Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 14-16)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الآيات التي تقدّمت في وصف هذا الصنف من الناس - الذي قلنا إنّه يوجد في كلّ أمّة وملّة وفي كلّ عصر - كانت عامّة تصوِّر حال أفراده في كلِّ زمان ومكان ، وكان أسلوبها ظاهراً في العموم كقوله : { يُخَادِعُونَ } إلخ ، وقوله : وإذا قيل لهم كذا ، قالوا كيت وكيت . وأمّا قوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } الآية ، فهو وصف قد يختصّ ببعض أفراد هذا الصنف ممّن كان في عصر التنزيل ، جاء بعد الأوصاف العامة ، وحُكي بصيغة الماضي ، ليكون كالتصريح بتوبيخ تلك الفئة من هذا الصنف ، التي بلغت من التهتّك في النفاق ، والفساد في الأخلاق ؛ أن تظهر بوجهين ، وتتكلّم بلسانين ، وما بلغ كلّ أفراد الصنف هذا المبلغ من الفساد والضعف . ولهذه الخصوصيّة في الآية قال بعض الواهمين : إنّ جميع تلك الآيات في منافقي ذلك العصر - وقد مرّ تفنيده فلا نُعيده . على أنّ هذه الفئة أيضاً توجد في كلِّ عصر وزمان يكون فيه لأهل الحقّ قوّة وسلطان ، والحكاية عنها بصيغة الماضي والواقع لا تنافي ذلك ؛ لأنّ " إذا " تدلّ على المستقبل ، فمعنى الفعل مستقبل ، وإنّما اختيرت صيغة الماضي لتوبيخ أولئك الأفراد ، وإيذانهم بأنّ بضاعة النفاق والمداجاة ، لا تروج في سوق المؤمنين لأنّها مزجاة ، وأنّ إستهزاءهم مردود إليهم ، ووباله عائد عليهم . كان أولئك النفر يُدهنون في دينهم ، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنّا بما أنتم به مؤمنون ، { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } من دعاة الفتنة وعمّال الإفساد وأنصار الباطل ، الذين يصدّون عن سبيل الحقّ بما يقيمون أمامه من عقبات الوساوس والأوهام ، وما يلقون فيه من أشواك المعايب وتضاريس المذامّ ، وقال مفسّرنا ( الجلال ) : إنّهم الرؤساء ، والصواب ما قلنا ، وكم من رئيس مغمول ، لما في نفسه من الضعف والخمول ، لا ينصر اعتقاده ، وإن كان معترفاً بأنّ فيه رشاده ، وفي عزّته عزّه وإسعاده . وكم من مرؤوس شديد العزيمة ؛ قويّ الشكيمة ، يكون له في نصر ملّته ، والمدافعة عن أمّته ، ما يعجز عنه الرؤساء ، ولا يأتي على أيدي الأمراء . @ وللذبابة في الجرح الممدّ يدٌ تنال ما قصّرت عنهُ يد الأسد @@ { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [ البقرة : 14 ] أي إنّا معكم على عقيدتكم وعملكم ، وإنّما نستهزئ بالمسلمين ودينهم ، فكشف القرآن عن هذا التلوّن وهذه الذبذبة ، وقابلهم عليها بما هدم بنيانهم ، وفضح بهتانهم ، فقال : { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ … } أصل الإستهزاء : الإستخفاف وعدم العناية بالشيء في النفس ، وإن أظهر المستخفّ الإستحسان والرضا تهكّماً . وهذا المعنى محالٌ على الله تعالى ، والمحال بذاته يصحّ إطلاق لازمه ، والمستهزئ بإنسان في نحو مدح لعلمه واستحسان لعمله مع اعتقاد قبحه ، غير مبال به ولا معتن بعلمه ولا بعمله ، حيث لم يرجعه عنه ولم يكرهه عليه ، ويلزمه استرسال المستهزَأ به في عمله القبيح . فمعنى : { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } : [ أنّه يمهلهم فتطول عليهم نعمته ، وتبطئ عنهم نقمته ] ثمّ يسقط من أقدارهم ويستدرجهم بما كانوا يعملون { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } والعمه : عمى القلب وظلمة البصيرة ، وأثره الحيرة والإضطراب ، وعدم الإهتداء للصواب . أقول : هذا ملخّص سياق الدرس . وقال الراغب : العمه ، التردّد في الأمر من التحيّر : يقال : عمه فهو عمه وعامه وجمعه