Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 95, Ayat: 1-3)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكة المشرفة ، الآمن أهلها أن يحاربوا . كما قال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وأما المقسمات بها قَبْلُ ، ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها . فعن مجاهد والحسن وغيرهما أن { ٱلتِّينِ } الذي يؤكل و { ٱلزَّيْتُونِ } الذي يعصر . قالوا : وخصهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما . وعن قتادة { ٱلتِّينِ } الجبل الذي عليه دمشق و و { ٱلزَّيْتُونِ } الذي عليه بيت المقدس . وعن كعب وابن زيد : { ٱلتِّينِ } مسجد دمشق و { ٱلزَّيْتُونِ } بيت المقدس وعن ابن عباس : { ٱلتِّينِ } مسجد نوح الذي بنى على الجوديّ و { ٱلزَّيْتُونِ } بيت المقدس . فظهر أنهما الشجران المعلومان أو جبلان أو مسجدان . وصوب ابن جرير الأول منها ، وعبارته : والصواب من القول في ذلك عندنا ، قول من قال { ٱلتِّينِ } هو التين الذي يؤكل و { ٱلزَّيْتُونِ } هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت ؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب . ولا يعرف جبل يسمى تيناً ولا جبل يقال له زيتون ، إلا أن يقول قائل : أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون ، والمراد من الكلام ، القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة في ظاهر التنزيل ولا من قول لا يجوِّز خلافهُ ؛ لأن دمشق بها منابت التين ، وبيت المقدس منابت الزيتون : انتهى كلامه . وفيه نظر ؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ . كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين ، معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد . قال صاحب ( الذخيرة ) في تعداد جبال فلسطين : ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون . قال : وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه ، وهو قريب المسافة من أورشليم ، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء . انتهى . ويسمى أيضاً طور زيتا إلى الآن . على أن فيما صوبه ابن جرير ، تبقى المناسبة بينهما وبين طور سنين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد - غير مفهومة . كما قاله الإمام فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم ، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة . قال ابن كثير : وقال بعض الأئمة : هذه محال ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيّاً مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار . فالأول : محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام . والثاني : طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران . والثالث : مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً ، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم . وفي التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء : يعني الذي كلم الله عليه موسى . وأشرق من ساعير : يعني : جبل بيت المقدس الذي بعث الله عنه عيسى . واستعلن من جبال فاران : يعني : جبال مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى الله عليه وسلم . فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان . ولهذا أقسم بالأشرف ، ثم الأشرف منه ، ثم بالأشرف منهما . انتهى كلام ابن كثير . ومراده ببعض الأئمة ، شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان . فإنه ذكر ذلك في كتابه ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) ونحن ننقلها زيادة في إيضاح المقام ، واهتماماً بتحقيقه . قال رحمه الله ( فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم ) : وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية : جاء الله من طور سيناء . وبعضهم يقول في الترجمة : تجلى الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران . قال كثير من العلماء ( واللفظ لأبي محمد بن قتيبة ) : ليس بهذا خفاء على من تدبره . ولا غموض ؛ لأن مجيء الله من طور سيناء ، إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء . كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا . وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير ، إنزاله على المسيح الإنجيل . وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى . وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران ، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبال فاران . وهي جبال مكة . قال : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة . فإن ادعوا أنها غير مكة - وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم - قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران ؟ وقلنا : دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران ، والنبيّ الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح . أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد وهما : ظهر وانكشف . فهل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه ؟ ؟ وقال أبو هاشم بن طفر : ساعير : جبل بالشام ، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام . قلت : وبجانب بيت لحم - القرية التي ولد فيها المسيح - قرية تسمى إلى اليوم ساعير . ولها جبال تسمى جبال ساعير ، وعلى هذا فيكون ذكر الثلاثة الجبال : جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه ، وفيه كان أول نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحوله من الجبال جبال كثيرة . وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم . وفيه كان ابتداء نزول القرآن . والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران . ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح ، نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ، ولا بعث نبيّ . فعلم أن ليس المراد باستعلانه من جبال فاران ، إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم . وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزمانيّ . فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن ، وهذه الكتب نور الله وهداه . وقال في الأول : جاء أو ظهر ، وفي الثاني : أشرق . وفي الثالث : استعلن . وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك . ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى . وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء ؛ ولهذا قال : واستعلن من جبال فاران . فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في شرق الأرض وغربها ، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين ، كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها . ولهذا سماه الله سراجاً منيراً . وسمى الشمس سراجاً وهاجاً . والخلق محتاجون إلى السراج المنير ، أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج . فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت . بل قد يتضررون به بعض الأوقات . وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في كل وقت ، وكل مكان ، ليلاً ونهاراً ، سرّاً وعلانية . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " زُوِيَتْ لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها . وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " وهذه الأماكن الثلاثة ، أقسم الله بها في القرآن في قوله : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } فأقسم بالتين والزيتون ، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل . وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى وناداه فيه ، من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة - وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل ، وأمه هاجر فيه . وهو الذي جعله الله حرماً آمناً ويتخطف الناس من حوله . وجعله آمناً خلقاً وأمراً ، قدراً وشرعاً . ثم قال ( ابن تيمية ) : فقوله تعالى : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة . التي ظهر فيها نوره وهداه ، وأنزل فيها كتبه الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن . كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران . ولما كان ما في التوراة خبرا عنها ، أخبر بها على ترتيبها الزماني ، فقدم الأسبق فالأسبق . وأما في القرآن ، فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها . وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله . فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة . فختمها بأعلى الدرجات . فأقسم أولا بالتين والزيتون ، ثم بطور سينين ، ثم بمكة ؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل . وكذلك الأنبياء ، فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله : { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً * فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ الذاريات : 1 - 4 ] فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة . فأقسم بالرياح الذاريات ، ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ، ثم بالجاريات يسراً ، وقد قيل : إنها السفن ، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] فسماها جواري كما سمى الفلك جواري في قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [ الشورى : 32 ] والكواكب فوق السحاب ثم قال : { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ الذاريات : 4 ] وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله . واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى : { وَٱلتِّينِ } يعني به شجرة ( بوذا ) مؤسس الديانة البوذية ، التي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقيّ ؛ لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه . وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية . ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها . ثم قال : والراجح عندنا ، بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية ، أنه كان نبيّاً صادقاً ويسمى ( سكياموتي ) أو ( جوناما ) وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي . وأرسله الله رسولاً . فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه . ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين ، وتسمى عندهم ( التينة المقدسة ) وبلغتهم ( أجا بالا ) . قال : ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم . فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] إلى آخر السورة . قال : ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عدداً وأرقاهم . والترتيب في ذكرها في الآية ، هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى . فبدأ تعالى بالقَسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها . كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير ، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى . ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفاً . ثم اليهودية وهي أصح من النصرانية ، ثم الإسلامية وهي أصحها جميعاً وأبعدها عن التحريف والتبديل بل إن أصولها ، الكتاب والسنة العملية المتواترة ، لم يقع فيها تحريف مطلقاً . ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ، ذكر ديني الفضل ( البوذية والمسيحية ) أولاً ثم ديني العدل ( اليهودية والإسلامية ) ثانيا للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولاً . ثم تربية الشدة والعدل . وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب . ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما . وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما . فلذا جمع الأولان معاً والآخران كذلك . وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى . كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه ، ومن محاسن الآية أيضاً : الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة ، وإلى ديني العدل : بالجبل والبلدة الجبلية ( مكة ) وهي البلد الأمين . ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيراً في أودية الجبال ، كما في جبل الزيتون بالشام وطور سيناء ، وهما مشهوران بها . فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي ، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة ، الذين بقيت شرائعهم للآن ، وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم . انتهى بحروفه . والله أعلم . لطيفة لم ينصرف { سِينِينَ } كما لا ينصرف ( سيناء ) لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض . فهو علم أعجمي . ولو جعل اسماً للمكان أو المنزل ، أو اسماً لمذكر لا ينصرف ؛ لأنك سميت به مذكراً . وقرأ العامة { سِينِينَ } بكسر السين . وقرأ بعض السلف بفتحها . وآخرون ( سيناء ) بالكسر والفتح ممدوداً . قال السمين : وهذه لغات اختلف في هذا الإسم السرياني ، على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية .