Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 186-186)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما في سبب نزول هذه الآية : إنّ أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقريب ربّنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فسكت عنه فأنزل الله الآية . وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال : سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم أين ربّنا ؟ فنزلت . ورووا في سببه غير ذلك ممّا هو أضعف سنداً ، وأقلّ ناصراً وعدداً . وقال الأستاذ الإمام عند ذكر السبب الأول : هذا السؤال ليس ببعيد من العرب أو الأعراب الذين اعتادوا أن يتّخذوا وسائل بينهم وبين إلههم يقرّبونهم إلى خالق السماوات والأرض ، وهؤلاء الوسائل والوسائط إمّا أشخاص ، وإمّا أمثلة أشخاص كالتماثيل والأصنام ، ولم يهتدوا بأنفسهم إلى التجرّد لمعرفة ذلك الإله الواحد العظيم بأنّه لا يتقيّد بشيء ، حتى هداهم إليه القرآن بآياته البيّنات ، فكانوا أهل التوحيد الخالص . ولكن الآية جاءت بين آيات الصيام فهي ليست بأجنبية منها ، وإنّما هي متّصلة بما قبلها من الأحكام ، فقد طالبنا في الآية السابقة بإكمال عدّة الصيام وبتكبير الله تعالى ، وذكر أنّ ذلك يعدّنا لشكره تعالى ، والتكبير والشكر يكونان بالقول نحو : الحمد لله والله أكبر ، كما يكونان بالعمل ، وما كان بالقول يأتي فيه السؤال : هل يكون برفع الصوت والمناداة ، أم بالمخافتة والمناجاة ؟ فجاءت هذه الآية جواباً عن هذا السؤال الذي يتوقّع إن لم يقع ، فهي في محلّها سواء صحّ ما رووه في سببها أم لا . قال : ويروى في نزولها سبب آخر ، وهو إنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله تعالى بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم : " أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً " وعلى كل حال تفيدنا الآية حكماً شرعيّاً ، وهو إنّه لا ينبغي رفع الصوت في عبادة من العبادات ، إلاّ بالمقدار الذي حدّده الشرع في الصلاة الجهرية ، وهو أن يسمع من بالقرب منه ، ومن بالغ في رفع صوته ربّما بطلت صلاته ، ومن تعمّد المبالغة في الصياح في دعائه أو الصلاة على نبيّه كان إلى عبادة الشيطان ، أقرب منه إلى عبادة الرحمن . أقول : أمّا الحديث فقد رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن من طرق إلى أبي عثمان النهدي عن أبي موسى قال : كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أيّها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً ، إنّكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم " وفي رواية أنّهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير إذا علوا عقبة أو ثنية . وليس في هذه الروايات ذكر الآية ، ولكن الحديث في المقام ، فإنّهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير المأمور به في الآية السابقة ، فدلّت الآية على ما صرّح به الحديث من النهي ، فكان الحديث تفسيراً لها ، بل هو عمل بها . وذكره ابن العادل في تفسيره من أسباب نزولها . قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } هذا التفات عن خطاب المؤمنين كافّة بأحكام الصيام ، إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، بأن يذكّرهم ويعلّمهم ما يراعونه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجّه إليه وحده بالدعاء ، الذي يعدّهم للهدى والرشاد ، وجعلت بأسلوب الفتوى على تقدير السؤال لتنبيه الأذهان ، والمراد أن يؤمنوا بأنّ الله تعالى قريب منهم ليس بينه وبينهم حجاب ولا ولي ولا شفيع يبلّغه دعاءهم وعبادتهم ، أو يشاركه في إجابتهم أو إثابتهم ، ليتوجّهوا إليه وحده حنفاء مخلصين له الدين . وقال البيضاوي في وجه الإتّصال : وإعلم إنّه تعالى لمّا أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدّة ، وحثّهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقّبه بهذه الآية الدالّة على إنّه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم ، مجيب لدعائهم ، مجاز على أعمالهم ، تأكيداً له وحثاً عليه ، اهـ . ونحن نعلم أنّ الأحكام العملية إنّما تشرّع لتقوية الإيمان وإصلاح النفس ، ولذلك كان من سنة القرآن الحكيم أن يبيّن مع كلّ حكم حكمة تشريعه وفائدته في تقوية الإيمان ، ويمزج الكلام فيه بما يذكر بعظمة الله تعالى ، ويعين على مراقبته والتوجّه إليه ، ويثبّت الإيمان به كهذه الآية ، ويا ليت فقهاءنا إقتدوا بهدي