عمّه ( بالتشديد ) . اهـ . والإستهزاء : فعل الهزء - بسكون الزاي وضمها - وقصده بالعمل . وهو اسم من هزئت به ومنه ، وفي لغة هزأت - فهو من بابي تعب ونفع - واستهزأت به أي إستخفت به وسخرت منه . وقال البيضاويّ : والإستهزاء : السخريّة والإستخفاف ، يقال : هزأت به واستهزأت بمعنى - كأجبت واستجبت - وأصله الخفّة ، من الهزؤ وهو القتل السريع ، يقال : هزأ فلان إذا مات ، وناقته تهزأ به ، أي تسرع وتخفّ ، وقال الراغب : الهزء مزح في خفية ، وقد يقال لما هو كالمزح . ثمّ قال : والإستهزاء ارتياد الهزؤ ، وإن كان قد يعبّر به عن تعاطي الهزؤ كالإستجابة في كونها ارتياداً للإجابة ، وإن كان يجري مجرى الإجابة . ثمّ قال بعد ذكر آيات من الشواهد : والإستهزاء من الله في الحقيقة لا يصحّ كما لا يصحّ من الله اللهو واللعب تعالى الله عنه . وقوله : { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي يجازيهم جزاء الهزؤ ، ومعناه : أنّه أمهلهم مدّة ، ثمّ أخذهم مغافصة ( أي مفاجأة على غرّة ) فسمّى إمهاله إيّاهم إستهزاءً من حيث إنّهم إغترّوا به إغترارهم بالهزؤ ، فيكون ذلك كالإستدراج من حيث لا يعلمون . اهـ . وأشهر الأقوال : أنّ معناه يجازيهم بالعقاب على استهزائهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } [ الحديد : 13 ] الآية وقال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29 - 30 ] إلى قوله : { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } [ المطففين : 34 - 35 ] وقيل : إنّ إستهزاءه تعالى بهم إجراؤه أحكام المسلمين عليهم في الدنيا كما مرّ في خداعه لهم . والطغيان : مجاوزة الحدّ في العصيان . مأخوذ من طغيان الماء وهو تجاوز فيضانه الحدّ المألوف . والمدّ : الزيادة في الشيء متّصلة به ، يقال : مدّ البحر زاد وارتفع ماؤه وأنبسط ومدّه الله قال تعالى : { وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] ومدّ البحر يقابله الجزر ، وهو انحسار مائه عن الساحل ونقصان إمتداده . ويسمّى السيل مدّاً من قبيل التسمية بالمصدر ، ومنه المدّة من الزمان ، والمدد - بالتحريك - للجيش . يقال مدّه وأمدّه . قال تعالى : { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } [ مريم : 75 ] وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] . والمعنى : إنّ سنة الله تعالى في الذين وصلوا إلى هذه الغاية من فساد الفطرة هو ما بيّنه بقوله فيهم : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 16 ] المشار إليهم بأولئك : هم الذين بيّنت حالهم الآيات السابقة بأنّهم يقولون : آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين إلخ ، وهو صريح في أنّ طغيانهم وعمههم من كسبهم ، ولم يجبروا عليه بخلق ربّهم . قال الأستاذ : وقد فسّروا " اشتروا " باستبدلوا وهو غير سديد ؛ لأنّ بين اللفظين فُصلاً في المعنى ، وكلّنا نعتقد - والحقّ ما نعتقد - أنّ القرآن في أعلى درج البلاغة ، لا يختار لفظاً على لفظ من شأنه أن يقوم مقامه ، ولا يرجّح أسلوباً على أسلوب يمكن تأدية المراد به ، إلاّ لحكمة في ذلك ، وخصوصيّة لا توجد في غير ما اختاره ورجّحه . ووجه اختياره " اشتروا " على استبدلوا ، أنّ الأوّل أخصّ من وجهين . أحدهما : إنّ الإستبدال لا يكون شراءً ، إلاّ إذا كان فيه فائدة يقصدها المستبدل منه ، سواء كانت الفائدة حقيقيّةً أو وهمية . ثانيهما : إنّ الشراء يكون بين متبايعين بخلاف الإستبدال ، فإذا أخذت ثوباً من ثيابك بدل آخر ، يقال : إنّك استبدلت ثوباً بثوب . فالمعنى الذي تؤدّيه الآية : إنّ أولئك القوم إختاروا الضلالة على الهدى لفائدة لهم بإزائها يعتقدون الحصول عليها من الناس ، فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح ، وهذا هو معنى الإشتراء والشراء ، ومثلهما البيع والإبتياع ، ولا يؤدّيه مطلق الإستبدال . ذلك بأنّه كان عندهم كتب سماويّة فيها مواعظ وأحكام ، وفيها بشارة بأنّ الله يرسل إليهم نبيّاً ، يحلّ لهم الطيبات ، ويحرّم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصر التقاليد ، وأغلال التقيّد بإرادة العبيد ، ويرعى جميع الأمم بقضيب من حديد ، فيرجع للعقول نعمة الإستقلال ، ويجعل إرادة الأفراد هي المصرِّفة للأعمال فكان عندهم بذلك حظّ من هداية العقل والمشاعر وهداية الدين والكتاب ، ولكن نجمت فيهم الأحداث والبدع ، وتحكّمت فيهم العادات والتقاليد ، وعلا سلطان ذلك كلّه على سلطان الدين ؛ فضلّ الرؤساء في فهمه ، بتحكيم تقاليدهم في أحكامه وعقائده ، بضروب من التحريف والتأويل ، وأهمل المرءوسون العقل والنظر في الكتاب بحظر الرؤساء وأثرتهم ، فكان الجميع على ضلالة في استعمال العقل وفي فهم الكتاب ، بعد أن كانا هدايتين ممنوحتين لهم لإسعادهم . وكانت المعاوضة عند الفريقين في ذلك بالمنافع الدنيويّة : للرؤساء المال والجاه والتعظيم والتكريم باسم الدين ، وللمرءوسين الإستعانة بجاه رؤساء الدين على مصالحهم ومنافعهم ، ورفع أثقال التكاليف ، بفتاوى التأويل والتحريف . هكذا استحبّوا العمى على الهدى - وهو العقل والدين - رغبةً في الحطام ، وطمعاً في الجاه الكاذب { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } في الدنيا ، إذ لم تثمر لهم ثمرة حقيقيةً ، بل خسروا وخابوا بإهمالهم النظر الصحيح ، الذي لا تقوم المصالح ولا تحفظ المنافع إلاّ به . وإسناد الربح إلى التجارة ، عربيّ في غاية الفصاحة ؛ لأنّ الربح هو النماء في التجر ، وهذه المعاوضة هي التي من شأنها أن تثمر الربح ، فإسناده إليها - نفياً أو إثباتاً - إسناد صحيح لا يحتاج إلى التأويل [ كأنّه قيل : فلم يكن نماء في تجارتهم . على أنّ ذلك التأويل المعروف من أنّ إسناد الربح إلى التجارة ؛ لأنّها سببه والوسيلة إليه ، وأنّ العبارة من المجاز العقليّ - تأويل يتّفق مع البلاغة ولا ينافيها ، ولا زال المجاز العقليّ من أفضل ما يزيّن البُلغاء به كلامهم . ويبلغون به ما يشاءون من تفخيم معانيهم ] . { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } في دينهم ؛ لأنّهم لم يأخذوه على وجهه ولم يفهموه حق فهمه أو ما كانوا مهتدين في هذه التجارة لأنهم باعوا فيها ما وهبهم الله من الهدى والنور بظلمات التقاليد وضلالات الأهواء والبدع التي زجّوا أنفسهم فيها . أو ما كانوا مهتدين في طور من الأطوار ، ولا مسّ الرشد قلوبهم في وقت من الأوقات ؛ لأنّهم نشؤوا على التقليد الأعمى من أوّل وهلة ، ولم يستعملوا عقولهم قطّ في فهم أسراره ، واقتباس أنواره . ولا يذهبنّ الوهم إلى أنّ اشتراء الضلالة بالهدى يفيد أنّهم كانوا مهتدين ، ثمّ تركوا الهدى للضلالة ، فيتناقض أوّل الآية مع آخرها ، إذ ليس كل مَنْ مُنح الهدى يأخذ به فيكون مهتدياً ، وهؤلاء حملوه ، فباعوه ولم يحملوه . وينظر إلى هذا الإشتراء ، ويشبهه الإستحباب في قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصّلت : 17 ] والله أعلم . ومن مباحث الأداء : قراءة حمزة والكسائي ( الهدى ) بالإمالة ، أي جعل مدّها بين الألف والياء ، وهي لغة بني تميم ، وعدم الإمالة لغة قريش وهي الفصحى ، ولمّا كان يعسر على لسان من اعتادها تركها ، أذن الله تعالى بها فيما . أقرأ جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ … } .