Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 183-185)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الكلام في سرد الأحكام ، فلا حاجة إلى التناسب بين كلّ حكم وما يليه ، والصيام في اللغة : الإمساك والكفّ عن الشيء ، وفي الشرع : الإمساك عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب إحتساباً لله ، وإعداداً للنفس وتهيئة لها لتقوى الله بالمراقبة له وتربية الإرادة على ترك كبح جماح الشهوات ، ليقوى صاحبها على ترك المضارّ والمحرّمات ، وقد كتب على أهل الملل السابقة فكان ركناً من كلّ دين ؛ لأنّه من أقوى العبادات وأعظم ذرائع التهذيب ، وفي إعلام الله تعالى لنا بأنّه فرضه علينا كما فرضه على الذين من قبلنا ، إشعار بوحدة الدين أصوله ومقصده ، وتأكيد لأمر هذه الفرضية وترغيب فيها . قال الأستاذ الإمام : أبهم الله هؤلاء الذين من قبلنا ، والمعروف إنّ الصوم مشروع في جميع الملل حتّى الوثنية فهو معروف عن قدماء المصريين في أيّام وثنيّتهم ، وانتقل منهم إلى اليونان ، فكانوا يفرضونه لا سيّما على النساء ، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام ، ولا يزال وثنيو الهند وغيرهم يصومون إلى الآن ، وليس في أسفار التوراة التي بين أيدينا ما يدلّ على فرضية الصيام ، وإنّما فيها مدحه ومدح الصائمين ، وثبت إنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً ، وهو يدلّ على إنّ الصوم كان معروفاً مشروعاً ومعدّداً من العبادات ، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعاً تذكاراً لخراب أورشليم وأخذها ، ويصومون يوماً من شهر آب . أقول : وينقل أنّ التوراة فرضت عليهم صوم اليوم العاشر من الشهر السابع ، وأنّهم يصومونه بليلته ولعلّهم كانوا يسمّونه عاشوراء ، ولهم أيّام أخر يصومونها نهاراً . وأمّا النصارى فليس في أناجيلهم المعروفة نصّ في فريضة الصوم ، وإنّما فيها ذكره ومدحه . واعتباره عبادة كالنهي عن الرياء وإظهار الكآبة فيه ، بل تأمر الصائم بدهن الرأس وغسل الوجه ، حتّى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائياً كالفرّيسيين ، وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح ، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى عليهما السلام ، والحواريون رضي الله عنهم ، ثمّ وضع رؤساء الكنيسة ضروباً أخرى من الصيام وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف ، ومنها صوم عن اللحم وصوم عن السمك وصوم عن البيض واللبن ، وكان الصوم المشروع عند الأوّلين منهم كصوم اليهود يأكلون في اليوم والليلة مرّة واحدة فغيّروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار ، ولا نطيل في تفصيل صيامهم ، بل نكتفي بهذا في فهم قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي فرض عليكم كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم ، فهو تشبيه الفرضية بالفرضية ، ولا تدخل فيه صفته ولا عدة أيّامه ، وفي قصّتي زكريا ومريم ( عليهما السلام ) أنّهم كانوا يصومون عن الكلام ، أي مع الصيام عن شهوات الزوجية والشراب والطعام . قال البيضاوي : إنّ الصوم في اللغة الإمساك عمّا تنازع إليه النفس ، لا مطلق الإمساك ، كما يقول الجمهور ، وقال أبو عبيدة من رواة اللغة : كلّ ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم ، ثمّ قال : @ * خيل صيام وخيل غير صائمة * @@ أي قيام بلا اعتلاف اهـ . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا ، وهو إنّه يعدّ نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة ، إمتثالا لأمره وإحتساباً للأجر عنده ، فتتربّى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرّمة والصبر عنها ، فيكون إجتنابها أيسر عليه ، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والإصطبار عليها ، فيكون الثبات عليها أهون عليه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " الصيام نصف الصبر " رواه ابن ماجه وصحّحه في الجامع الصغير . وهذا معنى دلالة ( لعلّ ) على الترجّي ، فالرجاء إنّما يكون فيما وقعت أسبابه ، وموضعه هنا المخاطبون لا المتكلّم ، ومن لم يصم بالنيّة وقصد القربة لا ترجى له هذه الملكة في التقوى . فليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفس لذاته ، بل لتّربيتها وتزكيتها . قال شيخنا : إنّ الوثنيين كانوا يصومون لتسكين غضب آلهتهم إذا عملوا ما يغضبهم ، أو لإرضائها واستمالتها إلى مساعدتهم في بعض الشؤون والأغراض ، وكانوا يعتقدون إنّ إرضاء الآلهة والتزلّف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد ، وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب ، حتّى جاء الإسلام يعلّمنا إنّ الصوم ونحوه إنّما فرض ؛ لأنّه يعدّنا للسعادة بالتقوى ، وأنّ الله غني عنّا وعن عملنا ، وما كتب علينا الصيام إلاّ لمنفعتنا . ثم قال ما معناه مبسوطاً قلنا إنّ معنى " لعلّ " الإعداد والتهيئة ، وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة ، أعظمها شأناً ، وأنصعها برهاناً ، وأظهرها أثراً ، وأعلاها خطراً ( شرفاً ) أنّه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلاّ الله تعالى ، وسرٌّ بين العبد وربّه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه ، فإذا ترك الإنسان شهواته ولذّاته التي تعرض له في عامّة الأوقات لمجرّد الامتثال لأمر ربّه والخضوع لإرشاد دينه مدّة شهر كامل في السنة ، ملاحظاً عند عروض كل رغيبة له - من أكل نفيس ، وشراب عذب ، وفاكهة يانعة ، وغير ذلك كزينة زوجة أو جمالها الداعي إلى ملابستها - إنّه لولا اطّلاع الله تعالى عليه ومراقبته له لما صبر عن تناولها وهو في أشدّ التوق لها ، لا جرم أنّه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه ، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى والإستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معدّ للنفوس ، ومؤهّل لها لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا ، ولسعادتها في الآخرة . كما تؤهّل هذه المراقبة النفوس المتحلّية بها لسعادة الآخرة ، تؤهّلها لسعادة الدنيا أيضاً ، انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غشّ الناس ومخادعتهم ؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلا لأموالهم بالباطل ؟ هل يحتال على الله تعالى في منع الزكاة وهدم هذا الركن الركين من أركان دينه ؟ هل يحتال على أكل الربا ؟ هل يقترف المنكرات جهاراً ؟ هل يجترح السيّئات ويسدل بينه وبين الله ستاراً ؟ كلاً ، إنّ صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي ، إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى ، وإذا نسي وألمَّ بشيء منها يكون سريع التذكّر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] فالصيام أعظم مربّ للإرادة ، وكابح لجماح الأهواء ، فأجدر بالصائم أن يكون حرّاً يعمل ما يعتقد أنّه خير ، لا عبداً للشهوات . إنّما روح الصوم وسرّه في هذا القصد ، والملاحظة التي تحدث هذه المراقبة ، وهذا هو معنى كون العمل لوجه الله تعالى ، وقد لاحظه من أوجب من الأئمّة تبييت النيّة في كل ليلة ، ويؤيّد هذا ما ورد من الأحاديث المتّفق عليها كقوله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن - قالوا أي من الصغائر ، وقد يكون الغفران للكبائر مع التوبة منها ؛ لأنّ الصائم إحتساباً وإيماناً - على ما بيّنا - يكون من التائبين عمّا اقترفه فيما قبل الصوم ، وقوله في الحديث القدسي : " كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به " وفي حديث آخر " يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " رواهما البخاري وغيره . وقد شرح الأستاذ الإمام في هذا المقام حال أولئك الغافلين عن الله وعن أنفسهم الذين يفطرون في رمضان عمداً ، وذكر بعض حيل الذين يستخفّون من الناس ولا يستخفّون من الله ، كالأدنياء الذين يأكلون ولو في بيوت الأخلية حيث تأكل الجرذ ، والذين يغطسون في الجداول والأنهار ويشربون في أثناء ذلك ، وما قذف بهؤلاء وأمثالهم ومن هم شرّ منهم - كالمجاهرين بالفطر - إلاّ تلقينهم العبادة جافّة خالية من الروح الذي ذكرناه ، والسرّ الذي أفشيناه ، فحسبوها عقوبة كما كان يحسبها الوثنيون من قبل ، وما كلّ إنسان يتحمّل العقوبة راضياً مختاراً . ثمّ قال ما مثاله : وهاهنا شيء ذكره بعضهم ويشمئز الإنسان من شرحه وبيانه ، وهو أنّ الصوم يكسر الشهوة بطبعه ، فتضعف النفوس ويعجز الإنسان عن الشهوات والمعاصي ، وفيه من معنى العقوبة والإعنات ما كان يفهمه الكثير من جميع مطالب الدين وراثة عن آبائهم الأوّلين من أهل الديانات الأخرى ، وإذا طبّقنا هذا القول على ما نعهده وجوداً ووقوعاً لا نجده واقعاً ؛ لأنّ المعروف أنّ الإنسان إذا جاع يضري بالشهوات وتقوى نهمته ويشتدّ قرمه ، وآثار هذا ظاهرة في صوم أكثر المسلمين ، فإنّهم في رمضان أكثر تمتّعاً بالشهوات منهم في عامّة السنة ، فما سبب هذا وما مثاره ؟ أليس هو الضراوة بالشهوات ؟ بلى . ولا ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصوم بالوجاء في كسر سورة الشهوة ؛ لأنّ المراد أنّ تأثيره في تربية النفس وتقوية الإيمان يجعل صاحبه مالكاً لنفسه يصرفها حسب الشرع لا حسب الشهوة . هذا ما كتبته ونشر في الطبعة الأولى ورآه شيخنا ، ثمّ بدا لي فيه فالحديث رواه الشيخان عن ابن مسعود ولفظه " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء " والوجاء بالكسر : رضّ الأنثيين وهو يضعف الشهوة الزوجية ، إن لم يذهب بها كالخصاء ، والصيام يضعف هذه الشهوة إذا طال ، واقتصر الصائم في الليل على قليل من الطعام ، قال الحافظ في شرحه واستشكل : بأنّ الصوم يزيد في تهييج الحرارة ، وذلك ممّا يثير الشهوة ، لكن ذلك إنّما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه وإعتاده سكن ذلك والله أعلم اهـ . ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى : إنّ الصائم عندما يجوع يتذكّر من لا يجد قوتاً ، فيحمله التذكّر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة ، وقد وصف الله تعالى نبيّه بأنه رءوف رحيم ، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيّه صلى الله عليه وسلم ولذلك أمرهم بالتأسّي به ووصفهم بقوله : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . ومن فوائد عبادة الصيام الإجتماعية المساواة فيه بين الأغنياء والفقراء ، والملوك والسوقة ، ومنها : تعليم الأمّة النظام في المعيشة ، فجميع المسلمين يفطرون في وقت واحد لا يتقدّم أحد على آخر دقيقة واحدة ، وقلّما يتأخّر عنه دقيقة واحدة . ومن فوائده الصحيّة : إنّه يفني المواد الراسبة في البدن ولا سيّما أبدان المترفين أولي النهم وقليلي العمل ، ويجفّف الرطوبات الضارّة ، ويطهّر الأمعاء من فساد الذرب والسموم التي تحدثها البطنة ، ويذيب الشحم ، أو يحول دون كثرته في الجوف ، وهي شديدة الخطر على القلب ، فهو كتضمير الخيل الذي يزيدها قوّة على الكرّ والفرّ . قال صلى الله عليه وسلم : " صوموا تصحوا " رواه ابن السني وأبو نعيم في الطبّ عن أبي هريرة ، وأشار في الجامع الصغير إلى حسنه ويؤيّده " اغزوا تغتنموا وصوموا تصحّوا وسافروا تستغنوا " رواه الطبراني في الأوسط عنه . وقال بعض أطباء الإفرنج : إنّ صيام شهر واحد في السنة يذهب بالفضلات الميّتة في البدن مدّة سنة . وأعظم فوائده كلّها الفائدة الروحية التعبّدية المقصودة بالذات ، وهي أن يصوم لوجه الله تعالى كما هو الملاحظ في النيّة على ما قدّمنا ، ومن صام لأجل الصحّة فقط فهو غير عابد لله في صيامه ، فإذا نوى الصحّة مع التعبّد كان مثاباً كمن ينوي التجارة مع الحجّ ، فإنّه لولا العبادة لاكتفى بالجوع والحميّة ، وآية الصيام بهذه النيّة والملاحظة التحلّي بتقوى الله تعالى وما يتبعها من أحاسن الصفات والخلال ، وفضائل الأعمال . وقال الأستاذ : لا أشكّ في أنّ من يصوم على هذا الوجه ، يكون راضياً مرضياً ، مطمئناً ، بحيث لا يجد في نفسه اضطراباً ولا انزعاجاً ، نعم ربّما يوجد عنده شيء من الفتور الجسماني ، وأمّا الروحاني فلا ، وأعرف رجلا لا يغضب في رمضان ممّا يغضب له في غيره ، ولا يملّ من حديث الناس ما كان يملّه في أيام الفطر ، وذلك لأنّه صائم لوجه الله تعالى : ( والظاهر إنه يعني نفسه ) ويؤيّد قوله ما ورد في علامات الصائم ، من ترك المعاصي والمآثم ، ومنها حديث أبي هريرة عند أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلاّ النسائي مرفوعاً " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " . أين هذا كلّه من الصوم الذي عليه أكثر الناس ، وهو ما تراهم متّفقين عليه من إثارته لسرعة السخط والحمق ، وشدّة الغضب لأدنى سبب ، واشتهر هذا بينهم وأخذوه بالتسليم حتّى صاروا يعتقدون أنّه أثر طبيعي للصوم ، فهم إذاً أفحش أحدهم قال الآخر : لا عتب عليه فإنّه صائم . وهو وهم استحوذ على النفوس فحلّ منها محلّ الحقيقة وكان له أثرها ، ومتى رسخ الوهم في النفس يصعب إنتزاعه على العقلاء الذين يتعاهدون أنفسهم بالتربية الحقيقية دائماً ، فكيف حال الغافلين عن أنفسهم ، المنحدرين في تيّار العادات والتقاليد الشائعة ، لا يتفكّرون في مصيرهم ، ولا يشعرون في أي لجّة يقذفون ، فتأثير الصوم في أنفسهم مناف للتقوى التي شُرّع لأجلها ، ومخالف للأحاديث النبوية التي وصف بها أهلها ، ومن أشهرها حديث " الصيام جُنّة " وهي بضمّ الجيم الوقاية والستر ، فهو يقي صاحبه من المعاصي والآثام ، ومن عقابها وغايته دخول النار ، وللحديث ألفاظ وفيه زيادة في الصحاح والسنن . وذكر الحافظ في شرحه من الفتح لفظ أبي عبيدة رضي الله عنه عند أحمد " الصيام جُنّة ما لم يخرقها " زاد الدارمي " بالغيبة " وقال في هذه الزيادة : إنّ الغيبة تضرّ بالصيام ، وحكى عن عائشة ، وبه قال الأوزاعي : إنّ الغيبة تفطر الصائم وتوجب قضاء ذلك اليوم ، وأفرط ابن حزم فقال : يبطله كلّ معصية متعمّد لها ذاكر لصومه ، إلخ . وقال الغزالي فيمن يعصي الله وهو صائم : إنّه كمن يبني قصراً ويهدم مصراً . قال الأستاذ الإمام : إن أكثر الناس يلاحظون في صومهم حفظ رسم الدين الظاهر ، وموافقة الناس فيما هم فيه ، حتّى إنّ الحائض تصوم وترى الفطر في نهار رمضان عاراً ومأثماً ، ولا بأس بهذا الصوم من غير الحائض لحفظ ظاهر الإسلام وإقامة هيكل شعائره ، ولكنّه لا يفيد الأفراد شيئاً في دينهم ولا في دنياهم ؛ لخلوّه من الروح الذي يعدّهم للتقوى ، ويؤهّلهم لسعادة الآخرة والدنيا . وذكر في الدرس ما عليه الناس من الإستعداد لمآكل رمضان وشرابه ، بحيث ينفقون فيه على ذلك ما يكاد يساوي نفقة سائر السنة . حتّى كأنّه موسم أكل ، وكأنّ الإمساك عن الطعام في النهار إنّما هو لأجل الإستكثار منه في الليل ، وهذا هو الصوم المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : " كم من صائم ليس له من صومه إلاّ الجوع والعطش " رواه النسائي وابن ماجه ، ولا نطيل بشرح ما عليه الناس فهم يعلمونه علماً تامّاً ، وفيما كتب كفاية لمن يريد معرفة حقّه من باطله . ثمّ بيّن تعالى إنّ الصيام الذي كتبه علينا معيّن محدود فقال : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي معيّنات بالعدد أو قليلات ، وهي أيام رمضان كما سيأتي ، وروي عن ابن عبّاس وغيره ، قال المفسّرون وعليه أكثر المحقّقين ، وزعم بعض الناس إنّ هذه الأيّام غير رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وعيّنها بعضهم بأنّها الأيّام البيض أي الثالث عشر وما بعده ، ثمّ نسخت بآية " شهر رمضان " الآتية ولم يثبت في السنّة أنّ الصوم كان واجباً على المسلمين قبل فرض رمضان ، ولو وقع لنقل بالتواتر ؛ لأنّه من العبادات العملية العامّة . نعم ورد في الصحيح الآحادي أحاديث متعارضة في صوم يوم عاشوراء في الجاهلية وبعد الإسلام ، بعضها بالأمر به في المدينة ، وبعضها بالتخيير ، ولكن لا دليل على إنّه كان فرضاً عامّاً في المسلمين ، ولا على أنّه نسخ ، فهم لا يزالون يصومونه استحباباً من شاء منهم ، بل يدلّ حديث " لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ من التاسع " مع ما ورد من إنّه صلى الله عليه وسلم مات من سنته تلك على أنّ الأمر بصوم عاشوراء كان في آخر زمن البعثة ، وليس هذا محلّ تمحيص هذه الروايات والجمع بينها ، ولكن كان لبعض العلماء ولع بتكثير إستخراج الناسخ والمنسوخ من القرآن ؛ لما فيه من الدلالة على سعة العلم بالقرآن ، وإن كان علماً بإبطال القرآن بادي الرأي ، من غير حجّة تضاهي حجّة القرآن في القطع والقوّة . ولا ينبغي للمؤمن أن يحسب هذا هيّناً وهو عند الله عظيم . { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي من كان كذلك فأفطر ، فعليه صيام عدّة من أيّام أخر غير تلك الأيّام المعدودات ، أي فالواجب عليه القضاء إذا أفطر بعدد الأيّام التي لم يصمها ، وكلّ من المريض والمسافر عرضة لاحتمال المشقّة بالصيام ، وإطلاق كلمة " مريضاً " يدلّ على أنّ الرخصة لا تتقيّد بالمرض الشديد الذي يعسر معه الصوم ، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين وعليه البخاري ؛ لأنّ أمثال هذه الأحكام تقرن بمظنّة المشقّة تحقيقاً للرخصة ، فربّ مرض لا يشقّ معه الصوم ولكنّه يكون ضارّاً بالمريض وسبباً في زيادة مرضه وطول مدّته ، وتحقيق المشقّة عسر ، وعرفان الضرر أعسر . واستدلّ الجمهور على تقييده بالمرض الذي يعسر الصوم معه بقوله في الآية الأخرى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } ولا دليل ، فإنّه تعليل لأصل الرخصة ، وكمالها أن لا يكون فيها تضييق . وكذلك السفر يشمل إطلاقه وتنكيره الطويل والقصير وسفر المعصية . فالعمدة فيه ما يسمّى في العرف سفراً كسائر الألفاظ المطلقة في الشرع . والعرف يختلف باختلاف أسباب المعيشة ووسائل النقل ، فالذي يركب في هذا الزمان سيّارة بخارية أو طيّارة هوائية مسافة ثلاثة أميال أو فراسخ ، أو مسافة يوم أو يومين بتقدير سير الأثقال ، ليمكث مدّة قصيرة ثمّ يعود إلى بلده وداره ، لا يسمّى في العرف مسافراً بل متنزّهاً . وقد جاء في السنّة ما يؤيّد هذا الإطلاق في السفر القصير فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس إنّه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيّام أو ثلاثة فراسخ صلّى ركعتين : ويرجّح كون الرواية ثلاثة أميال حديث أبي سعيد عند سعيد ابن منصور قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً يقصر الصلاة والفرسخ ثلاثة أميال . بل روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر إنّه كان يقصر في الميل الواحد ، وما روي في قصره صلى الله عليه وسلم في مسافة أطول لا ينافي هذا فإنّ القصر فيها أولى ، ولا خلاف بين المسلمين في أنّ السفر الذي يباح فيه القصر يباح فيه الفطر ، وأمّا العاصي بالسفر فهو على دخوله في الإطلاق من جملة المكلّفين المخاطبين بالشريعة كلّها كغيرهم ، كما تقدّم بيانه في تفسير { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 173 ] . وزعم بعض المفسّرين المقلّدين أنّ قوله تعالى : { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } يومئ إلى أنّ من سافر في أثناء اليوم لا يجوز له أن يفطر فيه ، بل يفطر في اليوم الثاني ، لأنّ الكلمة تدلّ على التمكّن من السفر بجعله كالمركوب ، ولكن السنّة جرت بخلاف ذلك ، فقد روى البخاري وغيره عن ابن عبّاس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والناس مختلفون فصائم ومفطر ، فلمّا استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته ثمّ نظر إلى الناس ، فقال المفطرون ، للصّوام : أفطروا وفي حديث أنس وأبي بصرة الأمر بذلك وتسميته سنّة . وفي لفظ آخر لابن عبّاس في البخاري وغيره : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام فلمّا بلغ الكديد ( بفتح فكسر ) أفطر فأفطر الناس . قال أبو عبد الله ( البخاري ) : والكديد ماء بين عسفان وقديد ( بالتصغير ) ( وفي رواية أخرى : حتّى بلغ عسفان ، والكديد تابعة لعسفان وهي أقرب إلى المدينة ) . قال الحافظ في الفتح : واستدلّ به على إنّ للمرء أن يفطر ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائماً ، فله أن يفطر في أثناء النهار . وهو قول الجمهور ، وقطع به أكثر الشافعية إلخ . وذهبت الظاهرية - أو بعضهم - إلى وجوب الإفطار في المرض والسفر والآية لا تقتضيه ، وقد مضت السنّة العملية بخلافه . وذهب قوم إلى وجوب هذه العدّة عليهما وإن صاما ، ومقتضاها إنّ الله تعالى ضيّق على المريض والمسافر وشدّد عليهما ما لم يشدّد على غيرهما وهو كما ترى . والصواب أنّ من صام فقد أدّى فرضه ، ومن أفطر وجب عليه القضاء ، وبذلك مضت السنّة العملية ، فقد ورد في الصحيح أنّهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب أحد على الآخر ، وأنّه كان يأمرهم بالإفطار عند توقّع المشقة فيفطرون جميعاً ، كما جاء في حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم وأبي داود قال : " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكّة ونحن صيام فنزلنا منزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّكم قد دنوتم من عدوّكم والفطر أقوى لكم " فكانت رخصة فمنّا من صام ومنّا من أفطر ، ثمّ نزلنا منزلاً آخر فقال : " إنّكم مصبحو عدوّكم والفطر أقوى لكم فأفطروا " فكانت عزمة فأفطرنا " ، الحديث . ثمّ لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر . وروى الجماعة كلّهم عن عائشة " إنّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأصوم في السفر ؟ وكان كثير الصيام فقال : " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " وفي مسلم إنّه أجابه بقوله : " هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه " فدلّت هذه الرواية إنّه سأله عن صيام رمضان ؛ لأن الرخصة إنّما تطلق في مقابل الواجب . وروى مسلم والنسائي والترمذي من طريق الدراوردي عن جعفر ( الصادق ) عن أبيه محمّد ( الباقر ) بن علي ( زين العابدين ) عن جابر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكّة عام الفتح فصام حتّى بلغ كراع الغميم ( كراع بالضمّ ، والغميم بالفتح وهو واد أمام عسفان ) وصام الناس معه فقيل له إنّ الناس قد شقّ عليهم الصيام وإنّ الناس ينظرون فيما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم ، فبلغه أنّ ناساً صاموا فقال : " أولئك العصاة " أي لأنّهم أبوا الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في قبول الرخصة والحال حال مشقّة . وفي رواية أخرى تقدّمت إنّه أمرهم أن يفطروا للإستعانة على لقاء عدوّهم فالعصيان ظاهر . وروى أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي من حديث جابر قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلا قد ظلّل عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " فقالوا : صائم ، فقال : " ليس من البرّ الصوم في السفر " وذكر الحافظ في شرحه من الفتح الخلاف في الأفضل من الصيام والفطر في السفر وقال : الحاصل إنّ الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر ، والفطر لمن شقّ عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم ، وإن لم يتحقّق المشقّة يخيّر بين الصوم والفطر . وقد اختلف السلف في هذه المسألة ، فقالت طائفة : لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض ، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس من البرّ الصيام في السفر " ومقابلة البرّ الإثم ، وإذا كان آثماً بصومه لم يجزئه ، وهذا قول بعض أهل الظاهر وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم ، واحتجّوا بقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قالوا : ظاهره : فعليه عدّة ، أو فالواجب عدة . وتأوّله الجمهور بأنّ التقدير فأفطر فعدّة ، ومقابل هذا القول قول من قال : إنّ الصوم في السفر لا يجوز ، إلاّ لمن خاف على نفسه الهلاك أو المشقّة الشديدة ، حكاه الطبري عن قوم ، وذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنّ الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشقّ ، وقال كثير منهم : الفطر أفضل عملا بالرخصة وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق . وقال آخرون : هو مخيّر مطلقاً ، وقال آخرون : أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقّه ، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذٍ ، ويشقّ عليه قضاؤه بعد ، فالصوم في حقّه أفضل وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر . والذي يترجّح قول الجمهور ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتدّ عليه الصوم وتضرّر به ، وكذلك من ظنّ به الإعراض عن قبول الرخصة كما تقدّم نظيره في المسح على الخفّين ، وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار . وقد روى أحمد من طريق أبي طعمة قال : قال رجل لابن عمر : إنّي أقوى على الصوم في السفر . فقال له ابن عمر : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة . وهذا محمول على من رغب عن الرخصة لقوله صلى الله عليه وسلم : " من رغب عن سنّتي فليس مني " وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر ، فقد يكون الفطر أفضل له . وقد أشار إلى ذلك ابن عمر فروى الطبري من طريق مجاهد قال : إذا سافرت فلا تصم ، فإنّك إن تصم قال أصحابك : اكفوا الصائم ، ارفعوا للصائم ، وقاموا بأمرك وقالوا فلان صائم ، فلا تزال كذلك حتّى يذهب أجرك . ومن طريق مجاهد أيضاً عن جنادة بن أميّة عن أبي ذرّ نحو ذلك . ثم قال الحافظ : وأمّا الحديث المشهور " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " فقد أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعاً بسند ضعيف ، وأخرجه الطبري من طريق أبي سلمة مرفوعاً أيضاً ، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف . وذكر إنّ ما عدا هذين في معناهما فهو موقوف ومنقطع الإسناد . ثمّ قال : وأمّا الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس من البرّ الصيام في السفر " فسلك المجيزون فيه طرقاً ، فقال بعضهم : قد خرج على سبب فيقصر عليه ، وعلى من كان في مثل حاله ، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته ولذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعري ولفظه : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حرّ شديد ، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظلّ شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " ما لصاحبكم أي وجع به ؟ " قالوا : ليس به وجع ولكنّه صائم وقد اشتدّ عليه الحر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ : " ليس البر أن تصوموا في السفر عليكم برخصة الله التي رخص لكم " " فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال . وقال ابن دقيق العيد أخذ من هذه القصّة إنّ كراهة الصوم في السفر ، مختّصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممّن يجهده الصوم ويشقّ عليه ، أو يؤدّي به إلى ترك ما هو أولى به من الصوم من وجوه القرب ، فينزل قوله : " ليس من البرّ الصوم في السفر " على مثل هذه الحالة . قال : والمانعون في السفر يقولون : إنّ اللفظ عامّ ، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب . قال : وينبغي أن يتنبّه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العامّ وعلى مراد المتكلّم ، وبين مجرّد ورود العامّ على سبب ، فإنّ بين العامّين فرقاً واضحاً ، ومن أجراهما مجرى واحداً لم يصب ، فإنّ مجرّد ورود العامّ على سبب لا يقتضي التخصيص به ، كنزول آية السرقة في قصّة سرقة رداء صفوان . وأمّا السياق والقرائن الدالّة على مراد المتكلّم فهي المرشدة لبيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب . وقال ابن المنير في الحاشية : هذه القصّة تشعر بأنّ من اتفق له مثل ما اتّفق لذلك الرجل إنّه يساويه في الحكم ، وأمّا من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله والله أعلم . وحمل الشافعي نفي البرّ المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة فقال : معنى قوله : ليس من البرّ أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة ، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح . قال : ويحتمل أن يكون معناه ليس من البرّ المفروض الذي من خالفه أثم ، وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول . وقال الطحاوي : المراد بالبرّ هنا البرّ الكامل الذي هو أعلى مراتب البرّ ، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برّاً ؛ لأنّ الإفطار قد يكون أبرّ من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو مثلا ، قال : وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين بالطوّاف " الحديث ، فإنّه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلّها ، وإنّما أراد أنّ المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غنى يغنيه ويستحي أن يسأل ولا يفطن له . { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } هذا هو القسم الثاني من المستثنى ، وهو من لا يستطيع الصوم إلاّ بمشقّة شديدة ؛ أي وعلى الذين يشقّ عليهم الصيام فعلا ، فدية طعام مسكين عن كلّ يوم يفطرون فيه من أوسط ما يطعمون منه أهليهم في العادة الغالبة لا أعلاه ولا أدناه ، ويطعم بقدر كفايته أكلة واحدة ، أو بقدر شبع المعتدل الأكلة ، وكانوا يقدّرونها بمدّ ، وهو بالضمّ ربع الصاع ، وقدّروه بالحفنة ، وهي ملء الكفّين من القمح أو التمر ، وترتّب الفدية على الإفطار لأجل المشقّة الشديدة يعرف بالقرينة كقوله : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } يعني إذا أفطر . قال الأستاذ الإمام : الإطاقة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء ، فلا تقول العرب أطاق الشيء ، إلاّ إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف ، بحيث يتحمّل به مشقّة شديدة ، فالمراد بالذين يطيقونه هنا الشيوخ الضعفاء والزمنى الذين لا يرجى برء أمراضهم ونحوهم ، كالفعلة الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقّة كإستخراج الفحم الحجري من مناجمه ، ومنهم المجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبّدة ، إذا كان الصيام يشقّ عليهم بالفعل وكانوا يملكون الفدية . أقول وهو مشتقّ من طاقة الحبل أو الخيط أو الفتلة الواحدة من فتله التي يبرم بعضها على بعض وتسمّى القوّة ، أو من الطوق وعليه قول الراغب : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقّة وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء فقوله : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] أي ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه ولا تحمّلنا ما لا قدرة لنا به … وقوله : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ظاهره يقتضي إنّ المطيق له يلزمه فدية أفطر أو لم يفطر ، لكن أجمعوا على إنّه لا يلزمه إلاّ مع شرط آخر اهـ . أي وهو الإفطار . وروى البخاري أنّ ابن عمر قال : هي منسوخة ، وأنّ ابن عبّاس قال : ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كلّ يوم مسكيناً ، ورواه أبو داود مع زيادة والحبلى والمرضع إذا خافتا ، يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا . وأخرجه البزار أيضاً وزاد في آخره : وكان ابن عبّاس يقول لأمّ ولد له حبلى أنت بمنزلة الذي لا يطيقه فعليك الفداء ولا قضاء عليك . ولكن الشافعية يوجبون على الحبلى والمرضع الفدية والقضاء معاً . وفي حديث أنس بن مالك الكعبي عند أحمد وأصحاب السنن إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الله عزّ وجلّ وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحبلى والمرضع الصوم " وروى الدارقطني والحاكم ، وصحّحاه عن ابن عبّاس أنّه قال : رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم ولا قضاء عليه . وهذا ظاهر في معنى الآية ، وهو مذهب الشافعية في الشيوخ والعجائز ومن في حكمهم . قال شيخنا : ذهب كثيرون إلى أنّ الآية منسوخة إذ فهموا أنّ الإطاقة بمعنى الإستطاعة ، وقدّر بعض المفسّرين - كالجلال - حرف نفي فقال : وعلى الذين لا يطيقونه فدية ؛ ليوافق مذهبه ، والآية موافقة له من غير حاجة إلى جعل الإثبات نفياً كما قلنا آنفاً ، وقال بعضهم إنّ الهمزة في الإطاقة للسلب ، فمعناها : الذين لا يطيقونه من غير تقدير حرف النفي . وهو قول منقول معقول ، ويظهر بإرادة سلب الطاقة أي القوّة به لا قبله . والقاعدة إنّه لا يحكم بالنسخ إذا أمكن حمل القول على الإحكام . أقول : وجملة القول أن المؤمنين على أقسام في الصيام : الأول : المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر يلحقه ولا مشقّة ترهقه ، والصوم واجب عليه حتماً ، وتركه من الكبائر . وذهب كثير من العلماء أنّ متعمّده لا يقبل منه قضاء مثله ولا صيام الدهر كلّه . الثاني : المريض والمسافر ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء ؛ لأنّ من شأن المرض والسفر التعرّض للمشقّة ، فإذا تعرّضا للضرر بالفعل بأن علما أو ظنّا ظنّاً قويا أنّ الصوم يضرّهما وجب الإفطار ، وقد فصّلنا مسألة الخلاف في الأفضل للمسافر ، والمختار عندنا : إنّ الصيام أفضل إذا كان أيسر ولم يترتّب عليه محظور آخر كحمل رفاقه في السفر على خدمته ، أو عجزه عن القيام ببعض المندوبات وما لا بدّ منه للمسافر ، وإن لم يقم به رفاقه ، فإن كان يعجزه عن عمل واجب ، وجب الفطر ، وهو ظاهر في حديث أبي سعيد المتقدّم في مسألة القوّة على القتال ، والمريض كالمسافر في مسألة الأفضل له وأنّه الأيسر ، ومن الأمراض ما يكون الصيام علاجاً له أو مساعداً على زواله كما علم ممّا ذكرناه من فوائده الصحيّة . الثالث : من يشقّ عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله ، كالهرم وضعف البنية الذي لا يرجى زواله ، والأشغال الشاقّة الدائمة ، والمرض الزمن الذي لا يرجى برؤه ، وكذلك من يتكرّر سبب مشقّته ، كالحامل والمرضع ، وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا بدلا عن كلّ يوم مسكيناً ما يشبع الرجل المعتدل كما تقدّم آنفاً . ثمّ قال تعالى بعد بيان الواجب الحتم والرخص فيه : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } بأن زاد على تلك الأيّام المعدودات { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } لأنّ فائدته وثوابه له ، والفاء في قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ } تدلّ على هذا ؛ لأنّها تفريع على حصر الفرضية في الأيّام المعدودات ، ولا يصلح تفريعاً على حكم الفدية ؛ لأنّ من سقط عنه الفرض دائماً مع الفدية عنه ، لا يعقل أن يندب للتطوّع الذي هو الزيادة على الفرض . وجعل ( الجلال ) التطوّع متعلّقاً بالكفّارة بأن يزيد على إطعام المسكين ، واستبعده شيخنا وأقرب منه شموله لهما . { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي والصيام خير لكم ، كما قرأها أبي بن كعب رضي الله عنه وإنّما هي تفسير . أي خير عظيم لما فيه من رياضة الجسد والنفس وتربية الإرادة وتغذية الإيمان بالتقوى وتقويته بمراقبة الله تعالى . قال أبو أمامة للنبي صلى الله عليه وسلم مرني بأمر آخذه عنك قال : " عليك بالصوم فإنّه لا مثل له " رواه النسائي بسند صحيح . { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وجه الخيرية فيه ، لا إن كنتم تصومون تقليداً من غير فقه ولا علم بسرّ الحكم وحكمة التشريع وكونه لمصلحة المكلّفين - لأنّ الله غني عن العالمين - أو اتّباعا لعادات الخلطاء والمعاشرين . هذا ما يظهر من الآية ، وقد ذكر بعض المفسّرون أنّ الخطاب فيها لأهل الرخص ، وأنّ الصيام في رمضان خير لهم من الترخّص بالإفطار ، وهذا غير مطّرد ولا متّفق عليه ، وتنافيه أحاديث وردت ، ويبعده التفريع بالفاء كما قدّمنا ، وبيّنا ما هو الأفضل منه ومن الفطر . { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } هذه الآية مستأنفة لبيان تلك الأيّام المعدودات التي كتبت علينا ، وأنّها أيّام شهر رمضان ، وأنّ الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة : هي أنّه الشهر الذي أنزل فيه القرآن ، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمن ، ببعثة محمّد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، بالرسالة العامّة للأنام ، الدائمة إلى آخر الزمان ، فالمراد بإنزال القرآن فيه بدؤه وأوّله { هُدًى لِّلنَّاسِ } أي أنزل حال كونه هدىً كاملا للناس كافّة { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ } أي وآيات بيّنات واضحات لا لبس في حقّيتها ، ولا خفاء في حكمها وأحكامها ، من جنس الهدى الذي جاء به الرسل من قبل ، ولكنّه أبينه وأكمله { وَٱلْفُرْقَانِ } الذي يفرّق للمهتدي به بين الحقّ والباطل ، ويفصل بين الفضائل والرذائل ، فحقّ أن يعبد الله تعالى فيه ما لا يعبد في غيره ، تذكّراً لإنعامه بهذه الهداية وشكراً عليها . والحكمة في ذكر الأيّام مبهمة أولا ، وتعيينها بعد ذلك : إنّ ذلك الإبهام الذي يشعر بالقلّة ، يخفّف وقع التكليف بالصيام الشاقّ على النفوس ، وهو الأصل ، إذ ليس رمضان عامّاً في الأرض كما سيأتي بيانه قريباً . ثمّ إنّ هذا التعيين والبيان جاء بعد ذكر حكمة الصيام وفائدته ، وذكر الرخص لمن يشقّ عليه ، وذكر خيرية الصيام في نفسه واستحباب التطوّع فيه ، وكلّ ذلك ممّا يعدّ النفس لأن تتلقّى بالقبول والرضى جعل تلك الأيّام شهراً كاملاً . وانظر كيف ابتدأ هنا بذكر شهر رمضان وإنزال القرآن فيه ، ووصف القرآن بما وصفه به ، حتّى كأنه يحكي عنه لذاته بعد الإنتهاء من حكم الصوم ، ثمّ ثنّى بالأمر بصومه ، فلم يفاجئ النفوس به مع ذلك التمهيد له ، حتّى قدّم العلّة على المعلول ، ولعلّ هذا من حكمة حذف خبر المبتدأ إذا قلنا إنّ كلمة { شَهْرُ رَمَضَانَ } مبتدأ ، أو حذف المبتدأ إذا قلنا إنّها خبر لمحذوف . وقال الأستاذ الإمام : إنّ حذف الخبر جار على ما نعهده من إيجاز القرآن بحذف ما لا يقع الاشتباه بحذفه ، وإنّ البيان بعد الإبهام جاء على أسلوبه في ذكر الأشياء ، ثمّ ذكر علّتها وحكمتها ، وهي هنا : إنزال القرآن الذي هدانا الله تعالى به ، وجعله آيات بيّنات من الهدى ، أي من الكتب المنزلة ، والفرقان الذي يفرّق بين الحقّ والباطل ، فوصفه بأنّه هدى في نفسه لجميع الناس ، وأنّه من جنس الكتب الإلهية ، ولكنّه الجنس العالي على جميع الأجناس ، فإنّه آيات بيّنات من ذلك الهدى السماوي ، وكتب الله كلها هدى ، ولكنّها ليست في بيانها كالقرآن . واضرب لهم مثلا كتاب دانيال النبي ، فإنّ الله ما أنزله عليه ، إلاّ ليهتدي به من يقرأه عليهم ، ولكنّه لم يكن آيات بيّنات ، بل هو كالألغاز والرموز لا يفهم إلاّ بعناء ، وكذلك التوراة التي سمّاها الله تعالى نوراً وهدى ، فيها غوامض ومشكلات وقع الاشتباه فيها ، فلم يكن ضياء الحقّ والهداية متبلّجاً وساطعاً من سطورها سطوعه من القرآن . والذي نراه في الأناجيل أنّ تلاميذ المسيح أنفسهم ما كانوا يفهمون كلّ ما يخاطبهم به من المواعظ والأحكام والبشائر ، وهي الإنجيل الحقيقي في اعتقادنا . أقول : بل فيها إنّ المسيح قال لهم إنّه لم يقل لهم كلّ شيء ، وأن ثمّ أشياء كثيرة ينبغي أن تقال لهم - أي لولا الموانع منها في عهده - وبشّرهم بأنّه سيأتي بعده الفارقليط روح الحقّ ، الذي يقول لهم كلّ شيء - يعني محمّداً خاتم النبيين عليهما الصلاة والسلام - وسيرى القارئ تفصيل ذلك في تفسير سورة الأعراف ، ولكن لم ينقل إلينا أنّ الصحابة عمي عليهم شيء من آيات القرآن فلم يفهموها ، ولا أنّ علماء السلف حاروا في شيء منها ، فالقرآن يمتاز على سائر الكتب السماوية بأنّه آيات بيّنات من الهدى الذي توصف به كلّها ، وبيّنات من الأمر الإلهي الفارق بين الحقّ والباطل ، بيد أنّ المقلّدين من المسلمين لم يرضوا كافّة بأن يمتاز القرآن بالبيان الذي ليس بعده بيان ، والهدى لجميع الناس كما وصف نفسه . فحاول بعضهم تغميضه ، وسلّم لهم مقلّدتهم أنّه غامض لا يفهمه إلاّ أفراد من الناس أوتوا علماً جمّاً ، وفاقوا سائر البشر بعقولهم وأفهامهم ، كما فاقوهم بعلومهم ومعارفهم ، ثمّ زعموا أنّ هؤلاء الأفراد كانوا في بعض القرون الأولى وهم المجتهدون ، وأنّهم قد انقرضوا ولم يأت بعدهم ولن يأتي من يسهل عليه أن يفهم القرآن ولو أحكامه فقط ، وتجد هذا القول المناقض للقرآن ، والناقض له ، مسلّماً بين جماهير المسلمين المقلّدين ، حتّى الذين يدّعون أنّهم علماء الدين ، ومن نبذه إهتداء بالقرآن ، ربّما نبذوه بلقب الكفر والطغيان ، فأي الفريقين أحقّ بصدق الإيمان ؟ أمّا وسرّ الحقّ لولا أنّ المسلمين لبسوا على أنفسهم من القرآن ما يلبسون ، وحكموا فيه آراء من يقلّدون ، لكان نور بيانه مشرقاً عليهم وعلى سائر الناس ، كالشمس ليس دونها سحاب ، ولكنّهم أبوا إلاّ أن يتّبعوا سنن من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، ويضعوا كتباً في الدين يزعمون إنّ بيانها أجلى ، والإهتداء بها أولى ، لأنّها بزعمهم أبين حكماً ، وأقرب إلى الأذهان فهماً . قلنا إنّ الله تعالى فرض علينا صيام هذا الشهر بخصوصه ، تذكيراً بنعمته علينا بإنزال القرآن فيه ، لنصومه شكراً له عليها ، ومن الشكر أن تكون هدايتنا بالقرآن في مثل وقت نزوله أكمل ، ومنها أن يكون الصيام موصلا إلى حقيقة التقوى ، فإذا لم ننتفع بالصيام في أخلاقنا وأعمالنا ، ولم نهتد بالقرآن في عامّة أحوالنا ، فأين الإنتفاع بالنعمة وأين الشكر عليها ؟ كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان ، ولذلك كان السلف يتدارسونه فيه ويقومون ليله به لزيادة الإهتداء والاعتبار ، فماذا كان من إقتداء الخلف بهم ؟ كان أنّ بعض الوجهاء والأغنياء يستحضرون في رمضان من القرّاء من كان حسن الصوت يتغنّى لهم بالقرآن في حجرات الخدم ، وهم في الغرفات مع أمثالهم وأقتالهم لاهون لاعبون ، ومن عساه يصغي منهم أحياناً إلى القارئ فإنّما يريد التلذّذ بسماع صوته الحسن وتوقيعه الغنائي ، فقد جعلوا القرآن إمّا مهجوراً ، وإمّا لذّة نفسية فصدق عليهم قوله : { ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } [ المائدة : 57 ] . وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان ، مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً متفرّقاً في مدّة البعثة كلّها : فهو أنّ ابتداء نزوله كان في رمضان ، وذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر ، أي الشرف ، والليلة المباركة كما في آيات أخرى ، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، على إنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ، ويطلق على بعضه ، وقد ظنّ الذين تصدّوا للتفسير منذ عصر الرواية أنّ الآية مشكلة ، ورووا في حلّ الإشكال أنّ القرآن نزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات ، ثمّ أنزل على النبي منجّماً بالتدريج ، وظاهر قولهم هذا إنّه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافاً لظاهر الآيات ، ولا تظهر المنّة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا ؛ لأنّ وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنّه لم يكن هداية لنا ، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الأخبار به ، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أُنزلت في رمضان ، كما قالوا إنّ الأمم السابقة كلّفت صيام رمضان . قال الأستاذ الإمام : ولم يصحّ من هذه الأقوال والروايات شيء وإنّما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان ، ولا حاجة لنا بها إذ يكفينا أنّ الله تعالى أنزل فيه هدايتنا وجعله من شعائر ديننا ومواسم عبادتنا ، ولم يقل تعالى إنّه أنزل القرآن جملة واحدة في رمضان ، ولا إنّه أنزله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، بل قال بعد إنزاله : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 - 22 ] فهو محفوظ في لوح بعد نزوله قطعاً ، وأمّا اللوح المحفوظ الذي ذكروا إنّه فوق السماوات السبع وأنّ مساحته كذا ، وأنّه كتب فيه كلّ ما علم الله تعالى ، فلا ذكر له في القرآن ، وهو من عالم الغيب ، فالإيمان به إيمان بالغيب ، يجب أن يوقف فيه عند النصوص الثابتة بلا زيادة ولا نقص ولا تفصيل ، وليس عندنا في هذا المقام نصّ يجب الإيمان به . { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أي فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله - بأن لم يكن مسافراً - فليصمه ، وإنّما يكون ذلك في أكثر البلاد التي تتألّف السنة منها من اثني عشر شهراً . وشهوده فيها يكون برؤية هلاله ، فعلى كلّ من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره له أن يصوم ، وإذا لم يره أحد في الليلة الثلاثين من شعبان وجب صيام يومها وكان أوّل رمضان ما بعده ، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن ، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم . وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد بالشهر هنا الهلال ، وكانت العرب تعبّر عن الهلال بالشهر ، ويردّه أنّهم لا يقولون : شهد الهلال ، وإنّما يقولون رآه ، ومعنى شهد حضر ، وقال بعضهم إنّ المعنى : فمن كان حاضراً منكم حلول الشهر فليصمه . قال الأستاذ الإمام : وإنّما عبّر بهذه العبارة ولم يقل " فصوموه " لمثل الحكمة التي لم يحدّد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها ، وذلك إنّ القرآن خطاب الله العام لجميع البشر ، وهو يعلم أنّ من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيّام معتدلة ، بل السنّة كلّها قد تكون فيها يوماً وليلة تقريباً كالجهات القطبية ، فالمدّة التي يكون فيها القطب الشمالي في ليل وهي نصف السنة يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس ، ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في خطّ الإستواء وهو وسط الأرض . أرأيت هل يكلّف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن يصلّي في يومه ( وهو سنة أو مقدار عدّة أشهر ) خمس صلوات إحداها حين يطلع الفجر والثانية بعد زوال الشمس إلخ ، ويكلّفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين ولا رمضان له ولا شهور ؟ كلاّ إنّ من الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكلّ شيء ، لا من تأليف البشر ، ما نراه فيه من الإكتفاء بالخطاب العامّ الذي لا يتقيّد بزمان من جاء به ولا مكانه ، ولو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان كلّ ما فيه مناسباً لحال زمانه وبلاده وما يليها من البلاد التي يعرفها ، ولم تكن العرب تعرف أنّ في الأرض بلاداً نهارها كعدّة أنهر أو أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك . فمنّزل القرآن وهو علاّم الغيوب وخالق الأرض والأفلاك ، خاطب الناس كافّة بما يمكن أن يمتثلوه ، فأطلق الأمر بالصلاة ، والرسول بيّن أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض ، حتّى إذا وصل الإسلام إلى أهل البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدّروا للصلوات بإجتهادهم والقياس على ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله المطلق - وكذلك الصيام ما أوجب رمضان إلاّ على من شهد الشهر وحضره ، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدّروا له قدره ، وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعد ما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها ، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون ؟ فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكّة والمدينة ، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم ، وكلّ منهما جائز فإنّه إجتهادي لا نصّ فيه . { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أعيد ذكر الرخصة لئلاّ يتوهّم - بعد تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنّه خير ، ويندب التطوّع به ، وبعد تحديده بشهر رمضان الذي له من الفضل والشرف ما له - أنّ صوم هذا الشهر حتم لا تتناوله الرخصة ، أو تتناوله ولكن لا تحمد فيه ، ولعمري إنّ تأكيد الصوم بمثل ما أكّده الله تعالى به يقتضي تأكيد أمر الرخصة أيضاً ، ولولا ذلك ما أتاها متّق لله في صيامه ، بل روى المحدّثون إنّ بعض الصحابة عليهم الرضوان كانوا على تأكيد أمر الرخصة في القرآن يتحامون الفطر في السفر أولاً حتى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم به في بعض الأسفار فلم يمتثلوا حتّى أفطر هو بالفعل وسمّى الممتنع عن الفطر عاصياً كما تقدّم . { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } هذا تعليل لما قبله أي يريد فيما شرّعه من هذه الرخصة في الصيام ، وسائر ما يشرّعه لكم من الأحكام ، أن يكون دينكم يسراً تاماً لا عسر فيه . قال الأستاذ : إنّ في هذا التعبير ضرباً من التحريض والترغيب في إتيان الرخصة ، ولا غرو فالله يحبّ أن تؤتى رخصه ، كما تؤتى عزائمه . وقد اختلف العلماء في الأفضل للمريض والمسافر على أقوال ثالثها التخيير . أقول : والآية تشعر بأنّ الأفضل أن يصوم إذا لم يلحقه مشقّة أو عسر لإنتفاء علّة الرخصة ، وإلاّ كان الأفضل أن يفطر لوجود علّتها ، ويتأكّد بوجود مصلحة أخرى في الفطر كالقوّة على الجهاد وتقدّم بسطه ، ذلك بأنّ الله لا يريد إعنات الناس بأحكامه وإنّما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم ، وهذا أصل في الدين يرجع إليه غيره ومنه أخذوا قاعدة " المشقّة تجلب التيسير " وورد في هذا أحاديث كثيرة من أشهرها " يسّروا ولا تعسّروا ، وبشّروا ولا تنفّروا " متّفق عليه من حديث أنس . والمراد بالإرادة هنا حكمة التشريع لا إرادة التكوين . زرت بيت المقدس في عهد طلبي للعلم بطرابلس في المحرّم سنة 1311 فاجتمعت في مدينة الخليل عليه السلام بمفتيها الرجل الصالح من آل التميمي فسألني ممتحناً : يقول الله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } وما يريده الله تعالى لا يجوز تخلّفه عقلا ولكنّنا نرى العسر واقعاً مشاهداً فكيف هذا ؟ قلت إنّ الآية في تعليل الرخصة في الصيام للمريض والمسافر لا في التكوين والتقدير كالعسر في المال والرزق ، فأعجبه الجواب ودعا لي بالفتح ، ولم أكن حضرت شيئاً من تفسير القرآن في ذلك العهد . ثم قال : { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } قرأ الجمهور لتكملوا بالتخفيف من الإكمال ، وأبو بكر عن عاصم بالتشديد من التكميل ، واللام للتعليل وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } كأنّه قال : رخّص لكم في حالي المرض والسفر ؛ لأنّه يريد بكم اليسر وأن تكملوا العدّة ، فمن لم يكملها أداءً لعذر المرض أو السفر ، أكملها قضاء بعده . وقيل : إنّها لتقوية الفعل كما في قوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } [ الصف : 8 ] أي يريد الله بكم اليسر وأن تكملوا العدّة ، وهو يجري في كلام البلغاء كثيراً ، ورجّحه الأستاذ الإمام . { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } إليه من الأحكام النافعة لكم ، بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده ، وأنّه يربّيهم بما يشاء من الأحكام ، ويؤدّبهم بما يختار من التكاليف ، ويتفضّل عليهم عند ضعفهم بالرخص اللائقة بحالهم { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } له هذه النعم كلّها ، بالقيام بها على وجهها ، وإعطاء كلّ من العزيمة والرخصة حقّها ، فتكونوا من الكاملين . ذهب جمهور المفسّرين إلى أنّ في الكلام ثلاثة تعليلات مرتّبة بأسلوب النشر على اللفّ ، بتقدير فعل محذوف عامل في جملة الأحكام الماضية ، أي شرّع لكم ما ذكر من صيام أيّام معدودات ، هي شهر رمضان لمن شهده سالماً صحيحاً لتكملوا العدّة - والتعبير بالعدّة دون عدّة الشهر ، يشعر بما قاله الأستاذ الإمام من أنّ الأصل في التكليف العام للصوم هو الأيام المعدودات ، وكونها رمضان بعينه ، خاص بمن شهده ممّن لم تتناوله الرخصة ، وهذا من دقّة القرآن الغريبة ، وبلاغته التي لا يخطر مثلها على قلب بشر - وشرّع لكم القضاء على من أفطر في مرض يرجى برؤه أو سفر - لتكبّروه وتعظّموا شأنه على ما هداكم إليه من الجمع بين الرخصة بالفطر والعزيمة بالقضاء - وشرّع لكم الفدية في حال المشقّة المستمرّة بالصوم وأراد بكم اليسر دون العسر ، لعلكم تشكرون هذه النعمة ، وقد صوّرنا ترتيب التعليل الذي ذكروه ، بما نراه أوضح ممّا صوّروه به . هذا ما كتبته أولا وطبع في المرّة الأولى . وأقول الآن : إنّ الأظهر أن يقال : إنّ إكمال العدة تعليل لكون الصيام المشروع أيّاماً معدودات لا بدّ من إستيفائها ، أداءً في حال العزيمة ، وقضاءً في حال الرخصة ، وإرادة اليسر دون العسر ، تعليل للرخص الثلاث للسفر والمرض والمشقّة التي تقتضي الفدية . والتكبير ، تعليل لإكمال العدّة بصيام الشهر كلّه ، ومظهره الأكبر في عيد الفطر إذ شرّع فيه التكبير القولي عامّة ليله وإلى ما بعد صلاته ، وبذلك كلّه نكون من الشاكرين له على هذه النعم كلّها وعلى غيرها .