Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 180-182)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وجه التناسب والإتّصال بين هذه الآيات وما قبلها ، هو أنّ القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت ، يذكّر بما يطلب ممّن يحضره الموت وهو الوصيّة ، والخطاب فيه موجّه إلى الناس كلّهم : بأن يوصّوا بشيء من الخير ، ولا سيّما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته ؛ لتكون خاتمة أعمالهم خيراً ، وهو على نسق ما تقدّم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الأمّة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد ، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتمّ إلاّ بالتعاون والتكافل والإئتمار والتناهي فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الإئتمار { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي فرض عليكم يا معشر المؤمنين إذا حضرت الواحد منكم أسباب الموت وعلاماته { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي إن كان له مال كثير يتركه لورثته { ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ } أي كتب عليكم في هذه الحالة أن توصّوا للوالدين والأقربين بشيء من هذا الخير بالوجه المعروف الذي لا يستنكر لقلّته بالنسبة إلى ذلك الخير ، ولا بكثرته الضارّة بالورثة ، بأن لا يزيد الموصّى به لهم ولغيرهم من الأجانب عن ثلث المتروك للوارثين . والوصيّة : الاسم من الإيصاء والتوصية ، وتطلق على الموصّى به من عين أو عمل ، وهي مندوبة في حال الصحّة وتتأكّد في المرض ، وظاهر الآية إنّها تجب عند حضور أمارات الموت للوالدين والأقربين ، وفيه الخلاف الآتي ، يقال : أوصى ووصّى فلاناً بكذا من العمل أو المال ، ووصّى بفلان ، وأوصى له بكذا من مال أو منفعة . وأوصاه فيه - أي في شأنه ، وإيصاء الله بالشيء وفيه أمره . وفسّروا الخير بالمال ، وقيّده الأكثرون بالكثير ، أخذاً من التنكير ، ولم يقيّده الجلال بذلك . قال الأستاذ الإمام : لم يقتصر أحد من المفسّرين على ذكر المال فقط ، إلاّ مفسّرنا وقوله صادق فيما ذكروه وجهاً وذكروا معه قول من قيّده بالكثير كالبيضاوي ، وجزم المفسّر بأنّ الآية منسوخة بآية المواريث وحديث الترمذي " لا وصيّة لوارث " وردّه بعضهم ، فكلام الجلالين في المسألتين غير مسلّم ، وإنّني أُفصّل ما ذهب إليه شيخنا وأشرح استدلاله عليه فأقول : أمّا الأولى : فقد قالوا إنّ المال لا يسمّى في العرف خيراً ، إلاّ إذا كان كثيراً ، كما لا يقال فلان ذو مال إلاّ إذا كان ماله كثيراً ، وإن تناول اللفظ صاحب المال القليل ، وأيّدوا هذا بما رواه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قال لها رجل : أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : كم عيالك ؟ قال : أربعة ، قالت : قال الله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل . وروى البيهقي وغيره : إنّ عليّاً دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستّمائة درهم ، فقال : ألا أوصي ؟ قال : لا إنّما قال الله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك . فعبارتهما تدلّ على أنّهم ما كانوا يفهمون من الخير إلاّ المال الكثير ، واختلفوا في تقدير الكثير فروى عبد بن حميد عن ابن عبّاس إنّه قال : من لم يترك ستّين ديناراً لم يترك خيراً . واختار الأستاذ الإمام عدم تقديره لاختلافه باختلاف العرف ، فهو موكول عنده إلى اعتقاد الشخص وحاله ، ولا يخفى أنّ العرف يختلف باختلاف الزمان والأشخاص والبيوت ، فمن يترك سبعين ديناراً في منزل قفر ، وبلد فقر ، وهو من الدهماء فقد ترك خيراً . ولكن الأمير أو الوزير ، إذا تركا مثل ذلك في المصر الكبير ، فهما لم يتركا إلاّ العدم والفقر ، وما لا يفي بتجهيزهما إلى القبر . وأمّا الثانية : فهي خلافية والجمهور على إنّ الآية منسوخة بآية المواريث ، أو بحديث : " لا وصيّة لوارث " أو بهما جميعاً ، على أنّ الحديث مبيّن للآية . قال البيضاوي : وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه السلام " إنّ الله أعطى كلّ ذي حق حقه ألا لا وصيّة لوارث " وفيه نظر ؛ لأنّ آية المواريث لا تعارضه ، بل تؤكّده من حيث إنّها تدّل على تقديم الوصيّة مطلقاً ، والحديث من الآحاد ، وتلقّي الأمّة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر اهـ . أي والظنّي من الحديث لا ينسخ القطعي منه ، فكيف ينسخ القرآن ، وكلّه قطعي ؟ وقد زاد الأستاذ الإمام عليه القول : بأنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصيّة هنا ، وبأنّ السياق ينافي النسخ ، فإنّ الله تعالى إذا شرّع للناس حكماً ، وعلم أنّه مؤقت وأنّه سينسخه بعد زمن قريب ، فإنّه لا يؤكّده ويوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين ، ومن وعيد من بدّله ، وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا إنّ الوصيّة في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث ، بأن يخصّ القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين ، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما ، وقد أوصى الله تعالى بحسن معاملة الوالدين وإن كانا كافرين { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } [ العنكبوت : 8 ] الآية ، وفي آية لقمان بعد الأمر بالشكر لله ولهما { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 15 ] الآية . أفلا يحسن أن يختم هذه المصاحبة بالمعروف بالوصيّة لهما بشيء من ماله الكثير . قال : وجوّز بعض السلف الوصيّة للوارث نفسه ، بأن يخصّ بها من يراه أحوج من الورثة ، كأن يكون بعضهم غنيّاً والبعض الآخر فقيراً . مثال ذلك : أن يطلّق أبوه أمّه وهو غني ، وهي لا عائل لها إلاّ ولدها ، ويرى أنّ ما يصيبها من التركة لا يكفيها . ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته - إن لم يكن له ولد - عاجزاً عن الكسب ، فنحن نرى إنّ الحكيم الخبير اللطيف بعباده ، الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه ، لا يحتّم أن يساوي الغني الفقير ، والقادر على الكسب من يعجز عنه ، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنّهم سواسية في الحاجة ، كما أنّهم سواء في القرابة ، فلا غرو أن يجعل أمر الوصيّة مقدّماً على أمر الإرث ، أو يجعل نفاذ هذا مشروطاً بنفاذ ذلك قبله ، ويجعل الوالدين والأقربين في آية أخرى أولى بالوصيّة لهم من غيرهم ، لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحياناً ، فقد قال في آيات الإرث من قوله تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } [ النساء : 11 ] فأطلق أمر الوصيّة وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك . أقول ورأيت الألوسي نقل عن بعض فقهاء الحنفية أنّ آية الإرث نزلت بعد آية الوصيّة بالاتّفاق ، وأنّ الله تعالى رتّب الميراث على وصيّة منكرة ، والوصية الأولى كانت معهودة ، فلو كانت تلك الوصيّة باقية لوجب ترتيبه على المعهود ، فلمّا لم يترتّب عليه ورتّب على المطلق ، دلّ على نسخ الوصيّة المقيّدة ، لأنّ الإطلاق بعد التقييد نسخ ، كما إنّ التقييد بعد الإطلاق نسخ اهـ . فأمّا دعواه الإتّفاق في التقدّم والتأخّر فلا دليل عليها ، وأمّا تأويله فظاهر البطلان ، وقاعدة الإطلاق والتقييد إن سلمت لا تؤخذ على إطلاقها ؛ لأنّ شرع الوصيّة على الإطلاق لا ينافي شرع الوصيّة لصنف مخصوص ، ونظير هذا الأمر بمواساة الفقراء مطلقاً ، والأمر بمواساة الضعفاء والمرضى منهم ، لا يتعارضان ، ولا يصحّ أن يكون الثاني منهما مبطلا للأوّل ، إلاّ إذا وجد في العبارة ما ينفي ذلك ، وما في الآيتين ليس من قبيل تعارض المطلق والمقيّد ، وإنّما آية الوصيّة خاصّة ، وذكر الوصيّة منكرة في آية الإرث يفيد الإطلاق الذي يشمل ذلك الخاصّ وغيره ، فإن سلّمنا لذلك الحنفي أنّ آية الميراث متأخّرة ، فلا نسلّم له أنّه كان يجب أن تذكر فيها الوصيّة بالتعريف ؛ لتدلّ على الوصيّة المعهودة ، إذ لو رتّب الإرث على الوصيّة المعهودة لما جازت الوصيّة لغير الوالدين والأقربين . ولو كان الأسلوب العربي يقتضي ما قاله ، لما قال علي وابن عبّاس وغيرهما من السلف بالوصيّة للوالدين والأقربين على ما تقدّم ، وقد نقل ذلك الألوسي نفسه بعد ما تقدم عنه ، ولكنّه سمّى التخصيص نسخاً ، فنقل عن ابن عبّاس أنّها خاصّة بمن لا يرث من الوالدين والأقربين ، كأن يكون الوالدان كافرين . قال : وروي عن علي كرّم الله تعالى وجهه : من لم يوص عند موته لذوي قرابته - ممّن لم يرث - فقد ختم عمله بمعصية . ثمّ ذكر إنّ الأكثرين قالوا بأنّ هذه الوصيّة مستحبّة لا واجبة ، وسمّي هذا كغيره نسخاً للوجوب . ولنا أن نقول أنّ أكثر علماء الأمّة وأئمّة السلف يقولون إنّ هذه الوصيّة المذكورة في الآية مشروعة ، ولكن منهم من يقول بعمومها ومنهم من يقول إنّها خاصّة بغير الوارث ، فحكمها إذاً لم يبطل ، فما هذا الحرص على إثبات نسخها ، مع تأكيد الله تعالى إيّاها والوعيد على تبديلها ؟ إنّ هذا إلاّ تأثير التقليد . فقد علم ممّا تقدّم إنّ آية المواريث لا تعارض آية الوصيّة فيقال بأنّها ناسخة لها إذا علم أنّها بعدها ، وأمّا الحديث ، فقد أرادوا أن يجعلوا له حكم المتواتر أو يلصقوه به بتلقّي الأمّة له بالقبول ليصلح ناسخاً ، على أنّه لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به ، فلم يروه أحد منهما مسنداً ، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عبّاس ، وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عيّاش تكلّموا فيه ، وإنّما حسّنه الترمذي ؛ لأنّ إسماعيل يرويه عن الشاميين ، وقد قوّى بعض الأئمة روايته عنهم خاصّة . وحديث ابن عبّاس معلول ، إذ هو من رواية عطاء عنه ، وقد قيل إنّه عطاء الخراساني ، وهو لم يسمع من ابن عبّاس ، وقيل عطاء بن أبي رباح ، فإنّ أبا داود أخرجه في مراسيله عنه ، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عبّاس ، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه ، فعلم أنه ليس لنا رواية للحديث صحّحت ، إلا رواية عمرو بن خارجة ، والذي صحّحها هو الترمذي وهو من المتساهلين في التصحيح ، وقد علمت إنّ البخاري ومسلم لم يرضياها ، فهل يقال إنّ حديثاً كهذا تلقّته الأمّة بالقبول ؟ . وقد توسّع الأستاذ الإمام هنا في الكلام على النسخ ، وملخص ما قاله : إنّ النسخ في الشرائع جائز موافق للحكمة وواقع ، فإنّ شرع موسى نسخ بعض الأحكام التي كان عليها إبراهيم ، وشرع عيسى نسخ بعض أحكام التوراة ، وشريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السابقة ، لأن الأحكام العملية التي تقبل النسخ إنّما تشرّع لمصلحة البشر ، والمصلحة تختلف باختلاف الزمان ، فالحكيم العليم يشرّع لكلّ زمن ما يناسبه ، وكما تنسخ شريعة بأخرى يجوز أن تنسخ بعض أحكام شريعة بأحكام أخرى في تلك الشريعة ، فالمسلمون كانوا يتوجّهون إلى بيت المقدس في صلاتهم فنسخ ذلك بالتوجّه إلى الكعبة وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين . ولكن هناك خلافاً في نسخ أحكام القرآن ولو بالقرآن ، فقد قال أبو مسلم محمّد بن بحر الأصفهاني المفسّر الشهير : ليس في القرآن آية منسوخة ، وهو يخرّج كلّ ما قالوا إنّه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل ، وظاهر إنّ مسألة القبلة ليس فيها نسخ للقرآن ، وإنّما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإجتهاده أم بأمر من الله تعالى غير القرآن ؟ فإنّ الوحي غير محصور في القرآن . ولكن الجمهور : على إنّ القرآن ينسخ بالقرآن ، بناءً على إنّه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب يعبد الله تعالى بتلاوتها وبتذكّر نعمته بالإنتقال من حكم كان موافقاً للمصلحة ولحال المسلمين في أوّل الإسلام ، إلى حكم يوافق المصلحة في كلّ زمان ومكان ، فإنّه لا ينسخ حكم إلاّ بأمثل منه كالتخفيف في تكليف المؤمنين قتال عشر أمثالهم بالإكتفاء بمقابلة الضعف بأن تقاتل المئة مئتين . واتّفقوا على إنّه لا يقال بالنسخ إلاّ إذا تعذّر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية ، وعلم تاريخهما ، فعند ذلك يقال إنّ الثانية ناسخة للأولى . وأمّا آيات العقائد والفضائل والأخبار فلا نسخ فيها ، ونسخ السنّة بالسنّة كنسخ الكتاب بالكتاب ، بل هو أولى وأظهر وكذلك نسخ السنّة بالكتاب كما في مسألة القبلة ولا خلاف فيهما . ومن قبيل هذا نسخ الحديث المتواتر لحديث الآحاد . وأمّا الخلاف القوي فهو في نسخ القرآن بالحديث ولو متواتراً ، أو الحديث المتواتر بأخبار الآحاد ، والذي عليه المحقّقون الأوّلون إنّ الظني ( وهو خبر الآحاد ) لا ينسخ القطعي كالقرآن والحديث المتواتر . والحنفية وكثير من محقّقي الشافعية صرّحوا بجواز نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغ الأحكام ، فمتى أيقنا بالرواية عنه واستوفت شروط النسخ ، تعتبر ناسخة للكتاب كما إذا نسخت آية آية . وذهب آخرون - ومنهم الإمام الشافعي كما في رسالته المشهورة في الأصول - بأنّه لا يجوز نسخ حكم من كتاب الله بحديث مهما تكن درجته ؛ لأنّ للقرآن مزايا لا يشاركه فيها غيره . وقد أورد الشافعي كثيراً من الأحاديث التي زعموا أنّها ناسخة لأحكام القرآن ، وبيّن إنّها غير ناسخة بل بيّن إنّها مفسّرة ومبيّنة . قال الأستاذ : ولا أعرف لأبي حنيفة قولا في هذه المسائل ، والأصوليون المتقدّمون من الحنفية والشافعية لا يقولون بنسخ القرآن بغير المتواتر من الأحاديث ، وإن اشتهر بنحو رواية الشيخين وأصحاب السنن له ، والدليل ظاهر فإنّ القرآن منقول بالتواتر فهو قطعي ، وأحاديث الآحاد ظنّية يحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السند المتظاهرين بالصلاح لخداع الناس اهـ . أقول : وهناك تمييز آخر وهو إنّ كلّ ما في القرآن وحي من الله تعالى قطعاً ، وأمّا الأحاديث فإنّ فيها ما هو من إجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وهو دون الوحي ، وإن كان قد تقرّر إنّ النبي إذا أخطأ في اجتهاده لا يقرّ على الخطأ بل يبيّن له كما في قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } [ الأنفال : 67 ] وقوله : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] . وقال بعضهم : ينسخ الكتاب بالسنّة ولو خبر آحاد ؛ لأنّ دلالة الآية على الحكم ظنّية فكأنّ الحديث لم ينسخ إلاّ حكماً ظنّياً ، وفاتهم إنّ دلالة الحديث أيضاً ظنّية فكأنّنا ننسخ حكماً ظنّياً إسناده إلى الشارع قطعي بحكم ظنّي إسناده إليه غير قطعي ، بل يحتمل أنّه لم يقل به أو قاله رأياً لا تشريعاً . ولمّا كان الخلاف هنا ضعيفاً جدّاً احتاج القائلون بنسخ حديث " لا وصيّة لوارث " لآية الوصيّة إلى زعم تواتره بتلقّي الأمّة له بالقبول ، وقد علمت أنّ هذا غير صحيح . وقد صرّح بعض الشافعية بأنّ الخلاف في نسخ الكتاب بالسنّة إنّما هو في الجواز وأنّه غير واقع قطعاً . وقالوا أيضاً : إنّ السنّة لا تنسخ الكتاب إلاّ ومعها كتاب يؤيّدها ، والظاهر في مثل هذه الحال أن يقال إنّ الكتاب نسخ الكتاب لأنّه الأصل ، وكأنّهم أرادوا تصحيح قول من قال بالنسخ تعظيماً له أن يرد قوله ، وتعظيم الله تعالى أولى ثمّ تعظيم رسوله يتلو تعظيمه ولا يبلغه ، وإنّما يطاع الرسول ويتّبع بإذن الله تعالى . ومن أغرب مباحث النسخ : إنّ الشافعية - الذين يبالغ إمامهم في الاتّباع فيمنع نسخ الكتاب بالسنّة ، ثمّ هو يبالغ في تعظيم السنّة واتّباعها ولا يبالي برأي أحد يخالفها ، ثمّ هو يقول إنّ القياس لا يصار إليه إلاّ عند الضرورة كأكل الميتة كما رواه عنه الإمام أحمد - يقول بعضهم : إنّ القياس الجلي ينسخ السنّة ، مع إنّ البحث في العلّة أمر عقلي يجوز أن يخطئ فيه كلّ أحد ، ويجوز أن يكون ما فهمناه من عموم العلّة غير مراد للشارع ، فإذا جاء حديث ينافي هذا العموم وصحّ عندنا ، فالواجب أن نجعله مخصّصاً لعلّة عموم الحكم ، ولا نقول رجماً بالغيب إنّه منسوخ لمخالفته للعلّة التي ظنناها ، فإذا كانت المجازفة في القياس قد وصلت إلى هذا الحدّ ، وقد تجرّأ الناس على القول بنسخ مئات من الآيات ، وإلى إبطال اليقين بالظنّ ، وترجيح الإجتهاد على النصّ ، فعلينا أن لا نحفل بكلّ ما قيل ، وأن نعتصم بكتاب الله قبل كلّ شيء ، ثمّ بسنّة رسوله التي جرى عليها أصحابه والسلف الصالحون ، وليس في ذلك شيء يخالف الكتاب العزيز . وصفوة القول : إنّ الآية غير منسوخة بآية المواريث ؛ لأنها لا تعارضها ، بل تؤيّدها ، ولا دليل على أنّها بعدها ، ولا بالحديث ؛ لأنّه لا يصلح لنسخ الكتاب ، فهي محكمة وحكمها باق ، ولك أن تجعله خاصّاً بمن لا يرث من الوالدين والأقربين كما روي عن بعض الصحابة ، وأن تجعله على إطلاقه ، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ فتنبذ ما كتبه الله عليك بغير عذر ، ولا سيّما بعدما أكّده بقوله : { حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } أي حقّ ذلك الذي كتب عليكم من الوصيّة ، أو حقّقته حقّاً على المتقين لي ، المطيعين لكتابي . والمتبادر أنّ معنى المكتوب : المفروض ، وبه قال بعضهم هنا ، وقال آخرون إنّه للندب ، ويؤيّد الفرضية قوله تعالى في وعيد المبدّلين له : { فَمَن بَدَّلَهُ } أي بدّل ما أوصى به الموصي { بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } من الموصي أو علم به علماً صحيحاً . من كتابة الوصية وهو مشروع - كما سيأتي - ومن الحكم بها { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } من ولي ووصي وشاهد ، وقد برئت منه ذمّة الموصي وثبت أجره عند الله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لما يقوله المبدّلون في ذلك { عَلِيمٌ } بأعمالهم فيه فيجازيهم عليها ، وهو يتضمّن تأكيد الوعيد ، والضمير في المواضع الثلاثة راجع إلى الحقّ ، أو الإيصاء ، أي أثره ومتعلّقه . وقد قال بوجوب الوصيّة بعض علماء السلف ، واستدلّوا عليه بالآية وبحديث " ما حقّ امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به ، إلاّ ووصيّته عند رأسه " رواه الجماعة كلّهم من حديث ابن عمر . ومنهم عطاء والزهري وأبو مجلز وطلحة بن مصرف . وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال إسحاق وداود . واختاره أبو عوانة الاسفرايني وابن جرير وآخرون اهـ . من فتح الباري . وقال الجمهور : مندوبة وتقدّم قولهم في الآية . ثم قال : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } الجنف بالتحريك : الخطأ ، والإثم يراد به تعمّد الإجحاف والظلم ، والموصي فاعل الإيصاء ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب ( موص ) بالتشديد من التوصية . والمعنى : إن خرج الموصي في وصيّته عن المعروف والعدل خطأ أو عمداً فتنازع الموصى لهم فيه أو تنازعوا مع الورثة ، فينبغي أن يتوسّط بينهم من يعلم بذلك ويصلح بينهم ، ولا إثم عليه في هذا الإصلاح إذا وجد فيه شيء من تبديل الجنف والحيف ؛ لأنّه تبديل باطل إلى حقّ وإزالة مفسدة بمصلحة ، فقلّما يكون إصلاح إلاّ بترك بعض الخصوم شيئاً ممّا يراه حقاً له للآخر . قال الأستاذ الإمام : الآية إستثناء ممّا قبلها ، أي إنّ المبدّل للوصيّة آثم ، إلاّ من رأى إجحافاً أو جنفاً في الوصيّة فبدّل فيها لأجل الإصلاح وإزالة التخاصم والتنازع والتعادي بين الموصى لهم ، فعبّر بخاف بدلا عن رأى أو علم ، تبرئة للموصي من القطع بجنفه وإثمه ، وإحتماء من تقييد التصدّي للإصلاح بالعلم بذلك يقيناً ، يعني إنّ من يتوقّع النزاع للجنف أو الإثم فله أن يتصدّى للإصلاح وإن لم يكن موقناً بذلك ، وللتعبير عن مثل هذا العلم بالخوف شواهد في كلام العرب ، والمصلح مثاب مأجور ، ونفي الإثم عن تبديل الوصيّة المحرّم تبديلها يشعر بذلك ، إذ لو لم يكن التبديل للإصلاح مطلوباً ، لم ينف الإثم عنه . وختم الكلام بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } للإشعار بما في هذه الأحكام من المصلحة والمنفعة ، وبأنّ من خالف لأجل المصلحة مع الإخلاص فهو مغفور له .