Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 172-173)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بيّن الله تعالى حال الذين يتّخذون الأنداد من دونه ، وأشار إلى أنّ سبب ذلك حبّ الحطام ، وإرتباط مصالح المرؤسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه ، وخاطب الناس كلّهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض ، إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط أن تكون حلالا طيّباً ، وبيّن سوء حال الكافرين المقلِّدين الذين يقودهم الرؤساء ، كما يقود الراعي الغنم ؛ لأنّهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ، ثمّ وجّه الخطاب إلى المؤمنين خاصّة ؛ لأنّهم أحقّ بالفهم ، وأجدر بالعلم ، وأحرى بالإهتداء فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } الأمر هنا للوجوب لا للإباحة ، والطيّبات : ما طاب كسبه من الحلال ، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تديّناً لتعذيب النفس ، وهذا تنبيه بعد ما تقدّم إلى عدم الإلتفات إلى أولئك الحمقى ، الذين أبيحت لهم خيرات الأرض فطفقوا يحلّون بعضها ويحرّمون بعضاً بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم ، وأعطوا ميزاناً يميّزون به الخواطر الشيطانية الضارّة من غيرها ، فما أقاموا به ولا له وزناً ، وبيّن لهم الحرام من الحلال ، ولكنّهم نفضوا أيديهم من عزّ الاستقلال بالإستدلال ، وهوّن عليهم التقليد ذلّ القيود والأغلال ، فهو يقول كلوا من هذه الطيّبات ولا تضيّقوا على أنفسكم مثلهم { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ } الذي خلقها لكم وسهّل عليكم أسبابها ، بأن تتّبعوا سنّته الحكيمة في طلب هذه الطيّبات وإستخراجها ، وفي إستعمالها فيما خلقت لأجله ، وبالثناء عليه جلّ جلاله وعمّ نواله ، وإعتقاد أنّ هذه الطيّبات من فضله وإحسانه ، ليس لمن اتّخذوا أنداداً له تأثير فيها ، ولذلك قال : { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي إن كنتم تخصّونه بالعبادة ، وتؤمنون بإنفراده بالسلطة والتدبير ، فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم ، ولا تجعلوا له أنداداً تطلبون منهم الرزق أو ترجعون إليهم بالتحليل والتحريم ، فإنّ ذلك له وحده ، وإلاّ كنتم مشركين به ، كافرين لنعمه ، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتّخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق ، ورؤساء يشرّعون لهم من الدين ما لم يشرّعه ، ويحلّون لهم ويحرّمون عليهم ما لم يشرّعه لهم . ومن الشكر له تعالى : إستعمال القوى التي غذّيت بتلك الطيّبات في نفع أنفسكم وأمّتكم وجنسكم . وليس من الطيّبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم ، بل هو من الخبائث والسحت . الأستاذ الإمام : لا يفهم هذه الآية حقّ فهمها إلاّ من كان عارفاً بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله ، فإنّ المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقاً وأصنافاً ، منهم من حرّم على نفسه أشياء معيّنة بأجناسها أو أصنافها ، كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وكبعض الحيوانات عند غيرهم ، وكان المذهب الشائع في النصارى أنّ أقرب ما يتقرّب به إلى الله تعالى تعذيب النفس وإحتقارها وحرمانها من جميع الطيّبات المستلذّة ، وإحتقار الجسد ولوازمه ، وإعتقاد أن لا حياة للروح إلاّ بذلك ، وأنّ الله تعالى لا يرضى منّا إلاّ إحياء الروح ، وكان الحرمان من الطيّبات على أنواع : منها ما هو خاصّ بالقديسين ، أو بالرهبان والقسيسين ، ومنها ما هو عامّ كأنواع الصوم الكثيرة ، كصوم العذراء وصوم القديسين ، وفي بعضها يحرّمون اللحم والسمن دون السمك ، وفي بعضها يحرّمون السمك واللبن والبيض أيضاً ، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء ، وليس لها أثر ينقل عن التوراة ، أو عن المسيح عليه السلام ، وبذلك كانوا أنداداً ، ونزل في شأنهم { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] وتقدّم بيان ذلك وقد سرت إليهم هذه الأحكام بالوراثة عن آبائهم الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيراً من الطيّبات ، ويرون أنّ التقرّب إلى الله محصور في تعذيب النفس وترك حظوظ الجسد ، إذ رأوا في دينهم وفي سيرة المسيح وحواريه من طلب المبالغة في الزهد ما يؤيّدها . وقد تفضّل الله تعالى على هذه الأمّة بجعلها أمّة وسطاً تعطي الجسد حقّه والروح حقّها ، كما تقدّم في تفسير { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] فأحلّ لنا الطيّبات لتتّسع دائرة نعمه الجسدية علينا ، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقليّة ، فلم نكن جثمانيين محضاً كالأنعام ، ولا روحانيين خلّصاً كالملائكة ، وإنّما جعلنا أناسي كملة ، بهذه الشريعة المعتدلة ، فله الحمد والشكر والثناء الحسن . ظهر بهذا التقرير : إنّ الآية متّصلة بما قبلها ومتمّمة له . وقال بعض المفسّرين وله وجه فيما قال : إنّ ما تقدّم من أوّل السورة إلى ما قبل هذه الآية ، كلّه في القرآن والرسالة وأحوال المنكرين للداعي ، وما جاء فيها من الأحكام ، فإنّما جاء بطريق العرض والإستطراد ، وهذه الآية ابتداءً قسم جديد من الكلام ، وهو سرد الأحكام ، فإنّه يذكر بعدها أحكام محرّمات الطعام وأحكام الصوم والحجّ والقصاص والوصيّة والنكاح والطلاق والرجعة والعدّة والإيلاء والرضاع وغير ذلك ، وينتهي هذا القسم بما قبل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ } [ البقرة : 243 ] الآية ، ولا غرو فإنّ بين كلّ قسم وآخر في القرآن من التناسب مثل ما بين كلّ آية وأخرى في القسم الواحد { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] . بعد ذكر إباحة الطيّبات ذكر المحرّمات فقال تبارك اسمه : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } هذا حصرٌ لمحرّمات الطعام من الحيوان بصيغة " إنّما " الدالّة على ما سبق الإعلام به وهو آية سورة الأنعام ، التي ورد فيها حصر التحريم في هذه الأربعة بصيغة الإثبات بعد النفي ، وإنّما حرّم الميتة لما في الطباع السليمة من استقذارها ، ولما يتوقّع من ضررها ، فإنّها إمّا أن تكون ماتت بمرض سابق أو بعلّة عارضة ، وكلاهما لا يؤمن من ضرره ؛ لأنّ المرض قد يكون معدياً ، والموت الفجائي يقتضي بقاء بعض الأشياء الضارّة في الجسم ، كالكربون الذي يكون سبب الإختناق ، هذا ما قاله الأستاذ الإمام ويزاد عليه : عدم القصد إلى إماتتها بعمل الإنسان ، وهو سبب الفرق بين المخنوقة والمنخنقة التي هي في معنى الميتة حتف أنفها ، ولذلك كان في معنى الميتة كلّ ما زالت حياته بغير قصد الذكاة كالمنخنقة والموقوذة - إلى آخر ما ذكر في آية المائدة . { وَٱ ؛ لدَّمَ } أي المسفوح كما في آية الأنعام ، فإنّه قذر لا طيّب ، وضارّ كالميتة { وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } فإنّه قذر ؛ لأنّ أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات ، وهو ضارّ في جميع الأقاليم ، ولا سيّما الحارّة كما ثبت بالتجربة ، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتّالة ، ويقال : إنّ له تأثيراً سيّئاً في العفّة والغيرة { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } وهو ما يذبح ويقدّم للأصنام أو غيرها ممّا يعبد . والمنع من هذا ديني محض ، لحماية التوحيد ؛ لأنّه من أعمال الوثنية ، فكلّ من أُهلّ لغير الله على ذبيحة فإنّه يتقرّب إلى من أُهلّ باسمه تقرّب عبادة ، وذلك من الإشراك والإعتماد على غير الله تعالى . وقد ذكر الفقهاء : إنّ كلّ ما ذكر عليه اسم غير الله - ولو مع اسم الله - فهو محرّم ، وعدّ منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيراً من قولهم عند الذبح - لا سيّما ذبح المنذور - بسم الله ، الله أكبر ، يا سيّد ، يدعون السيّد البدوي أن يلتفت إليهم ، ويتقبّل النذر ويقضي حاجة صاحبه ، قال : وكيفما أوّلته فهو محرّم ، ومثل ذكر السيّد ، ذكر الرسول أو المسيح ، إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها ، فهي تذبح وتؤكل باسمه لا يشاركه في ذلك سواه ، ولا يتقرّب بها إلى من عداه ، ممّن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك ؛ لأنّه غير واضع للدين . { فَمَنِ ٱضْطُرَّ } إلى الأكل ممّا ذكر ، بأن لم يجد ما يسدّ به رمقه سواه { غَيْرَ بَاغٍ } له أي غير طالب له ، راغب فيه لذاته { وَلاَ عَادٍ } متجاوز قدر الضرورة { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } لأنّ الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعاً ، أشدّ ضرراً من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير ، بل الضرر في ترك الأكل محقّق ، وهو في فعله مظنون ، وربّما كانت شدّة الحاجة إلى الأكل مع الإكتفاء بسدّ الرمق مانعةٌ من الضرر ، وأمّا ما أهلّ به لغير الله ، فمن أكل منه مضطرّاً ، فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ولا استحسانه { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 173 ] إذ حرّم على عباده الضارّ ، وجعل الضرورات بقدرها ، لينتفي الحرج والعسر عنهم ، ووكّل تحديدها إلى إجتهادهم ، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذّر ضبطه . وفسّر الجلال كلمة { بَاغٍ } بالخارج على المسلمين ، و { عَادٍ } بالمعتدي عليهم بقطع الطريق ، قال : ويلحق بهم كلّ عاص بسفره ، كالآبق والمكاس وعليه الشافعي . قال الأستاذ الإمام : ولا خلاف بين المسلمين في أنّ العاصي كغيره ، يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة ، ويجب عليه توقّي الضرر ، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا . فكيف لا تتناوله إباحة الرخص . ثمّ إنّ المناسب للسياق أن تحدّد الضرورة التي تجيز أكل المحرّم ، وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدّد لها ، وهو موافق للغة ، كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف ( ما نبغي ) وفي الحديث الصحيح " يا باغي الخير هلم " وفي التنزيل { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } [ الكهف : 28 ] أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم ، فالكلام في تحديد الضرورة ، وتمام بيان حكم ما يحلّ ويحرم من الأكل ، لا في السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمّة . وإنّما كان هذا التحديد لازماً ، لئلاّ يتّبع الناس أهواءهم في تفسير الإضطرار إذا هو وكّل إليهم بلا حدّ ولا قيد ، فيزعم هذا أنّه مضطرّ وليس بمضطرّ ، ويذهب ذلك بشهوته إلى ما وراء حدّ الضرورة ، فعلم من قوله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } كيف تقدّر الضرورة بقدرها ، والأحكام عامّة يخاطب بها كلّ مكلّف ، لا يصحّ إستثناء أحد إلاّ بنصّ صريح من الشارع ، ويذكر بعض المفسّرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة ، كحلّ الإنتفاع بجلدها وغير ذلك ممّا ليس بأكل ، وقد قلنا إنّنا لا نتعرّض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدلّ عليها عبارته ، إذ يجب أن يبقى دائماً فوق كلّ خلاف . هذا ملخّص ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس ، واقتصرت عليه في الطبعة الأولى وقرأه هو فيها . وأقول الآن : إنّه رحمه الله كانت خطّته الغالبة فيه ، ترك ذكر المسائل الخلافية التي لا يدلّ عليها القرآن ، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا ، وربّما يكون ذكر الخلاف وسيلة إلى بيان كونه فوق كلّ خلاف . وقد زاد المفسّرون على هذه المحرّمات - تبعاً لفقهائهم - محرّمات أخرى استدلّوا عليها بأحاديث آحادية ، في دلالتها نظرٌ ، وبعموم تحريم الخبائث وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر ، وقد حقّقت هذه المسألة في تفسير { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ } [ الأنعام : 145 ] إلخ . وفنّدت ما قيل في تأويلها بما ظهر به أنّ القرآن فوق كلّ خلاف . ومن مباحث البلاغة في الآية : إنّ ذكر { غَفُورٌ } له فيها نكتةٌ دقيقةٌ لا تظهر إلاّ لصاحب الذوق الصحيح في اللغة ، فقد يقال : إنّ ذكر وصف الرحيم ينبئ بأنّ هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية ، وأمّا الغفور فإنّما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلاّت والتوبة عن السيّئات . والجواب عن هذا : إنّ ما ذكر في تحديد الإضطرار دقيقٌ جدّا ، ومرجعه إلى اجتهاد المضطرّ ، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك - بالتدقيق - وأن يقف عنده ، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره ، فالله تعالى يبشّره بأنّ الخطأ المتوقّع في الإجتهاد في ذلك مغفورٌ له ، ما لم يتعمّد تجاوز الحدود ، والله أعلم .