Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 87-90)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآيات استئناف بياني كأمثالها من المراجعات في مناقشة قوم شعيب له بالآراء التقليدية في التدين والإيمان ، والنظريات الشيطانية في الحرية والأموال . { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } [ هود : 87 ] قرأ جمهور القراء ( صلواتك ) بالجمع واستدل بها على أنه كان كثير الصلاة ، وحمزة والكسائي ( صلاتك ) بالإفراد ، والاستفهام للإنكار والاستهزاء به وبعبادته عليه السلام ، والصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر بما تكسبه من مراقبة الله تعالى ، ومن نهى نفسه كان جديراً بأن ينهى غيره ، يعنون أهذه الصلاة التي تداوم عليها تقتضي بتأثيرها في نفسك أن تحملنا على ترك ما كان عليه آباؤنا من عبادة هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها تقربا إلى الله بها ، وتشفعا عنده بجاه الأرواح التي تحتلها ، أو الأولياء التي وضعت لذكراهم ، وما أنت خير منهم ، وأجدر باتباعهم { أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } من تنمية واستغلال ، وتصرف في الكسب من الناس بما نستطيع من حذق واحتيال ، وخديعة واهتبال ، وهو حجر على حريتنا ، وتحكم في ذكائنا ؟ ردوا بهذا وبما قبله عليه دعوته من جانبيها الديني والدنيوي نشراً مرتباً على لف ، ونقضا لما بنيت عليه من حجة وعطف ، ولذلك ذيلوه بما يشير إلى هذا النقض ، فقالوا بقصد التعريض والتنديد : { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } الحليم العاقل الكامل في أناته وترويه فلا يتعجل بأمر قبل الثقة من صحته ، والرشيد الراسخ في هدايته وهديه ، فلا يأمر إلا بما استبان له من الخير والرشد ، ووصفه بهما وصفا مؤكداً بالجملة الاسمية وإن واللام في تعليل إنكارهم لما أمرهم ، به وما نهاهم عنه كلاهما صريح في الاستهزاء به ، والتعريض بما يعتقدون من اتصافه بضدهما ، وهو الجهالة والسفه في الرأي ، والغواية في الفعل ، بهوس الصلاة ، قال ابن عباس رضي الله عنه يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد . { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } [ هود : 88 ] أي يا قومي الذين أنا منهم وهم مني ، وأحب لهم ما أحب لنفسي ، أخبروني عن شأني وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربي فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به وما نهيتكم عنه فكان وحيا منه لا رأيا مني { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } في كثرته وفي صفته ، وهو كسبه بالحلال بدون تطفيف مكيال ولا ميزان ، ولا بخس لحق أحد من الناس ، فأنا مجرب في الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة ، لا فقير معدم أخترع الآراء النظرية فيما ليس لي خبرة به ، أي أرأيتم والحالة هذه ماذا أفعل وماذا أقول لكم غير الذي قلته عن نبوة ربانية ، وتجارب غنى مالية ؟ هل يسعني الكتمان أو التقصير في البيان ؟ { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي وإنني على بينتي ونعمتي ما أريد أن أخالفكم في ذلك مائلا إلى ما أنهاكم عنه مؤثراً لنفسي عليكم ، بل أنا مستمسك به قبلكم . وأصل المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في قوله أو فعله أو حاله ، وأن يقال خالفه في الشيء ، فإذا خالفه فيما هو مول عنه تارك له قيل خالفه إليه ، وإذا خالفه فيما هو مقبل عليه قيل خالفه عنه ، وفي كل منهما تضمين الفعل معنى الميل إليه أو عنه ، أو الرغبة فيه أو عنه . ومن الثاني قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] أي يخالفون الرسول راغبين عن أمره مائلين عنه . { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } أي ما أريد إلا الإصلاح العام فيما آمر به وفيما أنهى عنه مادمت أستطيعه لأنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ليس لي هوى ولا منفعة شخصية خاصة بي فيهما ، ولولا ذلك لما فعلته . قال القاضي البيضاوي : ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن ، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة - أهمها وأعلاها حق الله تعالى ، وثانيها حق النفس ، وثالثها حق الناس ، وكل ذلك يقتضي أن أمركم بما أمرتكم وأنهاكم عما نهيتكم . وما مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف وفي هذا إثبات لعقله ورويته ولرشده وحكمته ، وهو إبطال لتهكمهم واستهزائهم بلقب الحليم الرشيد ، والنبي فوق ذلك { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } التوفيق ضد الخذلان وهو الفوز والفلاح في إصابة الإصلاح وكل عمل صالح وسعي حسن ، فإن حصوله يتوقف على التوفيق بين شيئين : أحدهما كسب العامل وطلبه الشيء من طريقه ، وثانيهما موافقة الأسباب الكونية والخارجية التي يتوقف عليها النجاح في كسبه وسعيه ، وتسخيرها إنما يكون من الله وحده والمعنى وما توفيقي لإصابة ذلك فيما أستطيعه منه إلا بحول الله وقوته ، وفضله ومعونته ، وأعلاها ما خصني به دونكم من نبوته ورسالته { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في أداء ما كلفني من تبليغكم ما أرسلت به ، لا على حولي وقوتي { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي وإليه وحده أرجع في كل ما نابني من الأمور في الدنيا ، وإلى الجزاء على أعمالي في الآخرة ، فأنا لا أرجو منكم أجراً ، ولا أخاف منكم ضراً . { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } [ هود : 89 ] قرأ الجمهور { يَجْرِمَنَّكُمْ } بفتح الياء وكسر الراء من جرم الذنب أو المال بمعنى كسبه وابن كثير بضمها من أجرمته الذنب إذا جعلته جارما له . فجرمه وأجرمه ككسبه هو وكسبه إياه غيره ، يتعدى الثلاثي من كل منهما بنفسه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين كالرباعي . والشقاق شدة الخلاف الذي يكون به أحد المختلفين في شق وجانب غير الذي يكون فيه الآخر ، أي لا تحملنكم وتكسبنكم مشاقتكم وعداوتكم لي أن تفضي بالإصرار عليها إلى إصابتكم بمثل ما أصاب مكذبي الرسل قبلكم : قوم نوح أو هود أو صالح من عذاب الخزي والاستئصال { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } زمانا ولا مكانا ولا إجراما ، قال الزمخشري يجوز أن يستوي في بعيد وقريب وقليل وكثير المذكر والمؤنث لورودها على وزن المصادر كالصهيل والشهيق ونحوهما . وقدر لبعيد قبل ذلك موصوفاً فقال بشيء بعيد ، وقدر غيره : وما إهلاك قوم لوط . إلخ ، ويقاس عليه مثله . { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } [ هود : 90 ] أي اطلبوا منه المغفرة لما أنتم عليه من الشرك والمعاصي بتركهما ثم توبوا إليه كلما وقع منكم معصية ، وقد تقدم مثل هذا غير مرة { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } هذا تعليل لما قبله أي عظيم الرحمة للمستغفرين التائبين بمغفرته وعفوه ، كثير المودة لهم بإحسانه ونعمه ، والمودة في اللغة عطف الصلة والإكرام بالفعل كما يعلم من استعمالها ، وتساهل أو غلط من فسرها بالمحبة ، وهذا وعد قفى به على الوعيد الذي قبله وترك لهم الخيار فيما يرجحونه منهما بعد إقامة الحجة عليهم ، والآية دليل على إن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة واستغفار الرب تعالى من أسباب خير الدنيا والآخرة ، كما تقدم نظيره مكرراً في هذه السورة ، وكذلك يقتضيان فعل العدل والصلاح اللذين هما سبب العمران والخير في الدنيا ، ومغفرة الله ومثوبته في الآخرة ، وقد عبر عنهما هنا بما يدل عليهما من صفاته تعالى وهي الرحمة والمودة ، وارجع إلى ما عبر به عن فائدة الاستغفار والتوبة في الآية الثالثة و52 و61 وتأمل هذه البلاغة والتفنن في بيان المعنى الواحد .