Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 94, Ayat: 5-8)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } إشارة إلى أن الذي منحه ، صلوات الله عليه ، من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر ، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير ، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة . وهو أن مع العسر يسراً . ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب . ( وأل ) في { ٱلْعُسْرِ } للاستغراق ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه . فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدو ، وقلة الوسائل إلى المطلوب . ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف . فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت ، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها ، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل على ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل ، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة ، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى ، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة . وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم . فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك ، وهو الوحي والنبوة . ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه . بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر ، والقوة في الضعف ، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة ، وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً . أفاده الإمام رحمه الله . لطيفة تنكير { يُسْراً } : للتعظيم . والمراد : يسر عظيم وهو يسر الدارين . وفي كلمة { مَعَ } إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر ، كأنه مقارن للعسر . فهو استعارة ، شبه التقارب بالتقارن ، فاستعير لفظ { مَعَ } لمعنى ( بعد ) . وقوله تعالى : { إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } تكرير للتأكيد ، أو عِدَةٌ مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة . وعليه أثر : " لن يغلب عسر يسرين " فإن المعرَّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول ، سواء كان معهوداً أو جنساً . وأما المنكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول . { فَإِذَا فَرَغْتَ } أي : من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك { فَٱنصَبْ } أي : خذ في عمل آخر واتعب فيه . فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل ، قاله الإمام . { وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } أي : في الدعوة إليه . أي لا ترغب إلا إلى ذاته ، دون ثواب أو غرض آخر ، لتكون دعوتك وهدايتك إليه ، قاله القاشاني . وقال ابن جرير : اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه . إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد ، والأظهر عندي ، اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل - أن يكون معنى قوله تعالى { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ } أي : فرغت من مقارعة المشركين ، وظفرت بأمنيتك منهم ، بمجيء نصر الله والفتح ، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار ، شكراً لله على ما أنعم ، وأرغب إليه خاصة ابتغاءً لمرضاته . فتكون الآيتان بمعنى سورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [ النصر : 1 ] ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال : فإذا فرغت من الجهاد ، جهاد العرب وانقطع جهادهم ، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب . وهو ظاهر . نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعه . إلا أن السياق والنظائر - وهو أهم ما يرجع إليه - يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه . والله أعلم .