبر أهل نجران اليمن ، وكانوا من الكتابيين ، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة ، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم ، ما لم يخونوا أو يغدروا . وتحرير الخبر عنهم أنه كان وَفَدَ وَفْدُهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام ، فأبوا وسألوه الصلح ، وأن يقبل منهم الجزاء ، فصالحهم على شيء معلوم ، يؤدونه كل سنة للمسلمين ، وكتب لهم بذلك كتاباً جعل لهم فيه ذمة الله وعهده ، وألا يفتنوا عن دينهم ، ومراتبهم فيه ، ولا يحشروا ، ولا يعشروا ، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعيرهم ، وبعثهم وأمثلتهم ، لا يغير ما كانوا عليه ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا يطأ أرضَهم جيش . ومن سأل منهم حقّا فبينهم النصَف ، غير ظالمين ولا مظلومين ، ولهم على ذلك جوار الله ، وذمة رسوله أبداً ، حتى يأتي أمر الله ، ما نصحوا وأصلحوا . واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا ، ولا يتعاملوا به . ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أقرهم على حالهم ، وكتب لهم كتاباً على نحو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنه كان يتخوفهم ، ويود إجلاءهم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يبقين في جزيرة العرب دينان " . ولما حضر أبا بكر الوفاة ، أوصى عمر بن الخطاب بإجلائهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا . فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى ألا يجتمع في جزيرة العرب دينان ؛ لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام ، قد عانى صلى الله عليه وسلم ما عانى في جمع كلمتها ، وتوحيد وجهتها ، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها ، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام ، على حداثة عهدهم فيه ، وعدم تمكنهم بعدُ من أصوله الصحيحة . هذا من وجه ، ومن وجه آخر ، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا ، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم من أهل اليمن ، الذين ينضب التعاملُ بالربا معينَ ثروتهم ، ويؤذن بفقرهم ، على غير شعور منهم ، لا سيّما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريماً باتاً ، ولا يؤمن من أن النجرانيين ، باستمرارهم على تعاطي الربا ، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا . ومع هذه الأسباب التي تلجىء إلى إكراه النجرانيين على الإسلام ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكرههم على ذلك ؛ لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام ، لهذا تركهم على دينهم ، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن ، فأبوا ، وأعطاهم كتاب العهد المذكور ، إلا أنه اشترط عليهم فيه ألا يخونوا المسلمين ، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت . ولما استُخْلِفَ أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول ، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد ، وتعاملوا بالربا ، أمر في حال مرضه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب ، دون أن يُفْتنوا في دينهم . ولما استُخْلِفَ عمر رضي الله عنه ، كان أول بعث بعثه ، بعث أبي عبيد إلى العراق ، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن ، وأمره بإجلاء أهل نجران ، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم ، ويخيرهم عن أرضهم في أي أرض شاؤوا من بلاد الإسلام ، لا أن يعاملهم معاملة القويّ الغالب ، للضعيف المغلوب ، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده ، حتى الآن ، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها ، وتخضع لقوة سلطانها ، فتفرقوا ، فنزل بعضهم الشام ، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة ، وبهم سميت . ولم تقف العناية بهم في إجلائهم ، والمحافظة على ما بيدهم من العهد ، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد ، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق . من ذلك أنهم شكَوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه ، لما استخلف ، ضيقَ أرضهم ، ومزاحمة الدهاقين لهم ، وطلبوا إليه تخفيف جزيتهم ، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، عامله على الكوفة ، كتاباً يوصيه بهم ، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم ، لوجه الله ، وعقبى لهم من أرضهم . وروى البلاذريّ ؛ أنه لما ولي معاوية ، أو يزيد بن معاوية ، شَكَوْا إليه تفرقهم ، وموت من مات منهم ، وإسلام من أسلم منهم ، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان ، بما حطهم من الحلل ، وقالوا : إنما ازددنا نقصاناً وضعفاً ، فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة . فلما ولي الحجّاجُ العراق ، وخرج ابن الأشعث عليه ، اتهمهم والدهاقين بموالاته ، فردّ جزيتهم إلى ما كانت عليه . فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم ، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم ، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط . فلما ولي يوسف بن عمر العراق ، في خلافة الوليد بن يزيد الأمويّ ، ردّهم إلى ما كانوا عليه ، عصبيةً للحجاج . فلما انقضت دولة الأموي واستخلف أبو العباس السفاح ، رفعوا إليه أمرهم ، وما كان من عمر بن عبد العزيز ويوسف بن عمر ، فردّهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال إليهم ، فأمر فكُتب لهم كتاب بالمائتي حلة ، وبالغ بالرفق بهم ، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال ، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة ، كي لا يتعنتهم أحد من العمال . هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب . وقد رأيت مما مرّ مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم ، لما لم ير بُداً من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها . وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام ، ودخولهم فيه ، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب ، وعامة سكان الجزيرة العربية ، طوعاً أو كرهاً . وإنما هو الشرع الإسلاميّ ، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام ، كما منع من نقض العهد ، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع . لهذا ، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا ، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتعاملوا به في الجزيرة ، ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها ، بعد أن عوّضهم عن المال والعقار بمثله . وما زال الخلفاء بعده مبالغةً بالرفق بأهل الكتاب ، وقياماً بواجب السيادة العادلة ، ووفاء بعهد الله والرسول - يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين ، ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت . ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور : الأمر الأول : عدم إكراه النجرانيين على الإسلام ، مع تعيّن الخطر من وجودهم في جزيرة العرب ، لحداثة عهد أهلها بالإسلام ؛ ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية . والجهادُ الذي يعظم أمرَه أعداءُ المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه ، إلا جهاد مشركي العرب يومئذ ، فقد شرع لإرغامهم على الإسلام ، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير ، أهمها : تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية ، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب ، التي كانت وسطاً بين ممالك الشرق والغرب ، من آسيا وإفريقيا وأوربا ، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك ، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها ، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة والإشراف على تلك الممالك أيضاً ، قد كان ذلك كما هو معلوم . والأمر الثاني : عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود ، وتأكيدهم لعهد النجرانيين ، الواحد تلو الآخر ، على ضعف هؤلاء وقلتهم ، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطاتها ، وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة ، بل عن محض تمسك بالعهد ، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة ، وسلطان الإسلام ، من كل ملة ودين . والأمر الثالث : حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذميّ في نفسه وماله ، بتعويضه النجرانيين على أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم ، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم ، إلى غيرها من بلاد المسلمين . وقد ذُكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عَرْبَسُوسَ من ثغور الروم ، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين ، ونكثهم عهد الأمانة والصدق ، أمر بأن يعوّضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين . وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار الثابت ، والملك القديم ، للأقوام المغلوبين للمسلمين ، الخاضعين لسلطانهم ، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم ، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوماً من أرضهم ، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض . لا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة ، فحادوا عن طريق الشرع ، فإنه قد يصيب أفرادَ المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم ، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلاميّ الذي يأبى الظلم ، ويدعو إلى الرأفة والعدل ، هذا شان الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة . وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر ، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى ، وتستلزمه سلامة الملك والدين ، لا ما تدعو إليه شهوات الملك ، ورغبات الأمة الغالبة . وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم ، وأن أهل الذمة ما لهم ، وعليهم ما عليهم ، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم ، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى ، فتركوا لهم حرية التملك والدين ، لم ينازعوهم حقاً من حقوق المواطنة والجوار ، بل كانوا يعتبرونهم جزءاً من الدولة ، وعضواً من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل ، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية ، والحياة الوطنية . يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب الدواوين الخراج . وترجمة علوم اليونان ، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب إليهم ، واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم ، بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضواً من جسم هيأتهم الإجتماعية ، لا يجوز فصله في حال من الأحوال - أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام ، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ، ثم خضد المسلمون شوكة التتار في الشام ، ودان ملوكهم بالإسلام ، خاطب شيخُ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصر ، أميرَ التتار ( قطلوشاه ) بإطلاق الأسرى ، فسمح له بالمسلمين ، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإسلام : لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له - انتهى . ومنه يعلم شأن الحكم الإسلاميّ في أهل الذمة ، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم .