Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 98-100)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآيات الثلاث تفريع على اللواتي قبلهن وتكميل لهن في بيان سنة الله في الأمم مع رسلهم ، وفي خلق البشر مستعدين للأمور المتضادة من الإيمان والكفر ، وفي تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها على وقفهما . { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا } [ يونس : 98 ] لولا هذه للتخصيص كما قال أئمة اللغة والنحو ، والمراد بالقرية أهلها وهم أقوام الأنبياء ، فإنهم كلهم بعثوا في أهل الحضارة والعمران دون البادية أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنت بدعوتهم وإقامة الحجة عليهم ، فنفعها إيمانها قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به ، أي أنه لم يؤمن قوم منهم برمتهم ، فإن التحضيض يستلزم الجحد . { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ } قبل وقوع العذاب بهم بالفعل ، وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم من بينهم وروي أنهم رأوا علاماته ، ويجوز في هذا الاستثناء الاتصال والانفصال { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا لأن نبيهم خرج بدون إذن الله تعالى له ، فلم تتم عليهم الحجة ولا حقت عليهم كلمة العذاب ، وقد استدلوا بذهابه مغاضباً لهم على قرب وقوع العذاب كما أنذرهم فتابوا وآمنوا فكشفناه عنهم { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } أي ومتعناهم بمنافعها إلى زمن معلوم هو عمرهم الطبيعي الذي يعيشه كل منهم بحسب سنته تعالى في استعداد بنيته ومعيشته . وقد فصلنا الكلام في الأجل الذي يسمى الطبيعي وغيره في تفسير : { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] من سورة الأنعام ، ولا محل للبحث عن تعذيبهم في الآخرة كما فعل بعض المفسرين فإن شهادة الله تعالى لهم بالإيمان النافع ظاهرة في قبوله منهم صريحة ، في أنه لا يعذبهم في الآخرة على سابق كفرهم ، وإنما يجزون بغيره من أعمالهم بعد الإيمان . هذا الذي فسرنا به الآية هو المتبادر من عبارتها والموافق للسياق ولسنة الله تعالى في أقوام الأنبياء عليهم السلام ، وفيه تعريض بأهل مكة وإنذار لهم وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا عذاب الخزي بعنادهم حتى إذا أنذرهم نبيهم قرب وقوعه وخرج من بينهم اعتبروا وآمنوا قبل اليأس ، وحلول البأس ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ثبت من خبره عليه السلام في تفسير سورتي الأنبياء والصافات ، وهو موافق في جملته لما عند أهل الكتاب . { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } [ يونس : 99 ] أي ولو شاء ربك - أيها الرسول الحريص على إيمان الناس - أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعاً لا يشذ أحد منهم لآمنوا ، بأن يلجئهم إلى الإيمان إلجاء ، ويوجره في قلوبهم إيجاراً ، ولو شاء لخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة ، لا استعداد في فطرتهم لغير الإيمان ، وفي معنى هذا قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ } [ الأنعام : 107 ] وقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ هود : 118 ] . والمعنى الجامع في هذه الآيات أنه لو شاء الله ألا يخلق هذا النوع المسمى بالإنسان المستعد بفطرته للإيمان والكفر ، والخير والشر ، الذي يرجح أحد الأمور الممكنة المستطاعة له على ما يقابله ويخالفه بإرادته واختياره ، لفعل ذلك ، ولما وجد الإنسان في الأرض ، ولكن اقتضت حكمته أن يخلق هذا النوع العجيب ويجعله خليفة في الأرض ، كما تقدم بيانه في قصة آدم من سورة البقرة وفي آيات أخرى ، هكذا خلق الله الإنسان ، منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به كما تقدم . { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي إن هذا ليس في استطاعتك أيها الرسول ، ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] وهذه أول آية نزلت في أن الدين لا يكون بالإكراه أي لا يمكن للبشر ولا يستطاع ، ثم نزل عند التنفيذ { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } [ البقرة : 256 ] أي لا يجوز ولا يصح به ، وذكرنا في تفسيرها سبب نزولها ، وهو عزم بعض المسلمين على منع أولاد لهم كانوا تهودوا من الجلاء مع بني النضير من الحجاز ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخيروهم ، وأجمع علماء المسلمين على أن إيمان المكره باطل لا يصح . لكن نصارى الإفرنج ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين ، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويخيرونهم بينه وبين السيف يقط رقابهم ، على حد المثل : " رمتني بدائها وانسلت " . { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ يونس : 100 ] أي وما كان لنفس ولا من شأنها فيما أشير إليه من استقلالها في أفعالها ، ولا مما أعطاها الله من الاختيار فيما هداها من النجدين ، وما ألهمها من فجورها وتقواها الفطريين ، أن تؤمن إلا بإرادة الله ومقتضى سنته في استطاعة الترجيح بين المتعارضين ، فهي مختارة في دائرة الأسباب والمسببات ، ولكنها غير مستقلة في اختيارها أتم الاستقلال ، بل مقيدة بنظام السنن والأقدار ، فالمنفي هو استطاعة الخروج عن هذا النظام العام ، لا الاستطاعة الخاصة الموافقة له ، ومثله قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ } [ آل عمران : 145 ] أي إلا بمشيئته الموافقة لحكمته وسنته في أسباب الموت ، فكم من إنسان يعرض نفسه للموت شهيداً أو منتحراً بما يتراءى له من أسبابه ، ثم لا يموت بها لنقصها أو لمعارض مناف في نظام القدر الذي لا يحيط به علماً إلا الله تعالى ، ومعنى الإذن في اللغة الإعلام بالرخصة في الأمر أي تسهيله وعدم المانع منه . { وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } هذا عطف على محذوف يدل عليه المذكور دلالة الضد على الضد أو النقيض على النقيض ، أي وإذ كان كل شيء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجري بقدره وسنته ، فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته في كتابه وفي خلقه ، ويوازنون بين الأمور فيختارون خير الأعمال على شرها ، ويرجحون نفعها على ضرها ، بإذنه وتيسيره ، ويجعل الرجس أي الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور ، على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون ، فهم لأفن رأيهم ، واتباع أهوائهم ، يختارون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى ، وتقدم في تفسير آيات الخمر والميسر من سورة المائدة وفي الكلام على المنافقين من أواخر سورة التوبة ، أن الرجس لفظ يعبر عن أقبح الخبث المعنوي الذي هو مبعث الشر والإثم .