Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 5-5)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَإِذَا ٱنسَلَخَ } أي : انقضى { ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } أي : التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض ، وحرم فيها قتالهم { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي : من حِلٍّ أو حرمٍ - كذا قاله غير واحد - قال ابن كثير : هذا عامّ ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ] ، { وَخُذُوهُمْ } أي : ائسروهم { وَٱحْصُرُوهُمْ } أي : احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد { وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ } أي : لقتالهم { كُلَّ مَرْصَدٍ } أي : طريق وممرّ { فَإِن تَابُواْ } أي : عن الكفر { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : فاتركوا التعرض لهم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر . تنبيهات الأول : ما ذكرناه من أن المراد { ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } أشهر العهد ، هو الذي اختاره الأكثرون . سماها ( حرماً ) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم ، فالألف واللام للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيداً لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها . وقيل : المراد ( الأشهر الحرم ) : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر ، واختاره ابن جرير . وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ؛ لأنه يأباه ترتبه عليه ( بالفاء ) فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر . قال ابن القيم : { ٱلْحُرُمُ } هاهنا هي أشهر التسيير ، أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر . وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو العقدة وتالياه . ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ؛ لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . انتهى . وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر ، وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن هذا الإجماع كلاماً ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في ( العناية ) . وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حلّه معلوماً من دليل آخر . وأقول : يظهر لي ترجيح هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع . قال في ( فتح البيان ) : ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم ، التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوماً ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم . انتهى . ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوماً ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة ، بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إن الزمان قد استدار … " الحديث ، لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذو الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، المحرم ، فعوملوا بحسابهم . الثاني : قال السيوطيّ في ( الإكليل ) في قوله تعالى : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } : هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة . انتهى . وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [ محمد : 4 ] وردّه الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ؛ ومقتضى كلام الحاكم أنها لا ناسخة ولا منسوخة . قال : لأن الجمع ، من غير منافاة ، ممكن ، فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير ، وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتماً ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل . انتهى . ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : { وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم . الثالث : فهم من قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ … } الآية - أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل ، جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر . ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذه الآية الكريمة وأمثالها . قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه . وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " . وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم " رواه البخاريّ وغيره . الرابع : ذكر ابن القيّم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين من حين بعث ، إلى حين لقي الله عز وجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة ، قال رحمه الله : أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } [ المدثر : 1 - 2 ] فنبأه بقوله : { ٱقْرَأْ } [ العلق : 1 ] ، وأرسله بـ { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] ، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ، ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن لم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده . ولما نزلت سورة ( براءة ) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام . وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً : أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً : لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً : لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . فقتل الناقض لعهده ، وأجّل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقرّ أمر الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن . وخائف محارب . وأما سيرته في المنافقين : فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويَكِلَ سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلّي عليهم وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين . انتهى .