Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 94, Ayat: 1-4)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } أي : ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه ، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام ، وتأييده وعصمته ، حتى علم ما لم يعلم وصار مستقر الحكمة ووعاء حقائق الأنباء ، والهمزة لإنكار النفي . ونفي النفي إثبات . ولذا عطف المثبت عليه . وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه ، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه ، وما خفي منه . استعمل في القلب الشرح والسعة ، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده . فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه ، شرحاً وتوسيعاً . وذلك أنه بالإلهام ونحوه ، مما ينفس كربه ويزيل همه ، بظهور ما كان غائباً عنه وخفيّاً عليه ، مما فيه مسرته . كما يقال ( شرح الكتاب ) إذا وضحه . ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه ؛ لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه . ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطاً . ثم سموا ضده ضيقاً وقبضاً . وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط ، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط - هذا ما حققه الشهاب . { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } قال الشهاب : الوزر : الحمل الثقيل . ووضعه : إزالته عنه . لأنه إذا تعدى بـ ( على ) كان بمعنى التحميل . وإذا تعدى بـ ( من ) كان بمعنى الإزالة . والإنقاض : حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر . وقيل : صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه . فالإنقاض : التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض ، أي : صوت ، كما قاله الأزهريّ . وقال ابن عرفة : هو إثقال يجعل ما حمل عليه نقضا . أي مهزولاً ضعيفاً . وقد مثل بذلك حاله صلوات الله عليه ، مما كان يثقل عليه ويغمه من قلة المستجيبين لدعوته ، وضعف من سبق إلى الإيمان به ، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب ، وقوة أهلها . ووضعه عنه هو كثرة من آمن بعدُ ، ودخولهم في دين الله أفواجاً ، وقوة أتباعه وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة ، وذل أهلها بعد العز ، وانقيادهم بعد شدة الإباء . وقيل : الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام كقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] . والوجه الأول أقوى ، وفي الآية على كلٍّ استعارة تمثيلية . والوضع ترشيح لها { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } أي : بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطاً في قبول الإيمان وصحته . وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة . فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله . وعن مجاهد : أي : لا أذكر إلا ذكرت معي . قال الشهاب وهذا - أي المأثور عن مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع . فإنه كم ذكر الله وحده ! وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده ! وإن عين موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح . وإن جعلت القضية مهملة ، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة . قال : وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر ، ويردّ السائل غير صقر ، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال : الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها . فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب . فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك . فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام ، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها ، فتتجه الكلية . فإن قلت : من أين لك هذا التقييد ، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح ؟ قلت : المقام ناطق بهذا القيد . فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره الدال على قربه صلى الله عليه وسلم من ربه ، كقرب اسمه من اسمه ، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد ، وأي إشاعة أقوى من الأذان ؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر . ثم قال : واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعيّ في أول ( رسالته الجديدة ) وبينه السبكيّ في تعليقة على الرسالة فقال رحمه الله تعالى : قال الإمام رضي الله تعالى عنه عن مجاهد في تفسير الآية : لا أذكر إلا ذكرت معي : أشهد أن لا إله إلا الله . وأشهد أن محمدا رسول الله . قال الشافعي : يعني : ذكره عند الإيمان بالله والأذان ، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية . قال السبكي : هذا الاحتمال من الشافعي جيد جدّاً . وهو مبني على أن المراد بالذكر : الذكر بالقلب ، وهو صحيح . فعلى هذا يعم ؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكاف عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ، ذاكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم بقلبه ، لأنه المبلغ لها عن الله . هذا أعم من الذكر باللسان ، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها . قال الشافعي : فلم تُمْسِ بنا نعمة ظهرت ولا بطنت ، نلنا بها حظّاً في دين أو دنيا . أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما ، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها . فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره ، حمل الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة ، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله ، تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قيل : @ فأنت باب الله . أيّ امرئ أتاه من غيرك لا يدخل ؟ @@ ولك أن تقول : المراد برفع ذكره : تشريفه صلى الله عليه وسلم ، بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة ، وأولها كلمتا الشهادة ، وهما أساس الدين ثم الأذان والصلاة والخطب . فالحصر إضافيّ . انتهى كلام الشهاب .