Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 8-11)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآيات معطوفة على قوله تعالى : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ } [ هود : 7 ] إلخ وهي كلها بيان لحال الناس تجاه ما بلغوه من دعوة الإسلام الحق من أول هذه السورة وهو التوحيد وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم نذيراً وبشيراً وما أنذر وبشر به من جزاء في الدنيا والآخرة ، والرجوع إلى الله بعد الموت وكمال الجزاء فيه ، وقد استدل على هذا بخلقه تعالى للسماوات والأرض إذ كان عرشه على الماء ، الذي هو الأصل لجميع الأحياء ، وعلله باختبار المكلفين بما يظهر به أيهم أحسن عملاً . بعد هذا بين قصارى ما يقوله المنكرون للبعث منهم وقد تقدم ، ثم عطف عليه ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له فقال : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } الآية شرطية مؤكدة بالقسم والمراد بالعذاب ما تقدم من قوله : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [ هود : 3 ] على ما اخترناه فيه ، والأمة هنا الطائفة أو المدة من الزمن ومثله في سورة يوسف : { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] وأصلها الجماعة من جنس أو نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد ، وتطلق على الدين والملة الخاصة والزمن الخاص . أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة من الزمن معدودة في علمنا ومحدودة في نظام تقديرنا ، وسنتنا في خلقنا ، المبين في قولنا : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] أو إلى أمة قليلة من الزمن تعد بالسنوات ، أو ما دونها من الشهور أو الأيام { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } يعنون أي شيء يمنع هذا العذاب من الوقوع إن كان حقاً كما يقول هذا النذير ؟ وإنما يقولون هذا ويستعجلون بالعذاب إنكاراً له واستهزاءاً به : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } أي ألا إن له يوماً يأتيهم فيه إذ تنتهي الأمة المعدودة المضروبة دونه ، ويومئذ لا يصرفه عنهم صارف ولا يحبسه حابس { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه ، فلا هو يصرف عنهم ولا هم ينجون منه ، عبر بـحاق الماضي للإيذان بتحقيق وقوعه حتى كأنه وقع بالفعل ، وعبر عن الفاعل بما الموصولة بفعل الاستهزاء المستمر للإيذان بعلته وسببه ، وهذا الموضوع قد تقدم في سورة يونس مفصلاً في الآيات 39 و 45 - 55 وبينا في تفسيرها حكمة إبهام هذا العذاب بما يحتمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مع الشواهد من السور . { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } هذا وما بعده بيان لحال الإنسان في اختبار الله له في قوله { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] أي لئن أعطيناه نوعاً من أنواع النعمة رحمة منا مبتدأة أذقناه لذتها ، فكان مغتبطا بها ، كالصحة والأمن وسعة الرزق والولد البار { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } بما يحدث من الأسباب بمقتضى سنتنا في الخلق من مرض وعسر وفتن وموت { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } أي إنه في هذه الحال شديد اليأس من الرحمة ، قطوع للرجاء من عودة تلك النعمة ، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها ، فضلاً عما سلف منها ، فهو يجمع بين اليأس مما نزع منه ، والكفر بما بقي له لحرمانه من فضيلتي الصبر والشكر . { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } النعماء بالفتح اسم من أنعم عليه إنعاما - كالنعمة بالكسر والنعمى بالضم - وهي ما يقابل بالضراء من الضر الذي يقابل به النفع ، ولم ترد النعماء في التنزيل إلا في هذه الآية ، وهذه الإذاقة أخص مما قبلها ، وهي تتضمن كشف الضراء السابقة وإحلال ما هو ضدها محلها ، كالشفاء من المرض وزيادة العافية والقوة السابغة ، والمخرج من العسر والفقر ، إلى سعة الغنى واليسر ، والنجاة من الخوف والذل ، إلى بحبوحة المنعة والعز ، يقول تعالى ولئن منحنا هذا الإنسان اليئوس الكفور نعماء أذقناه لذتها ونعمتها ، بعد ضراء مسته باقترافه لأسبابها ، إثر كشفها وإزالتها . { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ } أي ذهب ما كان يسوءني من المصائب والضراء فلن تعود ، فما هي إلا سحابة صيف تقشعت فعلي أن أنساها بالتمتع باللذات { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } أي إنه في هذه الحالة لشديد الفرح والمرح الذي يهيجه البطر بالنعمة ، ومبالغ بالفخر والتعالي على الناس والاحتقار لمن دونه فيها ، فهو لا يقابلها بشكر الله عليها . روي أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقيل في عبد الله بن أمية المخزومي ، والمراد أنها موافقة لحالهما ، وهي إنما نزلت في ضمن السورة لبيان حالة الناس العامة ولذلك استثنى منها قوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } هذا استثناء من جنس الإنسان فيما ذكر من حاليه في الآيتين قبله : الكفر بأنعم الله واليأس من رحمته عند زوال شيء منها ، وفرح البطر وعظمة الفخر بها عند إقبالها ، يقول إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء إيماناً بالله واحتساباً للأجر عنده { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } عند كشفها ، وتبديل النعماء بها ، من شكره تعالى باستعمال النعمة فيما يرضيه تعالى من عمل البر وغير ذلك من عبادته وشكره { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } واسعة من ربهم تمحو من أنفسهم ما علق بها من ذنب أو تقصير { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } في الآخرة على ما وفقوا له من بر وتشمير ، فإن الإنسان وإن كان مؤمناً باراً لا يسلم في الضراء والمصائب من ضيق صدر ، قد ينافي كمال الرضى أو يلابس بعض الوزر ، وفي حال النعماء من شيء من الزهو والتقصير في الشكر ، وكل منهما يغفر له بصبره وشكره وإنابته إلى ربه ، ويناسب هذه الآيات من سورة يونس : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا } [ يونس : 12 ] إلخ وقوله : { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } [ يونس : 21 ] إلى آخر الآية [ 23 ] فراجع تفسيرهن مع تفسير : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] تعلم أن هذه المعاني المكررة بالأساليب المختلفة البليغة ما أنزلت إلا لهدايتك لما تزكي به نفسك وتثقف طباعها وعاداتها الضارة ، والجامع للمراد هنا بأخصر عبارة وأبلغها سورة : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] .