Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 34-35)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } أي : بالطريق المنكر من الرّشا في الأحكام والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك . و ( الأكل ) مجاز عن الأخذ ، بعلاقة العلّية والمعلولية ؛ لأنه الغرض الأعظم منه ، وفيه من التقبيح لحالهم ، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي : عن دين الإسلام وحكمه ، واتباع الدلائل ، إلى ما يهوون ، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل ، إلى ما افتروه وحرفوه . ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه ، على أمر الله ، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } أي : يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي : الذي هو الزكاة ، { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا } أي : يوقد عليها { فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ } أي : ويقال لهم ، ضمّاً إلى ما هم فيه ، هذا ما كنزتم { لأَنْفُسِكُمْ } أي : لتتلذذوا به ، فكان سبب تعذيبها { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي : وباله ، وهو ألمه ، وشدته بالكيّ . وفي هذه الآية فوائد الأولى : قال بعضهم : في قوله تعالى : { لَيَأْكُلُونَ } دلالة على تحريم الرشا على الباطل ، وقد ورد : " لعن الله الراشي والمرتشي " ، وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب ، وفي جواز الدفع للدافع ليتوصل إلى حقه خلاف . رجح الجواز ليتوصل إلى الحق ، كالاستفداء . قال الحاكم : يدخل في تحريم الرشا ، الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه ، وكل من حرّف شيئاً لغرض الدنيا . انتهى . الثانية : في الآية : كما قال ابن كثير : تحذير من علماء السوء ، وعبّاد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى . وفي الحديث الصحيح : " " لتركبن سَنَن من قبلكم حَذْوَ القذََّة بالقذَّةِ " قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : " فَمَنْ ؟ " ، وفي رواية : " فارس والروم ؟ قال : " ومَن الناس إلا هؤلاء ؟ " ثم أنشد لابن المبارك : @ وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملو كُ ، وأحبارُ سوء ورهبانُهَا @@ الثالثة : قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ } مبتدأ ، والخبر { يَكْنِزُونَ } أو منصوب تقديره : بشر الذين يكنزون . والتعريف في الموصول للعهد . والمعهود ، إما الأحبار والرهبان ، وإما المسلمون الكانزون ، لجري ذكر الفريقين ، وإما ما هو أعم . والأول رُوِي عن معاوية ، والثاني عن السدّيّ ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذرّ . قال الزمخشريّ : يجوز أن يكون الموصول إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير . ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً ، ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله ، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . انتهى . قال في ( الأنوار ) : ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبُر على المسلمين ، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم " - رواه أبو داود والحاكم وصححه - وقوله صلى الله عليه وسلم : " ما أدي زكاته فليس بكنز " - أخرجه الطبرانيّ والبيهقيّ - أي : ليس بالكنز المتوعَّد عليه في الآية ، فإن الوعيد على الكنز ، مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " ونحوه ، فالمراد منها : ما لم يؤد حقها ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، فيما أورده الشيخان : البخاريّ في تاريخه ، ومسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره " انتهى . وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية . روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبي ذر ، فقلت : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : كنت في الشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ … } فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة ، فقدمتها ، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال : إن شئت تنحيت ، فكنت قريباً . فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أُمِّر عليّ عبد حبشيّ لسمعت وأطعت . ولابن جرير في رواية ( بعد قول عثمان له : تنح قريباً ) قلت : والله لن أدع ما كنت أقول . وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول : لا يبيتنّ عند أحدكم دينار ولا درهم ، إلا ما ينفقه في سبيل الله ، أو يعدّه لغريم . فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام حاجة ، فابعث إلى أبي ذرّ ، فكتب إليه عثمان أن أقدم عليّ ، فقدم . قال ابن كثير : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته . فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثم أنزله بالربذة : وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان . وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ، فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب . فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به . وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين بِرَضْف يحمى عليه في نار جهنم ، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نُغْضِ كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه ، يتزلزل . قال : فوضع القوم رؤوسهم ، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً . قال : وأدبر واتبعتُه حتى جلس إلى سارية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً ، إنما يجمعون الدنيا - رواه مسلم ، وللبخاريّ نحوه - . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : " ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً ، يمر عليّ ثلاثة أيام ، وعندي منه شيء ، إلا دينار أرصده لدين " . قال ابن كثير : فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا . أي : وما أخرجه الشيخان أيضاً عنه ، قال : " انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : " هم الأخسرون ورب الكعبة ! " قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقارّ حتى قمت فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : " هم الأكثرون أموالاً ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم " " . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوساً . قال : قلت : لو ادخرته لحاجة بيوتك ، وللضيف ينزل بك . قال : إن خليلي عهد إليّ أن أيّما ذهب أو فضة أوكئ عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله عزّ وجلّ إفراغاً . قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة ، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت ، وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابيّ حيث قال : هل عليّ غيرها ؟ قال : " لا ، إلا أن تَطَوَّعَ " . انتهى . وبالجملة ، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدّ زكاته . وقد ترجم لذلك البخاريّ في ( صحيحه ) فقال : ( باب ما أدِّي زكاته فليس بكنز ) . ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً : " إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك " - حسنه الترمذي وصححه الحاكم . وعن ابن عمر : كلّ ما أديت زكاته ، وإن كان تحت سبع أرضين ، فليس بكنز وكلّ ما لا تؤدي زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهراً على وجه الأرض - أورده البيهقيّ مرفوعاً ، ثم قال : المشهور وقفه ، كحديث جابر : " إذا أديت زكاة مالك ، فقد أذهبت عنك شره " أخرجه الحاكم ، والمرجح وقفه . هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز . روى البخاريّ في ( صحيحه ) أن أعرابياً قال لابن عمر : أخبرني عن قول الله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ … } الآية - قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها ، فويل له . إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال : زاد ابن ماجة : ثم قال ابن عمر : ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً ، أعلم عدده ، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى . ورواه أبو داود في كتاب ( الناسخ والمنسوخ ) . فهذا يشعر بأن الوعيد على الإكتناز - وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به - كان في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة ، لما فتح الله الفتوح ، وقدّرت نصب الزكاة . ويشعر أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة ، وجزم به ابن الأثير في ( تاريخه ) ، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عاملاً فقال : ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية . وأقول : إنما وجبت في التاسعة . وأقول : هذا الحديث ضعفوه ، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا ، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً . قال ابن حجر في ( الفتح ) : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر ، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] أي : ما فضل عن الكفاية ، فكان ذلك واجباً في أول الأمر ، ثم نسخ - والله أعلم . وفي المسند من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول . وما سقناه من مذهب أبي ذر ، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث . وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال : الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين ، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم ، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين ، فكلهم داخل تحت ذلك الحكم . قال : والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين ، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام ، والوالي عليها ، من قِبَل الخليفة عثمان ، معاوية رضي الله عنهما ، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال ، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين ، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين ، يقول الحق ولو على نفسه - أخذ يتكلم بهذا الأمر بين الناس واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين ، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال ، لأي حال من الأحوال ، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين وتابعه على قوله جماعة كثيرون ، كانوا يجتمعون لهذا القصد سرّاً وجهراً ، حتى كادت تكون فتنة ، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، فنفاه إلى الربذة خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه . انتهى . ونقل ما يقرب منه ابن حجر في ( الفتح ) حيث قال : والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه . الرابعة : إنما قيل : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } بضمير المؤنث ، مع أن الظاهر التثنية ، إذ المذكور شيئان ؛ لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزاً ، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ، ولو ثنّى احتمل خلافه . وقيل : الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام ، فيكون الحكم عامّا ، ولذا عدل فيه عن الظاهر . وتخصيصهما بالذكر ، لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص . وقيل : الضمير للفضة ، واكتفى بها ؛ لأنها أكثر ، والناس إليها أحوج ؛ ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى ، مع قربها لفظاً . الخامسة : في قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُمْ } تهكم بهم ، كما في قوله : @ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ @@ وقيل : البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة ، لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغم . السادسة : قيل في تخصيص هذا الأعضاء الثلاثة بالكيّ دون غيرها ، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية ، والملابس البهية ، فَلِوَجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم ، كان الكيّ بجباههم ، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ، ولما لبسوه على ظهورهم كويت . وقيل : لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع ، فتكلح وجوههم ، وتقطب . ثم إذا كرر الطلب ازورّوا عنه وتركوه جانباً ، ثم إذا ألحّ ولَّوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى ، وهي النهاية في الرد ، والغاية في المنع ، الدال على كراهية الإعطاء والبذل . وهذا دأب مانعي البر والإحسان ، وعادة البخلاء ، فكان ذلك سبباً لكيّ هذه الأعضاء . وقيل : لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة ، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه ، فيكون كناية عن جميع البدن . وقال القاشانيّ : جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح ، وحب المال ، وكل رذيلة لها كيّة يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا . ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال ، كان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة ، وهاوية الهوى ، فيكوى به . وإنما خصت هذه الأعضاء ، لأن الشحّ مركوز في النفس ، والنفس تغلب القلب من هذه الجهات ، لا من جهة العلوّ التي هي جهة استيلاء الروح ، وممرّ الحقائق والأنوار ، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية ، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك ، فبقيت سائر الجهات ، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب ، كما تراه يعاب بها في الدنيا ، ويخزى من هذه الجهات أيضاً ، إما بأن يواجه بها جهراً فيفضح ، أو يسارّ بها في جنبه ، أو يغتاب بها من وراء ظهره . انتهى . السابعة : قال أبو البقاء : { يَوْمَ } من قوله تعالى : { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا } ظرف على المعنى ، أي : يعذبهم في ذلك اليوم . وقيل : تقديره عذاب يوم ، وعذاب بدل من الأول ، فلما حذف المضاف أقام ( اليوم ) مقامه . وقيل : التقدير اذكروا ، و { عَلَيْهَا } في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل . وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، أي : يحمى الوقود أو الجمر ، و ( بها ) أي : بالكنوز . وقيل هي بمعنى ( فيها ) ، أي : في جهنم وقيل : { يَوْمَ } ظرف لمحذوف تقديره : يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم . ا هـ . ولما بيّن تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثاراً لحظوظهم ، أتبعه بما جرأ عليه المشركون في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها ، وهو النسيء الآتي ، وقوفاً مع شهواتهم أيضاً ، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنَة بحسب أهوائه ، وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم ، فقال سبحانه : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ … } .