Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 96, Ayat: 1-5)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } أي : اقرأ ما يوحى إليك من القرآن ملتبساً باسمه تعالى . أي مبتدئاً به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء . قال أبو السعود : والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية ، والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام ، للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية ، من الكمالات البشرية ، بإنزال الوحي المتواتر . ووصف الرب بقوله تعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَ } لتذكير أول النعماء الفائضة عليه صلى الله عليه وسلم منه تعالى . والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة ، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية ، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات ، قادر على تعليم القراءة للحيّ العالم المتكلم - أي : الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء . وقال الإمام : ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى : كن قارئاً باسم الله من قبيل الأمر التكويني . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئاً ولا كاتباً . ولذلك كرر القول مراراً : " ما أنا بقارئ " وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئاً وإن لم يكن كاتباً . فإنه سينزل عليه كتاب يقرؤه . وإن كان لا يكتبه . ولذلك وصف الرب بالذي خلق ، أي الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف ، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها ؛ لأنك لم تكن تدري ما الكتاب . فكأن الله يقول : كن قارئاً بقدرتي وبإرادتي وإنما عبر بالاسم ، لأنه كما سبق في ( سورة سبح ) دال على ما تعرف به الذات ، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعاً ؛ لأن القراءة علم في نفس حية . فهي تخطر ببالك من الله وجوده وعلمه وقدرته وإرادته . أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا : إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ : باسم الله ، وهو خلاف المتبادر ، فيكون معنى ذلك : إذا قرأت فاقرأ دائما على أن تكون قراءتك عملا تنفذه لله لا لغيره فلو فرض أنه قرأ وجعل قراءته لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم ، فهو قارئ باسم الله . وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل ، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل . ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه . انتهى . وهو جيد { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } أي : دم جامد . وهي حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه . وتخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات ، لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وتفخيما لشأنه . إذ هو أشرفها وإليه التنزيل . وهو المأمور بالقراءة ، وإنما قال { عَلَّقَ } دون ( علقة ) كما في الآية الأخرى ، لرعاية الفواصل ؛ ولأن ( الإنسان ) مراد به الجنس . فهو في معنى الجمع . فلذا جمع ما خلق منه ليطابقه . وخص العلق دون غيره من التارات . لأنه أدل على كمال القدر من المضغة . مع استلزامه لما تقدمه . ومع رعاية الفواصل . قال الإمام : أي : ومن كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنساناً ، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية ، ويسخرها لخدمته ؛ يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً . وإن لم يسبق له تعلم القراءة . وجاء بهذه الآية بعد سابقتها ، ليزيد المعنى تأكيداً . كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ : أيقن أنك قد صرت قارئاًً بإذن ربك الذي أوجد الكائنات ، وما القراءة إلا واحدة منها . والذي أنشأ الإنسان خلقاً كاملاً من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة . وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الإنسان الكامل . فهي أولى بسهولة الإيجاد ، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار والتعود على ما جرت به العادة في الناس ، ناب تكرار الأمر الإلهيّ عن تكرار المقروء ، في تصييرها ملكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم . فلهذا كرر الأمر بقوله : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ } وجملة { وَرَبُّكَ } إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء . فيسيرٌ عليه أن يفيض عليك هذه النعمة ، نعمة القراءة من بحر كرمه . ثم أراد أن يزيده اطمئناناً بهذه الموهبة الجديدة ، فوصف مانحها بأنه { ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } أي : أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان . والقلمُ : آلة جامدة لا حياة فيها ، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام . فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان ، ألا يجعل منك قارئاً مبيناً وتاليا معلماً وأنت إنسان كامل ؟ ؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه ، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئاً ، فقال : { عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } أي : إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئاً ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها مبلغاً لم يبلغه سواك ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئاً ، فهل يستغرب من هذا المعلِّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة ، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها ؟ ؟ انتهى . تنبيهات الأول : قال الإمام ابن القيم في ( مفتاح دار السعادة ) في مباحث عجائب الإنسان وما في خلقه من الحكم : ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين . البيان النطقيّ والبيان الخطيّ وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد . فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها ، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه . فذكر أولا عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجيّ . ثم ذكر ثانياً خصوص خلق الإنسان لأنه موضع العبرة . والآية فيه عظيمة . ومن شهوده عما فيه محض تعداد النعم . وذكر مادة خلقه ههنا من العلقة . وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها . أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار ، أو مادة الفرع وهو الماء المهين . وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة . فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة . ثم ذكر ثالثاً التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده . إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس ، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين . ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، ودرست السنن وتخبطت الأحكام ، ولم يعرف الخلق مذاهب السلف . وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم ، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم . فجعل لهم الكتاب وعاء حافظاً للعلم من الضياع ، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان . فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن ، من أجلِّ النعم . والتعليم به ، وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة ، فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه ، وفضل أعطاه الله إياه ، وزيادة في خلقه وفضله . فهو الذي علمه الكتابة ، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم . فإنه علمه فتعلّم . كما أنه علمه الكلام فتكلم . هذا ، ومن أعطاه الذهن الذي يعي به ، واللسان الذي يترجم به والبنان الذي يخطّ به ، ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات ، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه ، ومن الذي دعم البنان بالكف ، ودعم الكف بالساعد . فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم . فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد ، ووضعته على القرطاس وهو جماد ، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر ، وجوابات المسائل . فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك ، ورسمها في ذهنك ، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشاً عجيباً ، معناه أعجب من صورته ، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك ، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة ، فيقوم مقامك ، ويترجم عنك . ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك ، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله ، سوى من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ؟ والتعليمُ بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة : مرتبة الوجود الذهنيّ ، والوجود اللفظيّ ، والوجود الرسميّ . فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب . ودل قوله : { خَلَقَ } على أنه يعطي الوجود العينيّ . فدلت هذه الآيات ، مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها ، على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقاً وتعليما . وذكر خلقتين وتعليمين خلقا عاما وخلقا خاصا . وتعليماً خاصّاً وتعليما عاما . وذكر من صفاته ههنا اسم { ٱلأَكْرَمُ } الذي هو فيه كل خير وكل كمال . فله كل كمال وَصْفا ، ومنه كل خير فعلاً . فهو { ٱلأَكْرَمُ } في ذاته وأوصافه وأفعاله . وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه ، لا من حاجة دعته إلى ذلك ، وهو الغنيّ الحميد . الثاني : قال الإمام : لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه ، من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات . فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدي ، ولم ينبهم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل ، وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ، فلا أرشدهم الله أبداً . الثالث : قال الرازي : في قوله : { بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة . وفي قوله : { ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع . فالأول كأنّه إشارة إلى معرفة الربوبية . والثاني إلى النبوة . وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية .