Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 174-176)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات متّصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين : فإذا كان الكلام لا يزال في محاجّة اليهود وأمثالهم ، فالأمر ظاهر ، وإذا قلنا إنّ الكلام قد دخل في سرد الأحكام ، تكون مقرّرة لحكم منها ، وهو ظاهرٌ أيضاً ، فقد تقدّم إنّ قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 168 ] تقريرٌ لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل ، وبيّنا ما كان عليه أهل الكتاب والمشركون في الأكل ، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق الأحكام ، وإباحته الطيّبات للناس بشرط أن يشكروه عليها ، وعلى هذا تكون هذه الآيات جارية على الرؤساء ، الذين يحرّمون على الناس ما لم يحرّم الله ، ويشرّعون لهم ما لم يشرّعه ، من حيث يكتمون ما شرّعه بالتأويل ، أو الترك ، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم ، في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه ، سواء كان ذلك في أمر العقائد ، ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أو الأكل والتقشّف ، وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك كما قال تعالى : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } [ الأنعام : 91 ] وفي حكمهم كلّ من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته ، لا لإظهار الحقّ وتأييده ، وهذا هو ما عبّر عنه بقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي الذين يخفون شيئاً ممّا أنزل الله من كتابه ، فلا يبلّغونه للناس مهما يكن موضوعه ، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم وإجتهادهم ، ويستبدلون بما يكتمونه ثمناً قليلاً من متاع الدنيا الفاني ، كالرشوة والجعل على الفتاوى الباطلة ، أو قضاء الحاجات عند الله تعالى ، وغير ذلك من المنافع المؤقتة ، إذ اتّخذوا الدين تجارة . والثمن القليل ، منه ما قاله المفسّر من استفادة الرؤساء من المرؤسين ، ومنه عكسه كما تقدّم غير مرّة . قال شيخنا : هذا النوع من البيع والشراء في الدين ، عامٌّ في الرؤساء الضالّين من جميع الأمم ، ومنه ما كان رؤساء اليهود يلاحظونه زمن التنزيل ، وهو حفظ ما بيدهم ، الذي يتوهّمون أنّه يفوتهم بترك ما هم عليه من التقاليد واتّباع ما أنزل الله بدلا منها ، وهذا هو شأن الناس في كلّ دعوة إلى إصلاح جديد غير ما هم فيه ، وإن كان يعدهم بخير منه في الدنيا والآخرة ، وكان ما هم فيه هو الفقر والذلّ والخذلان ، حاضرة أو منتظرة . ماذا كان شأن اليهود في زمن البعثة ؟ ذلّ وإضطهاد من جميع الأمم ، ولا سيّما النصارى ، فقد كانوا يسومونهم سوء العذاب ، ومنعوهم من دخول مدينتهم المقدّسة ، وأكرهوهم في بعض البلاد على التنصّر . ماذا كان شأن النصارى في زمن البعثة ؟ فقر حاضر ، وذلّ غالب ، وحجر على العقول ، ومنع للحرية في الرأي والعلم ، وتحكّم في الإرادة ، وسيطرة على خطرات القلوب وأهواء النفوس . كان هذا عامّاً في كلّ قطر وكلّ مملكة ، وكان بين الطوائف بعضها مع بعض حروب تشبّ ، وغارات تشنّ ، ودماء تسفك ، وحقوق تنتهك ، وكانوا على هذا كلّه يتوهّمون أنّ الإسلام سيخرجهم من سعادة إلى شقاء ، ومن نعمة إلى بلاء ، هب أنّ بعضهم كان له شيء من المال ، وبقيّة من الجاه ، أليس هو من فخفخة الدنيا الزائلة ، ألم يكن منغّصاً بالخوف عليه والمنازعة فيه ؟ هب إنّه كان لبعض شعوبهم طائفة من القوّة ، ألم تكن تشبه الزوبعة تعصف ولا تلبث أن تزول ؟ نعم ، إنّ ما كان يغرّ هؤلاء وهؤلاء ، لم يكن موضعاً للغرور ، لأنّه متاع حقير ، وثمن قليل ، وهو غير قائم على أساس ثابت ، ولذلك زال بظهور الإسلام وإنتشاره ، وتقوّضت تلك السلطة واندكّت صروح تلك العظمة ، وأُجلي اليهود من جزيرة العرب ، وزال ملك غيرهم من كلّ بلاد رفضوا فيها دعوة الإسلام ، وهذا شأن الباطل لا يثبت أمام الحقّ ، فإنّ أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها ، وإنما بقاؤها في نوم الحقّ عنها ، وحكم الحقّ هو الثابت بذاته ، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به ، مجتمعين عليه . وقال المفسّرون : إنّ هذا الحكم يصدق على المسلمين ، كما يصدق على أهل الكتاب ؛ لأنّ الغرض تقرير الحكم ، وهو عامّ كما يدلّ لفظه ، وكما يليق بعدل الله تعالى ربّ العالمين ، وكما هو ظاهر معقول من إطّراد سنّة الله تعالى في تأييد أنصار الحقّ وخذل أهل الباطل ، فإنّها واضحة جليّة للمتأمّلين . كلّ ثمن يؤخذ عوضاً عن الحقّ فهو قليل ، إن لم يكن قليلا في ذاته فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحقّ الثابتة بذاتها ، والدائمة بدوام المحافظة على الحقّ ، ولو دام للمبطل ما يتمتّع به من ثمن الباطل إلى نهاية الأجل - وما هو إلاّ قصير - فماذا يفعل وقد فاتته بذلك سعادة الروح ونعيم الآخرة ، بإختياره الباطل على الحقّ { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] . قد يعترض الناظر في التاريخ ما قرّره الأستاذ الإمام في هذا المقام من ذهاب عزّ الذين قاوموا دعوة الإسلام وكتموا الحقّ من اليهود والنصارى ، بأنّ عيشة اليهود كانت بعد الإسلام خيراً منها قبله ، لأنّهم كانوا مضطهدين مقهورين بحكم النصارى الشديد وتعصّبهم الفاحش ، فساوى الإسلام بينهم وبين النصارى والمسلمين ، وأعطاهم كمال الحرية في دينهم ودنياهم ، فحسنت حالهم في الشرق والغرب وكثر ما بأيديهم ولم يقلَّ . وأنّ المسلمين لم يقووا على جميع نصارى أوروبا ، فبقي لكثير من الممالك سلطانها وما تتمتّع به ، وكذلك بعض الممالك الوثنية ، وهم أعرق في الباطل من النصارى . والجواب عن ذلك : إنّ يهود الحجاز هم الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكتمون ما عرفوا من نعته ، ويظاهرون المشركين عليه ، فهم الذين قاوموا الحقّ بالباطل ، فلقوا جزاءهم الذي تمّ بجلائهم من جزيرة العرب أو الحجاز . وأمّا يهود سورية وغيرها ( كالأندلس ) فقد كانوا يساعدون الدعوة الإسلامية ودعاتها حتّى من لم يؤمن منهم ؛ ليخلصوا من ظلم النصارى وإستبدادهم فيهم ، فنالوا من حسن الجزاء بمقدار قربهم من الحقّ ، ولو آمنوا وقبلوا الحقّ كلّه وأيّدوه لذاته ظاهراً وباطناً ، لأوتوا أجرهم مرّتين ، وجزاءهم ضعفين ، وكانوا أئمّة وارثين ، وسادة عالين . وأمّا الذين سلم لهم ملكهم ومتاعهم ، فلم يكن لهم ذلك بضعف حقّ الإسلام عن باطلهم ، فإنّ الذين حاولوا فتح ما وراء الأندلس من أوربا لم يكن غرضهم كلّهم نشر دعوة الحقّ ، وإنّما كان غرضهم عظمة الملك والغنائم ، وليس من الحقّ أن يعتدي قوم على قوم لأجل سلب ما في أيديهم ، فإنّ المعتدي مبطل ، والمدافع محقّ في الدفاع عن نفسه وبلاده ، وإن كان مبطلا في عمله واعتقاده ، فهو جديرٌ بأن يكون له الظفر إذا أخذ له أهبّته ، وأعدّ له عدّته ، وقس على هذا سائر الممالك التي لم يقو المسلمون عليها بعد ترك الدعوة لأجل الهداية . والإسلام لا يبيح الحرب لذاتها وقد حرّم الاعتداء ، وإنّما يوجب تعميم الدعوة إلى الحقّ والخير ، فمن عارضها وجب جهاده عند القدرة ، حتّى يقبلها أو يكون لأهلها السلطان الذي يتمكّنون به من نشرها بدون معارض أي إنّه يوجب الجهاد ما دام الناس يفتنون في الدين - أي لا تكون لهم حريةٌ فيه ولا في الدعوة إليه - أو يعتدى عليهم وعلى بلادهم { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [ البقرة : 190 ] { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] وسيأتي تفسيرها قريباً . { أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ } أي أولئك الكاتمون لكتاب الله والمتجرون به ، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلاّ ما يكون سبباً لدخول النار وانتهاء مطامعهم بعذابها ، وهذا أظهر من القول بأنّهم لا يأكلون في دار الجزاء إلاّ النار ، أو طعام النار من الضريع والزقوم ، وعبّر عن المنافع بالأكل ؛ لأنّه أعمّها ، والمعنى : لا تملأ بطونهم إلاّ النار ، فإنّ الأكل لمّا كان لا يكون إلاّ في البطن ، كان لا بدّ من نكتة لذكر البطن ، إذا قيل أكل في بطنه ، ورأيناهم يعبّرون بذلك عن الإمتلاء ، يقولون : أكل في بطنه ، يريدون ملأ بطنه ، والأصل أن يأكل الإنسان دون إمتلاء بطنه ، والمراد : إنّه لا يشبع جشعهم ، ولا يذهب بطمعهم ، إلاّ النار التي يصيّرون إليها ، على حدّ ما ورد في الحديث " ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب " واستشهدوا للتعبير بأكل النار عن سبب عذابها بقول القائل في زوجه : @ دمشق خذيها لا تفتك فليلة تمرّ بعودي نعشها ليلة القدر أكلت دماً إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيّبة النشر @@ فإنّه يريد بالدم الديّة التي هو سببها - وأكلها عار عندهم - فهو يدعو على نفسه بأن يبتلى بأكل الديّة إن لم يرع زوجه ، ويزعجها بضرّة هي من الجمال بالصفة التي ذكرها ، وأكل الديّة يتوقّف على أن يقتل بعض أهله الذين له الولاية عليهم ، قال تعالى : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } قالوا : إنّ الكلام كناية عن الإعراض عنهم والغضب عليهم ، وهي كناية مشهورة شائعة إلى اليوم ، وجمعوا بهذا بين الآية وبين قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } [ الأعراف : 6 ] وقيل لا يكلّمهم بما يحبّونه { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي لا يطهّرهم من ذنوبهم بالمغفرة والعفو وقد ماتوا وهم مصرّون على كفرهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي شديد الألم . ثمّ قال فيهم : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله إلخ ، أو المجزيون عليه بما ذكرهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى في الدنيا ، فأمّا الهدى ، فهو كتاب الله وشرعه { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وأمّا الضلالة ، فهي العماية التي لا يهتدي بها الإنسان لمقصده ، وتكون باتّباع الهوى وآراء الناس في الدين ، وليس لأحد أن يقول في الدين برأيه . وهذه الآراء لا ضابط لها ولا حدّ ، فأهلها في خلاف وشقاق دائم كما سيأتي ، فمن أجاز لنفسه اتّباع أقوال الناس في الاعتقاد والعبادة وأحكام الحلال والحرام ، فقد ترك الهدى الواضح المبين الذي لا خلاف فيه ، وصار إلى تيه من الآراء مشتبه الأعلام ، يضلّ به الفهم ، ولا يهتدي فيه الوهم ، وذلك عين اتباع الهوى ، وشراء الضلالة بالهدى ، فإنّ الله وحده هو الذي يبيّن حدود العبودية ، وحقوق الربوبية ، فلا هداية إلاّ بفهم ما جاء به رسله عنه { وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ } أي واشتروا العذاب بالمغفرة في الآخرة ، وهذا أثر ما قبله ، فإنّ متّبع الهدى هو الذي يستحقّ المغفرة لما يفرط منه ، وما يلمّ هو به من السوء ، ومتّبع الضلال هو المستحقّ للعذاب ، ومن دعي إلى الحقّ يعرف هذا ، فإذا هو اختار الضلالة بعد صحّة الدعوة وقيام الحجّة ، فقد اشترى العذاب بالمغفرة ، وكان هو الجاني على نفسه ، إذ استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، غروراً بالعاجل ، وإستهانة بالآجل { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } أي إنّ صبرهم على عذاب النار الذي تعرّضوا له مثار العجب ، ذلك بأنّ عملهم الموصوف في الآيتين هو العمل الذي يسوقهم إلى عذاب النار ، فتهوّكهم فيه إنّما هو تهوّك من لا يبالي به ، كأنّه ممّا يطيقه ويمكنه الصبر عليه ، فلا يترك ضلالته اتّقاء له ، وصيغة التعجّب - قالوا - يراد بها تعجيب الناس من شأنهم ، إذ لا تتصوّر حقيقة التعجّب من الله تعالى ، إذ لا شيء غريب عنده عزّ وجلّ ولا مجهولٌ سببه ، وهو العالم بظواهر الأشياء وخوافيها ، وحاضرها عنده كماضيها وآتيها { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [ سبأ : 3 ] والصبر على النار غير واقع منهم فيتعجّب منه حالا ، ولا متوقّع فيتعجّب منه مآلا ، فلا صبر هنالك يتعجّب منه ، وإنّما حالهم في تهوّكهم وإنهماكهم في العبث بدين الله ، هو الذي جعل موضع التعجّب للتنفير والتشنيع عليهم ، ولكن صحّ في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى ، وطريقة السلف في مثله : أن يقال عجب يليق به ، ليس كعجب البشر ممّا يكبرون أمره ويجهلون سببه ، ويتأوّله الأكثرون بالرضى من المتعجّب منه . وقال الأستاذ الإمام في العبارة ما معناه مبسوطاً : إنّ الكلام في أكلهم النار والتعجّب من صبرهم على النار ، هو تصوير لحالهم وتمثيل لمآلهم . أمّا الثاني فظاهر ، وأمّا الأوّل ، فيتجلّى لك إذا تمثّلت حال قوم عندهم كتاب يؤمنون أنّه من الله ، ويؤمنون بلقاء الله ، وقد كتموا ما أنزل الله فيه بالتحريف والتأويل ، كما فعل اليهود بكتمان وصف الرسول ، وهم يقارَعون بالدلائل العقلية ، ويذكرون بآيات الله وأيّامه ، فيشعرون بجاذبين متعاكسين : جاذب الحقّ الذي عرفوه ، وجاذب الباطل الذي ألفوه ، ذاك يحدث لهم هزّة وتأثيراً ، وهذا يحدث لهم إستكباراً ونفوراً ، وقد غلب عقولهم ما عرفوا ، وغلب قلوبهم ما ألفوا ، فثبّتوا على ما حرّفوا وانحرفوا ، وصاروا إلى حرب عوان ، بين العقل والوجدان ، يتصوّرون الخطر الآجل ، فيتنغّص عليهم التلذذ بالعاجل ، ويتذوّقون حلاوة ما هم فيه ، فيؤثرونه على ما سيصيرون إليه . أليس هذا الشعور بخذل الحقّ ونصر الباطل ، وإختيار ما يفنى على ما يبقى ، ناراً تشبّ في الضلوع ؟ أليس ما يأكلونه من ثمن الحقّ ضريعاً لا يسمن ولا يغني من جوع ؟ بلى فإنّ عذاب الباطن أشدّ من عذاب الظاهر ، كما يومئ إليه قول الشاعر : @ دخول النار للمهجور خير من الهجر الذي هو يتّقيه لأنّ دخوله في النار أدنى عذاباً - من دخول النار فيه @@ فهذا تأويل وجيه لأكلهم النار ، وللتعجّب من صبرهم على النار ، نزل به الوحي الإلهي وظهر على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وإنّ أرباب الأرواح العالية ، والمرائي الصافية ، تتمثّل لهم المعاني بأتمّ ما تتمثّل به لسائر الأرواح المحجوبة بالظواهر ، المخدوعة بالمظاهر ، التي يصرفها الاشتغال بالحسّ ، من معرفة مراتب النفس . فلا غرو إذا تمثّلت للنبي صلى الله عليه وسلم حال أولئك الجاحدين المعاندين الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، واتّخذوا إلههم الهوى ، وواثبوا الحقّ يقارعهم ويقارعونه ، وناصبوا الدليل ينازعهم وينازعونه ، بحال الذي يتقحّم في النار ، ويكره نفسه على الإصطبار ، كما يتمثّل ذلك الثمن القليل الذي باعوا به الحقّ ناراً يزدردونها ، إذ كان آلاماً يتحمّلونها . فمكابرة البرهان أشدّ العذاب عند العقلاء ، ومحاربة القلب ( الضمير والوجدان ) أوجع الآلام عند الفضلاء ، فالعاقل يستطيع أن يمنع نفسه من أكثر اللذّات الحسيّة ، ولكنّه لا يستطيع أن يمنع عقله العلم وذهنه الفهم ، فقد قيل ( لديوجين ) لا تسمع ، فسدّ أذنيه . فقيل له لا تبصر ، فأغمض عينيه ، فقيل له : لا تذق فقبل ، فقيل له لا تفهم فقال لا أقدر . فلا غرو إذا مثّلت للنبي حال أولئك المكابرين للحقّ - مما ذكر - وأظهرته البلاغة بصيغة التعجّب تارةً ، وبصورة أكل النار تارةً . قال تعالى في تعليل ما ذكر : { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } أي ذلك الحكم الذي تقرّر في شأنهم ، هو بسبب أنّ الكتاب جاء بالحقّ ، والحقّ لا يغالب ولا يقاوى ، فمن غالبه غُلب ، ومن خذله خذل . ثمّ قال : { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزّله الله للحكم في الخلاف وجمع الكلمة على اتّباع الحقّ ، لفي شقاق وعداء بعيد عن سبيل الحقّ ، فأنّى يهتدون إليه ، وكلّ منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من مذهب أو رأي فيه ، حتى صار ( أي الكتاب ) وهو مزيل الاختلاف أعظم أسبابه ، يطرق لأجل إزالته - والحكم فيه - كلّ باب غير بابه ؟ والشقاق : الخلاف والتعادي ، وحقيقته أن يكون كلّ واحد من الخصمين في شقّ ، أي في جانب غير الذي فيه الآخر ، والمختلفون في الدين ينأى كلّ بجانبه عن الآخر ، فيكون الشقاق بينهما بعيداً كما نرى . هذا حكم آخر في الكتاب غير حكم كتمانه ، فهو يفهمنا إنّ الاختلاف فيه بُعد عن الحقّ ككتمانه ؛ لأنّ الحقّ واحد ، وهو ما يدعو إليه الكتاب ، والمختلفون لا يدعون إلى شيء واحد ، ولا يسلكون سبيلا واحدة { هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] وهذا دليل على إنّه لا يجوز لأهل الكتاب الإلهي أن يقيموا على خلاف في الدين ، ولا أن يكونوا شيعاً كل يذهب إلى مذهب { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] ولمّا كان اختلاف الفهم ضرورياً - لأنّه من طباع البشر - وجب عليهم أن يتحاكموا فيه إلى الكتاب والسنّة حتّى يزول ، ولا يجوز أن يقيموا عليه { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] فلا عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم بعد هذا البيان الذي جعل لكلّ مشكل مخرجاً . الشقاق أثر طبيعي للاختلاف ، والاختلاف في الأمّة أثر طبيعي للتقليد والإنتصار للرؤساء الذين اتّخذوا أنداداً - ولو بدون رضاهم ولا إذنهم - إذ لولا التقليد لسهل على الأمّة أن ترجع في كلّ عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد ، بعرضه على كتاب الله وسنّة رسوله ، مثال ذلك : إنّ الكتاب والسنّة صريحان في أنّ النكاح لا يصحّ إلاّ إذا تولّى العقد وليّ المرأة برضاها ، أو غيره بإذنه ، وقد أجمع الصحابة على هذا عملا ، ونقل عن أعلمهم قولا ، ولم ينقل أحد فيه خلافاً صحيحاً ، فإذا وجد للحنفية في المسألة قولان : أحدهما : مخالف للنصوص ، وهو أنّ للبالغة الراشدة أن تزوّج نفسها . وثانيهما : إنّه ليس لها ذلك وهو الموافق للنصوص . أفلم يكن من الواجب على المسلمين - وقد اختلف علماؤهم في هذه المسألة - أن يعرضوها على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر المجتهدين ، ويردّوا الرواية المخالفة ويعملوا بالموافقة ؟ بلى ولكن التقليد ، هو الذي أوقعهم في الشقاق البعيد . ويتوهّم بعضهم أنّ ترك أقوال بعض الأئمّة إهانة لهم ، وهذا غير صحيح ، بل هو عين التعظيم لهم ، والإتّباع لسيرتهم الحسنة . ولو فرضنا إنّه إهانة - وكان يتوقّف عليها اتّباع هدى كتاب الله وسنّة رسوله - أفلا تكون واجبة ، ويكون تعظيم الكتاب والسنّة مقدّماً عليه ؛ لأنّ إهانتهما كفر وترك للدين ؟ على أنّ ترك أقوال الأئمّة واقعٌ ما له من دافع ، فإنّ أتباع كلّ إمام تاركون لأقوال غيره المخالفة لمذهبهم ، بل ما من مذهب إلاّ وقد رجّح بعض علمائه أقوالا مخالفة لنصّ الإمام ، ولا سيّما الحنفية . هذا ، وإنّ الكتاب لا مثار فيه للخلاف والنزاع إذا صحّت النيّة ، فكلّ من يتعلّم العربية تعلّماً صحيحاً ، وينظر في سنّة النبي وسيرته وما جرى عليه السلف من أصحابه والتابعين لهم ، يسهل عليه أن يفهمه ، وما تختلف فيه الأفهام ، لا يقتضي الشقاق ، بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم والفهم أن ينظروا في الفهمين المختلفين ، وطرق الترجيح بينهما ، وما ظهر لكلّهم أو أكثرهم إنّه الراجح يعتمدونه ، إذا كان يتعلّق بمصلحة الأمّة والأحكام المشتركة بينها ، وما عساه ينفرد به بعض الأفراد من فهم خاصّ بمعارفه ، يكون حجّة عليه دون غيره ، فهو لا يقتضي شقاقاً ؛ لأنّ الشقاق فيه معنى المشاركة . والله أعلم وأحكم . وأُزيد هذا إيضاحاً بما حقّقته في هذه المسألة بعد الطبعة الأولى لهذا الجزء ، وهو : إنّ ما كان قطعي الدلالة من النصوص ، فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتّباعه عملاً وقضاء ، وأنّ ما كان ظنّي الدلالة ، فهو موكولٌ إلى إجتهاد الأفراد في التعبّدات والمحرّمات ، وإلى أولي الأمر في الأحكام القضائية ، وسنعود إلى بيان هذا في تفسير { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [ البقرة : 219 ] من هذا الجزء .