Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 15-18)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه الآيات الأربع في بيان ما نفذوا به عزمهم بالفعل ، وما اعتذروا به لأبيهم من كذب ، وما قابلهم من تكذيب وصبر ، واستعانة بالله عز وجل ، قال : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [ يوسف : 15 ] في الغد من ليلتهم التي استنزلوا فيها أباه عن إمساكه عنده { وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ } أي أزمعوه وعزموا عليه عزما إجماعيا لا تردد فيه بعد ما كان من اختلافهم قبل في قتله أو تغريبه ، وجواب : " لما " محذوف للعلم به مما قبله ومما بعده وتقديره نفذوه بأن ألقوه في غيابة ذلك الجب بالفعل { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } عند إلقائه فيه وحيا إلهاميا علم أنه منا مضمونه : وربك { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا } معك إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يومئذ بما آتاك الله ، أو الآن بما يؤتيك في عاقبة هذه الفعلة التي فعلوها بك ، أو بهذا الوحي في الجب وهو المرتبة الأولى من مراتب التكليم الإلهي للأنبياء بعد التمهيد له بالرؤيا الصادقة . وقد هون الله تعالى على يوسف مصيبته به فعلم أنها مصيبة في الظاهر نعمة في الباطن ، وقد نقلوا عن السدي أن إخوة يوسف طغوا في القسوة عليه والتنكيل به فقالوا وفعلوا ما لا يصدر مثله إلا عن رعاع الناس وأراذل المجرمين الظالمين ، وما هي إلا الإسرائيليات المنفرة من الإسلام والمسلمين . { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } [ يوسف : 16 ] أي جاءوه في وقت العشاء إذ خالط سواد الليل بقية بياض النهار فمحاه حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يبغون وقد بينه تعالى بقوله : { قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } [ يوسف : 17 ] أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره ، فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب ، وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق ومنه : { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [ البقرة : 148 ] فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب ، وقوله الآتي في هذه السورة : { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } [ يوسف : 25 ] كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه ، وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى . ولم يفطن الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } من فضل الثياب وماعون الطعام والشراب ( مثلا ) يحفظه ، إذ لا يستطيع مجاراتنا في استباقنا الذي ترهق به قوانا { فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } إذ أوغلنا في البعد عنه فلم نسمع صراخه واستغاثته { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } أي بمصدق لنا في قولنا هذا لاتهامك إيانا بكراهة يوسف وحسدنا له على تفضيلك إياه علينا في الحب والعطف { وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } في الأمر الواقع أو نفس الأمر ، أو - ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذا الخبر لشدة وجدك بيوسف . { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] المراد من هذه الجملة الفذة في بلاغتها أنهم جاءوا بقميصه ملطخا ظاهره بدم غير دم يوسف يدعون أنه دمه ليشهد لهم بصدقهم فكان دليلا على كذبهم ، فنكر الدم ووصفه باسم الكذب مبالغة في ظهور كذبهم في دعوى أنه دمه حتى كأنه هو الكذب بعينه ، فالعرب تضع المصدر موضع الصفة للمبالغة كما يقولون شاهد عدل ، ومنه * فهن به جود وأنتم به بخل * وقال : " على قميصه " ليصور للقارئ والسامع أنه موضوع على ظاهره وضعا متكلفا ولو كان من أثر افتراس الذئب له لكان القميص ممزقا والدم متغلغلا في كل قطعة منه ، ولهذا كله لم يصدقهم { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } هذا إضراب عن تكذيب صريح تقديره : إن الذئب لم يأكله بل سولت لكم أنفسكم الأمارة بالسوء أمراً إمراً ، وكيداً نكراً ، وزينته في قلوبكم فطوعته لكم حتى اقترفتموه ، أي هذا أمركم وأما أمري معكم ومع ربي { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أو فصبري صبر جميل لا يشوه جماله جزع اليائسين من روح الله ، القانطين من رحمة الله ، ولا الشكوى إلى غير الله { وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } من هذه المصيبة لا أستعين على احتمالها غيره أحدا منكم ولا من غيركم . هذا هو الفصل الأول من قصة يوسف وهو صفوة الحق من أحسن القصص بما فيه من الدقة والعبرة ، وقد شوهه رواة الأساطير والمفتريات الإسرائيلية بما ظنوا أنه من أخبار التوراة وما هو منها ، ومن شاء فليقرأ هذا الفصل من قصة يوسف في سفر التكوين ليرى الفرق البعيد بين كلام الله وكلام البشر ، وليعلم المغرور بما نقله المفسرون من الإسرائيليات فيها كالسدي الكبير الذي هو أقل كذبا وأكثر إتقانا لأساطيره من السدي الصغير ، أن كل ما فيها من الزيادة لا أصل له عند أهل الكتاب ، ولا هو مروي عن نبينا صلى الله عليه وسلم فهو كذب صراح .