Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 5-6)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في هاتين الآيتين المنزلتين إرشاد إلى أنواع كثيرة من آيات الله الكونية الدالة على قدرته على البعث والجزاء وكونه من مقتضى حكمته ، واطراد النظام التام في جميع خلقه ، وهذه الآيات تفصيل لما أجمل في الآية الثالثة في خلق السماوات والأرض ، واستواء الخالق على عرشه يدبر الأمر ، ويقيم النظام في الخلق ، التي سيقت للاستدلال على التوحيد وحقية الوحي . { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } الضياء اسم مصدر من أضاء يضيء وجمع ضوء ، كسياط وسوط وحياض وحوض ، وقرأ ابن كثير ( ضئاء ) على القلب بتقديم لام الكلمة على عينها . قال في القاموس وشرحه : ( الضوء ) هو ( النور ويضم ) وهما مترادفان عند أئمة اللغة ، وقيل الضوء أقوى من النور قاله الزمخشري ولذا شبه الله هداه بالنور دون الضوء وإلا لما ضل أحد وتبعه الطيبي واستدل بقوله تعالى جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وأنكره صاحب الفلك الدائر وسوى بينهما ابن السكيت ، وحقق في الكشف أن الضوء فرع النور وهو الشعاع المنتشر ، وجزم القاضي زكريا بترادفهما لغة بحسب الوضع ، وأن الضوء أبلغ بحسب الاستعمال ، وقيل الضوء يكون بالذات كضوء الشمس والنار ، والنور يكون بالعرض والاكتساب من الغير ، هذا حاصل ما قاله شيخنا رحمه الله تعالى ، وجمعه أضواء ( كالضواء والضياء بكسرهما ) لكن في نسخة لسان العرب ضبط الأول بالفتح والثاني بالكسر ، وفي التهذيب عن الليث : الضوء والضياء ما أضاء لك ، ونقل شيخنا عن المحكم أن الضياء يكون جمعاً أيضاً ، قلت هو قول الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } [ البقرة : 20 ] اهـ . وأقول : يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله تعالى : { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] وقوله { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] والسراج ما كان نوره من ذاته واستبعد بعض المفسرين قول الزجاج إن الضياء في الآية جمع ضوء لأن المناسب لكون القمر نوراً أن يكون الضياء مفرداً مثله . وجهل هذا المستبعد وأمثاله ما يعلمه الله تعالى من أن شعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي يراها الناس في قوس السحاب فهو سبعة أضواء لا ضوء واحد ، فهذا التعبير من مفردات القرآن الكثيرة التي كشف لنا ترقي العلوم الطبيعية والفلكية من المعنى فيها ما كان الناس أو العرب يجهلونه في عصر التنزيل كتعبيره عن كل نوع من النبات بأنه موزون ، وتقدم بيانه في مباحث الوحي . { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } التقدير جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو الذوات أو الصفات ، قال تعالى : { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } [ المزمل : 20 ] وقال في القرى التي كانت بين سبأ والشام { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } [ سبأ : 18 ] وقال في المقادير العامة { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] والمنازل أماكن النزول جمع منزل ، والضمير للقمر كما قال في سورة يس : { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [ يس : 39 ] أي قدر له أو قدر سيره في فلكه في منازل ينزل في كل ليلة في واحد منها لا يخطئه ولا يتخطاه ، وهي ثمانية وعشرون منزلاً معروفة تسميها العرب بأسماء نجومها المحاذية لها وهي الشرَطان . البُطينُ . الثُّرَيَّا . الدَّبَرَان . الهقْعَةٌ . الهنْعةٌ . الذِّراعُ . النَّثْرَة . الطَّرْف . الجبهْة . الزُّبْرة ، الصَّرْفة . العَوَّاءُ . السِّماك . الأعزل . الغَفرْ . الزُّباني . الإِكليل . القَلْب . الشَّوْلة . النَّعائم . البَلْدة . سَعْد الذَّابح . سَعْد بُلعُ . سَعْد السُّعود . سعدْ الأخبية . فرْغُ الدَّلو المقدم . فرْغُ الدَّلو المؤخر . ( ويسميان الفرغ الأول والفرغ الثاني ) . الرِّشاء . ويراجع مسميات هذه الأسماء في معاجم اللغة وكتب الفلك من شاء . فهذه المنازل هي التي يرى فيها القمر بالأبصار ، ويبقى من الشهر ليلة إن كان 29 وليلتان إن كان 30 يوماً يحتجب فيهما فلا يرى . { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } أي لأجل أن تعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم الدينية والمالية والمدنية ، فلولا هذا النظام المشاهد لتعذر على الأميين من أهل البدو والحضر العلم بذلك ، لأن حساب السنين والشهور الشمسية فن لا يعلم إلا بالدراسة ، ولذلك جعل الشرع الإسلامي العام للبدو والحضر شهر الصيام وأشهر الحج وعدة الطلاق ومدة الإيلاء وغير ذلك بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة ، فلا يتوقف على علم فني لا يكاد يوجد إلا في بلاد الحضارة . ولعبادتي الصيام والحج حكمة أخرى وهي دورانهما في جميع الفصول ، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة . وهذا لا يمنع أهل العلم من الانتفاع بالحساب الشمسي وله فوائد أخرى ، وقد أرشدهم إليه في سورة الرحمن { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] وفي سورة الإسراء { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [ الاسراء : 12 ] وفي هذه الآيات ترغيب في علم الهيئة والجغرافية الفلكية وقد برع فيهما أجدادنا بإرشادها . ثم قال : { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لنظامها ، فتبث الحرارة والحياة في جميع الأحياء فيهن ، وجعل لكل ضوء منها من الخواص ما ليس للآخر . ويبصر الناس فيها جميع المبصرات فيقومون بأمور معايشهم وسائر شؤونهم ، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة في سراهم وغيرهم ، وقدره منازل يعرف بها جميع الناس السنين والشهور - ما خلق ذلك إلا متلبساً ومقترناً بالحق ، الذي تقتضيه الحكمة العامة لحياة الخلق ، ونظام معايشهم ومنافعهم ، فليس فيه عبث ولا خلل بل ظهر للبشر في هذا العصر من أسرار الضوء وحكمه ما صار به علماً واسعاً تحار العقول في نظمه وحكمه ، من أصغر ذراته إلى أعظم مجامع نيراته ، فكيف يعقل من هذا الخالق الحكيم ، أن يخلق هذا الإنسان في أحسن تقويم ، ويعلمه البيان ، ويعطيه ما لم يعط غيره في عالمه ؛ من الاستعداد لإظهار ما لا يحصى من حكمه ، وخواص خلقه ، وسننه في عباده ، ويجعل مدار سعادته وشقائه على ما أعطاه من علم وإرادة ، ثم يتركه بعد ذلك سدى ، يموت ويفنى ، ثم لا يبعث ولا يعود ، ليجزى المرتقون منه في معارج الكمال من المعارف الإلهية والفضائل النفسية والأعمال الصالحة بإيمانهم وصفاتهم وأعمالهم ، وليجزى المشركون الخرافيون ، والظالمون المجرمون ، بكفرهم وجرائمهم ومفاسدهم ، وإننا نرى كثيراً منهم أنعم في الدنيا معيشة من الصالحين المصلحين ؟ { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35 - 36 ] و { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] . { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } استئناف لبيان المنتفعين بهذه الحجج أي نبين الدلائل من حكم خلقنا ، على ما أوحيناه إلى رسولنا من أصول العقائد وأحكام الشرائع ، مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون وجوه دلالة الدلائل ، والفرق بين الحق والباطل ، باستعمال عقولهم في فهم هذه الآيات ، فيجزمون بأن من خلق هذين النيرين وما فيهما من النظام بالحق ، لا يمكن أن يكون خلقه لهذا الإنسان العجيب عبثاً ، ولا أن يتركه سدى ، وفي الآية تنويه بفضل العلم وكون الإسلام ديناً علمياً لا تقليدياً ، ولذلك قفى على هذه الآيات السماوية في الشمس والقمر بآية مذكرة بسائر الآيات السماوية والأرضية فقال : { إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } في حدوثهما وتعاقبهما في طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس والنظام الدقيق لهما بحركتيها اليومية والسنوية ، وطبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل ديني ودنيوي { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } من أنواع الجماد والنبات والحيوان { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } أي أنواعاً من الدلائل والبينات على سننه في النظام ، وحكمه في الإبداع والإتقان ، وفي تشريع العقائد والأحكام ، لقوم يتقون عواقب مخالفة سننه في التكوين ، وسننه في التشريع ، فالأفراد الذين يخالفون سنن الصحة البدنية يمرضون ، والشعوب التي تخالف سنن الاجتماع والعمران تخرب بلادها ، وتضعف دولها ، ويغير الله تعالى ما بها بتغييرها ما في أنفسها ، وكذلك الأفراد الذين يخالفون هدايته الشرعية في تزكية الأنفس فيدنسونها بالشرك والخرافات ، ويفسدونها بالفواحش والمنكرات ، يجزون على ذلك كله في الآخرة ، ويجزى بعضهم على بعضها في الدنيا ( كما بينا ذلك في مواضع أخرى ) .