Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 6-7)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه إحاطة علمه إثر بيان ما يغفل الناس عن علمه به ، وبين في التي قبلها شمول قدرته لكل شيء ، وبين في الآية الأولى من هاتين الآيتين ما يهم الناس من آثار قدرته ، ومتعلقات علمه ، وكتابة مقادير خلقه ، وهو ما يتعلق بحياتهم وشؤونهم ، وفي الآية التي بعدها خلقه للعالم كله ، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه ، وبلاء البشر خاصة بذلك كله ، ليظهر أيهم أحسن عملا ، وبعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم ، وإنكار كفارهم لهذا ، قال : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } الدب والدبيب : الانتقال الخفيف البطيء حقيقة كدبيب الطفل والشيخ المسن والعقرب والجراد أو بالإضافة كدبيب الجيش ، أو مجازاً كدبيب السكر والسم في الجسم ، والدابة اسم عام يشمل كل نسمة حية تدب على الأرض زحفاً أو على قوائم ثنتين فأكثر ، قال تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } [ النور : 45 ] أي مما تعلمون ومما لا تعلمون مما يدب على الأرض ومما يطير في الهواء ومما يسبح في البحار والأنهار . وغلبة لفظ الدابّة على ما يركب من الخيل والبغال والحمير عرفا لا لغة . ورزق الدابة غذاؤها الذي تعيش به . والمعنى : ما من دابة من أنواع الدواب في الأرض إلا على الله رزقها على اختلاف أنواعها وأنواعه ، فمنها الجنة التي لا ترى بالأبصار ، وصغار الحشرات والهوام ، وضخام الأجسام ، والوسطى بين الكبير والصغير ، وأغذية كل نوع مختلفة من نباتية وحيوانية ، وقد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته ، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته ، فمنها ما خلق له خراطيم يمص بها غذاءه من النبات أو دم الحيوان ، وأعطاها من القوة ما إن خرطوم البعوضة الدقيق ليخترق جلد الإنسان وما هو أكثف منه من جلود الحيوان ، ومنها ما خلق له مناقير تلتقط الحبوب ، ومنها ما يمضغ النبات بأسنانه مضغاً ، وما يبلع الحشرات والطيور والأنعام بلعاً ، وما له مخالب يمزق بها اللحوم ، وما له براثن يقتل بها كبار الجسوم ، وتفصيل هذا له كتب خاصة من قديمة وحديثة ، ولله تعالى حكم في خلقها وغذائها عجيبة ، فإن خفي عليك أمر تغذي الحيات والسنانير ونحوها من خشاش الأرض وصغارها ، وتغذي الأفاعي الكبرى وسباع الوحش والطير من كبارها ، فأول ما ينبغي لك أن تفكر فيه من حكمتها ، أنه لولا ذلك لضاقت الأرض ذرعاً بكثرة أحيائها ، أو لأنتنت من كثرة أمواتها ، وإذا أردت زيادة العلم بها وبحكمتها فعليك بالمصنفات المدونة فيها ، وقد فتحت هذه الآية وأمثالها لك أبوابها ، وأرشدتك إلى تطلابها . ولا يشكلن عليك التعبير عن كفالة الله لرزقها بقوله : ( على ) وما قيل من دلالتها على الوجوب مع قول المتكلمين أنه لا يجب عليه تعالى شيء ، فإن الممنوع أن يجب عليه تعالى شيء بإيجاب موجب ذي حكم أو سلطان يطالبه به ويحاسبه عليه ، فهذا محال عقلاً وشرعاً ، وأما ما أوجبه الله تعالى من النظام وسنن التدبير العام للمخلوقات بمقتضى علمه وحكمته ومشيئته ، ونفذه بقدرته واختياره في خليقته ، فهو حكمه وقضاؤه وقدره بسلطانه ، لا حكم عليه بسلطان غيره ، وهو كمال مطلق لا شائبة للنقص فيه . ولا يشكلن عليك فيها أيضا أن يكون في كل نوع من هذه الدواب حتى الإنسان أفراد قد تضيق في وجوههم أبواب الرزق حتى يقضي بعضهم جوعا ، فليس معناها أن الله تعالى قد كفل لكل دابة من كل نوع أن يخلق لها ما تغتذي به ، ويوصله إليها بمحض قدرته ، سواء أطلبته بباعث غريزتها أو ما يهديها إليه العلم من أسباب كسبها أم لا ؟ وإنما معناها ما فسرناها به من خلقه تعالى لكل منها الرزق الذي تعيش به ، وأنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله ، كما قال : { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] وبهذا تعلم جهل بعض العباد والشعراء فيما زعموه من أن الكسب وعدمه سواء ، كقول بعض الخياليين الجاهلين ، المتواكلين غير المتوكلين : @ جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين @@ فهذا الشاعر أحق بصفة الجنون ممن يصفهم بها ، فإن ما جرى به القضاء منه ما هو مجهول للناس ، ومنه ما علم نوعه بالتجارب والاختبار ، ويعبر عنه بالنواميس والسنن ، ومنها أن الحركة والسكون لكل منهما آثار ، فما هما سيان في ذاتهما ، ولا في آثارهما ونتائجهما ، وإن ما قضاه وقدره من رزق الجنين في غشاوته بدم حيض أمه ، غير ما قضاه وقدره من رزق من خاطبهم بقوله : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } [ الملك : 15 ] وبغيره من آيات التسخير والتكليف . ومن العجيب أن يستدل أحد المفسرين الأذكياء على هذا الجهل بأثر موضوع ، ويستحسن في موضوعه خيال ابن أذينة الشاعر المخدوع : @ لقد علمت وما الإشراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلبه ولو أقمت أتاني لا يعيّيني @@ ثم يقول : وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا ، فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجائزته إليه ، ثم أورد ( أي المفسر ) في معناه قول من اعترف بأنه ألغى أمر الأسباب جداً إذ قال : @ مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعا وإذا وليت عنه تبعك @@ وقفى عليه - أعني المفسر - بقوله هو : وبالجملة ينبغي الوثوق بالله وربط القلب به سبحانه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأقول إن هذه الجملة حق وضع موضع الباطل ، ولكن هذا الشعر أوغل في الجهل الباطل مما سبقه ، فإنه جعل الكلام في الرزق المطلوب ، لا في الرزق المكتوب ، وجعل اتباعه بالسعي والطلب مانعاً من إدراكه ، والتولي عنه بالقعود والكسل ، والتمني دون العمل ، من الضرورات المقتضية لنيله ، فيكون تأييد زعمه أو تقريبه بما ينبغي بل بما يجب من الوثوق بالله وربط القلب به والإيمان بمشيئته ، من ربط العلم بالجهل ، وتأييد الباطل بكلمة الحق ، فالثقة بالله تعالى والإيمان بمشيئته لا يصحان مع الجهل بمعناهما ومواضع تعلقهما ، وقد علم بنصوص القرآن وبسنن الله تعالى في الخلق وأسباب الرزق ، أن مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضى سننه في ارتباط الأسباب بالمسببات وحكمته فيها كما فصلناه مراراً في مواضعه من هذا التفسير ، والجهل بهذا مما أفسد على المسلمين دنياهم ودينهم ، وأضاع جل ملكهم ، وجعل جماهيرهم عالة على غيرهم . { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي وما من دابة في الأرض إلا ويعلم الله مستقرها حيث تستقر وتقيم ، ومستودعها حيث تكون مودعة إلى حين ، فهو يرزقها في كل حال بحسبه وقد بينا معنى الكلمتين في اللغة وما ورد في تفسيرهما من الآثار في تفسير قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [ الأنعام : 98 ] فراجعها إن شئت في ص 638 - 640 من الطبعة الثانية للجزء السابع من التفسير ، وقد لخص البيضاوي جملة الأقوال في مستقرها ومستودعها كعادته بقوله : أماكنها في الحياة والممات أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة { كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي كل واحد من الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم في كتاب مبين ولوح محفوظ ، كتب الله فيه مقادير الخلق كلها فهو عنده تحت العرش كما ثبت في الصحيح . وقد بينا ما ورد في هذا الكتاب مجملا في تفسير قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] ثم مفصلا في تفسير آية مفاتح الغيب وهي الآية 59 من هذه السورة ( الأنعام ) فراجعها في ج7 أيضاً . { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } من أيام الله تعالى في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار ، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله ، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامها كما توهم الغافلون عن هذا وما يؤيده من قوله : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] وقوله : { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] وقد ثبت في علم الهيئة الفلكية أن أيام غير الأرض من الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه تختلف عن أيام هذه الأرض في طولها ، بحسب اختلاف مقادير أجرامها وأبعادها وسرعتها في دورانها ، وأن أيام التكوين بخلقه من الدخان المعبر عنه بالسديم شموساً مضيئة ، تتبعها كواكب منيرة ، يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنيننا ، بل من سني سرعة النور أيضا ، وقد سبق مثل هذه الجملة في سورتي الأعراف 7 : 54 ويونس 10 : 3 ، وذكر بعدها استواء الخالق تعالى على عرشه ، وتدبيره لأمر ملكه . وأما هنا فقال بعدها فيهما { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } أي وكان سرير ملكه في أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء . وقد بينا تفسير آيتي الأعراف ويونس المشار إليهما آنفاً أن المعنى الكلي المفهوم من العرش أنه مركز نظام الملك ومصدر التدبير له ، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه بمعنى ملك أو استقام أمر الملك له ، و : ثُلَّ عرشه بمعنى هلك وزال ملكه ، ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادةً وشكلاً وهي من عالم الشهادة وصنع أيدي البشر ، كذلك يختلف النظام للتدبير الذي يصدر عنها ، وهو من جنس ما يعلم البشر في عالمنا هذا ، فعرش ملكة سبأ العربية العظيم ، كان أعظم من عرش سليمان ملك إسرائيل ، ولكن تدبيرها وحكمها الشوري ( الديمقراطي ) كان دون حكمه الشرعي الديني ، ورب عرش من الذهب ، وعرش من الخشب ، وأما عرش الرحمن عزّ وجلّ فهو من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا ، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا ، فأجدر بنا ألا نعلم كنه استوائه عليه ، وصدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم عنه ، وحسبنا أن نفهم الكناية ، ونستفيد العبرة ، فما أجهل الذين تصدوا لتأويل هذه الحقائق الغيبية ، بأقيستهم وآرائهم البشرية ! وما أحسن ما روي عن أم سلمة ( رضي الله عنها ) وربيعة ومالك ( رحمهما الله ) من قولهم : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، إلى آخر ما تقدم في تفسير آية الأعراف . وأما قوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } فنفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش من مادة هذا الخلق قبل تكوين السماوات والأرض أو في أثنائه هو هذا الماء ، الذي أخبرنا عز وجل أنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياء ، إذ قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] الرؤية هنا علمية والمعنى ألم يعلموا ما ينبغي أن يعلموه من أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال - وهي ما يسمى في عرف علماء الفلك بالسديم وبلغة القرآن بالدخان - ففتقناهما بفصل بعضها من بعض ، فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض ، وجعلنا من الماء ، في المقابلة لحياة الأحياء ، كل شيء حي ، أفلا يؤمنون والأمر كذلك بأن الرب الفاعل لهذا هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شيء ، وأنه قادر على إعادة الخلق كبدئه ؟ فيفهم من هذا وذاك أن الذي كان تحت العرش فيتنزل إليه أمر التدبير والتكوين منه هو الماء ، الذي هو الأصل لجميع الأحياء ، لا ما تخيله بعض المفسرين الفنيين في الماء والعرش ، مما تأباه اللغة والعقل والشرع ، والعبارة ليست نصاً في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل ، فإن فائدة الإخبار بمثل هذا إن كان واقعاً في ذلك العهد هو دون فائدة ما ذكرنا من معنى العرش الذي بيناه ، وهو الذي يزيدنا معرفة بربنا وبحكمه في خلقه ، وهو الذي يتفق مع نظريات علم التكوين وعلم الحياة وعلم الهيئة الفلكية وما ثبت من التجارب فيها ، ويخالف أتم المخالفة ما كان معروفاً عند أمم الحضارة من قواعد علم الفلك القديمة ونظرياته المسلمة . وبهذا يعد من عجائب القرآن ، التي تظهر في كل زمان بعد زمان . ثم علل سبحانه وتعالى خلقه لما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي ليجعل ذلك بلاء أي اختباراً وامتحاناً لكم فيظهر أيكم أحسن إتقانا لما يعمله ، ونفعا له وللناس به ، وذلك أنه سخر لكم كل شيء وجعلكم مستعدين لإبراز ما أودعه فيه من المنافع والفوائد المادية والمعنوية ، ومن حكم خالقه ورحمته بعباده فيه ، ومستعدين للإفساد والضرر به ، ليجزي كل عامل بعمله وإنما يتم ذلك في الآخرة ، وقد سبق لنا تفصيل هذا البلاء في تفسير قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 165 ] وغيره : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ } أي وتالله لئن قلت للناس فيما تبلغهم من وحي ربهم : إنكم ستبعثون من بعد موتكم ليجزيكم ربكم بعملكم فيما بلاكم به : { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] فإنه ما خلقكم سدى ، ولا سخر لكم هذا العالم واستخلفكم فيه عبثاً { لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي ليجيبنك الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله قائلين : ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسخرنا به لطاعتك إلا سحر بيّن ظاهر ، تسحر به العقول ، وتسخر به الضمائر والقلوب ، فتفرق به بين المرء وأخيه ، وأمه وأبيه ، وعشيرته التي تؤويه ، معتقدين بسلطان بلاغته أنهم سيموتون ثم يبعثون ، ويجزون بكل ما يفعلون { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } [ المؤمنون : 36 ] . علاوة في آيات التكوين وما فيها من إعجاز القرآن العلمي إن الله تعالى ذكر عرشه مع خلق السماوات والأرض في بضع آيات بين في كل منها شأنا من شؤونه : ففي سورة الأعراف ذكر سننه في إغشاء الليل والنهار وطلبه طلبا حثيثا ، وتسخير الشمس والقمر وهو النظام الذي يجري عليه هذا النظام الشمسي بدوران الأرض حول شمسها ، ودوران القمر حول أرضه . وفي آية يونس ذكر التدبير العام من غير حاجة إلى شفيع إذ أمر الشفعاء موقوف على إذنه ، ثم وضحه بآية جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وتقديره منازل ، وفي آية هود ذكر ما للماء من الشأن في خلق الأحياء ، ولهذا الماء ثلاثة مظاهر أوسطها السائل الذي يشرب منه الحيوان ويسقي به النبات وهو ما يكون عليه في حال اعتدال الحرارة فإذا نقصت إلى درجة معينة صار ثلجاً أو جليداً ، فإذا ارتفعت صار بخاراً ، فإذا كثف سمي ضباباً وسديماً ، فإذا خالطه غيره سمي دخاناً . وفي آية الرعد جمع بين تسخير الشمس والقمر إلى أجل مسمى وتدبير الأمر وتفصيل الآيات ، وآية طه ذكر بعدها إن له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، وآية الفرقان ذكر بعدها أنه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً ، فذكر البروج تفصيل لنظام الزمان ، وآية الم السجدة نفى فيها أن يكون لأحد من دونه ولي أو شفيع ، وقفى عليها بتدبير الأمر من السماء إلى الأرض ينزل منه ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما نعده ، وقال في آية الحديد : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [ الحديد : 4 ] إلخ . وقد بينت في آخر تفسير آية الأعراف أن بعض المتكلمين تكلفوا تفسير السماوات السبع والكرسي والعرش العظيم أو تأويلهن بالأفلاك التسعة عند فلاسفة اليونان المخالف للقرآن ، وأن علم الفلك الأوربي قد نقض في القرون الأخيرة تلك النظريات الخيالية ، بالأدلة العلمية من رياضية حسابية هندسية ، ومن طبيعية عملية ، كتحليل النور وسرعته ووزن الحرارة ، وإن ما ثبت في علم الفلك الحديث ومباحث التكوين قريب من نصوص القرآن ، كبعده عما يخالف من نظريات اليونان . وأزيدك هنا أن هذه الأرض في اصطلاح الهيئة القديمة هي مركز العالم كله ويحيط بها فلك القمر فهو سماؤها ، ويحيط به فلك عطارد فأفلاك الزهرة فالشمس فالمريخ فالمشتري فزحل ففلك النجوم كلها فالفلك الأطلس المحيط بكل ذلك فعلى هذا لم يخلق الله إلا أرضاً واحدة في قلب تسع سماوات ، والسماء في اللغة العربية ما سما وعلا فكل ما في جهة العلو فهو سماء ، ونقل الراغب عن بعضهم : كل سماء بالإضافة إلى دونها فسماء ، وبالإضافة إلى فوقها فأرض ، إلا السماء العليا فإنها سماء بلا أرض وحمل على هذا قوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] والسبع مثل والعدد لا مفهوم له . وأعجب من هذا أن العلم العصري بسنن التكوين العامة يرتقي في هذه الأجيال درجة بعد درجة ، وأن بعض ما ينكشف منها للعلماء من النظريات والأصول قد ينقض بعض ما سبقه منها ، ولكن لم ينقض شيء منها شيئاً مما ثبت في القرآن ، على لسان النبي الأمي عليه الصلاة والسلام ، فأصل السديم المشار إليه بقوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وأصل خلق الأحياء النباتية والحيوانية من الماء ، لا يزال كل منهما ثابتاً عند جميع العلماء . وقد عبر به عن مادة التكوين التي هي مادة خراب العالم الذي ترجع به هذه الأجرام إلى مادتها الأصلية بقوله تعالى : { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [ الدخان : 10 ] وعبر عنه كذلك بالغمام في قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] وقوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ } [ البقرة : 210 ] والغمام في اللغة السحاب الرقيق ، فالدخان والغمام والبخار والسديم كلها مظاهر لهذه المادة اللطيفة ( الماء ) قال حكماؤنا : البخار جسم مركب من أجزاء مائية وهوائية ، والدخان مركب من أجزاء أرضية ونارية وهوائية ، والغبار مركب من أجزاء أرضية وهوائية ، اهـ . وأرقه الهباء قال تعالى : { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 4 - 6 ] ويصح التعبير بالدخان عن العناصر البسيطة للبخار والدخان كالأيدروجين وهو مولد الماء والأوكسجين وهو مولد النار ، والإسم العرفي لجنس هذه البسائط ( الغاز ) ، والسديم في اللغة الغمام والضباب ، واختاره علماء الفلك على الدخان وغيره ولا مشاحة في الاصطلاح . والخلاصة أن التنزيل أرشدنا في كل آية من آيات التكوين التي ذكر فيها عرشه العظيم ، إلى نوع من أنواع ما جعله مصدراً له من سنن التكوين وأنواع التدبير ، وفي آيات التكوين التي لم يذكر فيها العرش أنواع أخرى من سننه ونعمه وحكمه ، ولم تكن العرب ولا شعوب الحضارة والفنون تعرفها ، ومنها ما لم يعرفه علماء الإفرنج إلا في عصرنا هذا . من ذلك أصل خلق جميع الأحياء النباتية والحيوانية بالتوالد بين الأزواج المنصوص في قوله تعالى في الأرض : { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] وقوله تعالى : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ ق : 7 ] وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] وقوله تعالى : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ لقمان : 10 ] فالزوج البهيج والكريم هو المنبت المنتج ، والمراد بالأزواج في هذه الآيات كلها أنها ذكر وأنثى كما قال تعالى : { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } [ النجم : 45 - 46 ] ومثله في آخر سورة القيامة [ 75 : 36 - 39 ] . فإن قيل : إن آخر ما انكشف للبشر من علم التكوين في هذا القرن أو المنشأ الأول للخلق الذي كان قبل وجود الحيوان والنبات وما يسمى بالجماد من طبقات الأرض ، هو اتحاد ذراته الكهربائية الإيجابية بالسلبية المعبر عنهما في لغة العلم ( بالإلكترون والبروتون ) فهل لهذا من أصل من القرآن العظيم ؟ قلت : نعم إن هذان إلا زوجان منتجان ، والقرآن لم يحصر سنة الزوجية في النبات والحيوان ، بل قال تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] وأبلغ من هذا في العموم ، وأدهش لأولي الألباب والفهوم ، وأعظم عبرة للمستقلين في العلوم ، قوله عزّ وجلّ { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] فهو يشمل الكهربائية وغيرها مما علم ومما قد يعلم في المستقبل ، وأن هذا التعبير ، لا يعقل صدوره إلا عن عالم الغيب والشهادة العليم الخبير ، وما كان مثله ليخطر ببال محمد العربي الأمي الناشئ بين الأميين ، ولا في خلد أحد من الفلاسفة العقليين والطبيعيين . على أنه قد جاء في الآيات والأحاديث من ذكر النور والنار في الكلام على الخلق وسنن الإبداع ما يدل على هذه الكهرباء دلالة واضحة وأظهره آية النور العظمى في سورته : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ النور : 35 ] وقوله في مثله منها : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } [ النور : 35 ] وفي عدة آيات من عدة سور إن الله خلق الجان { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 15 ] أو { مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] وهي من مخلوقات الأرض ، وقد كانت في أحد أيامها كتلة نارية مشتعلة ، وراجع ما ورد من الأحاديث في هذا الموضوع في تفسير آية الأعراف [ 7 : 134 ] في رؤيته تعالى . فإن قيل : ولم لم تذكر هذه السنن العجيبة في موضع واحد من القرآن فتكون أظهر للناس ، ويكون المؤمنون بها أسبق إلى ما أظهره العلم منها في هذا الزمان ؟ قلنا : أولاً : إن أسلوب القرآن في بيان أصول الدين وفروعه المقصودة لذاتها هو إيرادها في آيات متفرقة في السور ممزوجة بغيرها من أنواع المسائل والفوائد لا في مكان واحد ، وقد بينا حكمة هذا في مباحث الوحي المحمدي من سورة يونس التي صدرت في كتاب مستقل . ثانياً : إن هذه السنن قد ذكرت في سياق الآيات الدالة على عقيدتي التوحيد والبعث فكان المناسب أن تذكر معها في مواضعها . ثالثاً : إن العلم التفصيلي بها ليس من مقاصد الوحي الذاتية وإنما هو من العلوم التي يصل إليها البشر بكسبهم وبحثهم ، وإنما يكون الوحي مرشداً لهم إليها . رابعاً : لو جمعت هذه الآيات في موضع واحد على أنها بيان تام لجميع أطوار التكوين لتعذر فهمها قبل تحصيل مقدماته بالبحث العلمي ولكانت فتنة لبعض من فهمها بالجملة ، وإن دلالة القرآن على كروية الأرض ودورانها واضحة كآية الأعراف التي أشرنا إليها آنفا { يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] وفي غيرها ولا يزال أكثر المسلمين يجهلونها . خامساً : ولو لم يعرض للحضارة العربية الإسلامية من المصائب والفتن الاجتماعية والحربية والشقاق الديني والسياسي ما وقف بترقي العلم والبحث لسبقوا إلى ما وصل إليه غيرهم من الإفرنج بعدهم باتباعهم والجري على آثارهم ، فإن المعارف الكونية يمد بعضها بعضا ما لم يعرض لها ما يوقف سيرها . هذا وإن مؤلف هذا التفسير الضعيف قد صرح في مقصورته التي نظمها في عهد طلب العلم بطرابلس الشام ، بسنة الله تعالى في جعل الأزواج مصدر التكوين العام ، وأشار إلى شواهد ذلك من العلم الحديث وما يناسبه من مولدات الفكر والخيال فقال :