القرآن فلم يجعلوا كتب الأحكام جافّة مقصورة على ذكر الأعمال البدنية ، كأنّ الدين دين مادّي جسماني لا غرض للقلوب والأرواح فيه . وأمّا معنى قرب الله تعالى فقد قالوا : إنّه القرب بالعلم ، بمعنى أنّ علمه محيط بكلّ شيء ، فهو يسمع أقوال العباد ويرى أعمالهم . وعبارة البيضاوي : وهو تمثيل لكمال علمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم ، وإطّلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم . اهـ . وإنّما جعلوا الكلام تمثيلا ؛ لأنّ القرب والبعد الحقيقي إنّما يكونان باعتبار المكان ، وهو منزّه عن الإنحصار في المكان . وقال الأستاذ الإمام : يصحّ أن يكون من قرب الوجود ، فإنّ الذي لا يتحيّز ولا يتحدّد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة ، فهو تعالى قريب بذاته من كلّ شيء ، إذ منه كلّ شيء إيجاداً وإمداداً وإليه المصير اهـ . وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية ، فقد قال أحد العلماء في قوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } [ الواقعة : 85 ] أي إذا بلغت روحه الحلقوم : إنّه القرب بالعلم ، وكان أحد كبار الصوفية حاضراً فقال : لو كان هذا هو المراد لقال تعالى في تتمّة الآية ولكن لا تعلمون ولكنّه لم ينف العلم عنهم وإنّما قال : { وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 85 ] وليس من شأن العلم أن يبصر فينفي هنا إبصاره ، وإنّما ذلك شأن الذات . اهـ بالمعنى . وهو مذكور بنصّه في كتاب اليواقيت والجواهر للشعراني . وعلى كلّ حال لازم القرب مقصود ، وهو عدم الحاجة إلى رفع الصوت ولا إلى الواسطة بينه وبين عباده في الدعاء وطلب الحاجات كما كان عليه المشركون في التوسّل بالشفعاء والوسطاء إلى الله تعالى كأنّه قال : فأخبرهم بأنّني قريب منهم وأنّني أقرب إليهم من حبل الوريد ( أي كما في سورة ق ) . هذا ما كتبته من التعليق على كلمة شيخنا في قرب الوجود ، وطبع أولا واطّلع هو عليه ، ثمّ إستشكله بعض أخواننا السلفيين بأنّه مخالف لمذهب السلف فإنّهم يتأوّلون أو يفسّرون القرب بالعلم كالمتكلّمين ، ويقولون إنّ الله تعالى فوق عباده بائن من خلقه ، مستو على عرشه ، وعبارة الأستاذ على إجمالها أقرب إلى مذهب السلف من تأويل المتكلّمين ومن وافقهم من السلفيين ، فإنّ البائن من كلّ شيء ، الذي لا يتحيّز ولا يتحدّد ، هو الذي تكون نسبة جميع الأمكنة ومن فيها إليه واحدة ، وهي البينونة المطلقة التي يقتضيها العلو المطلق فوق كلّ شيء والإحاطة بكلّ شيء . وقرب الصفات لا يعقل بدون قرب الذات ، إذ لا إنفصال بينهما ولا إنفكاك ، والتحقيق ، إنّ مذهب السلف : إمرار النصوص في الصفات على ظاهرها من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل ، والله تعالى قد أسند القرب في هذه الآية وآيتي سورة الواقعة وسورة ق إلى ذاته ، فنأخذ هذا الإسناد على ظاهره مع إثبات تنزيهه عن مماثلة خلقه وإثبات صفات الكمال له ، التي يفهم بها المراد من هذا القرب في كلّ سياق بحسبه ، والجامع فيه ما ذكره الأستاذ من الإيجاد للعباد والإمداد لهم في أثناء وجودهم ومصيرهم إليه بعد إنتهاء آجالهم ، فالقرب في سورة ق يناسب الإيجاد والإمداد بالعلم والحفظ على قولهم إنّ قوله : { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } [ ق : 17 ] متعلّق بقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] والقرب في سورة الواقعة يناسب المصير إليه تعالى كما يعلم ممّا بعده ، وقربه في الآية التي نفسّرها يناسب الإمداد بسمع الدعاء وإجابته وهي من متعلّقات القدرة والرحمة ، والغرض منه تقرير توحيد العبادة كما قرّرناه آنفاً ، وقد بيّنه بياناً مستأنفاً بقوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ } منهم بنفسي من غير واسطة { إِذَا دَعَانِ } وتوجّه إليّ وحدي في طلب حاجته . أي يجب أن يدعى وحده بدون واسطة ؛ لأنّه هو الذي خلق الإنسان ، ويعلم ما توسوس به نفسه بدون واسطة ، وهو الذي يجيب دعوته وحده بدون واسطة تعينه أو تساعده أو تنوب عنه في الإجابة وقضاء الحاجة ، أو تؤثّر في إرادته . وقد فسّروا الدعوة بطلب الحاجات وقالوا : إنّ ظاهر الآية إنّ الإجابة وصف لازم لله تعالى وأنّه يجيب كلّ داع ، وليس الأمر كذلك كما هو ثابت بالمشاهدة ، وأجابوا بأنّ المراد : إنّ من شأنه الإجابة ، فهو يجيب إن شاء كما قال في آية أخرى : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ } [ الأنعام : 41 ] فهو على حدّ قولك فلان يعطي الكثير فأطلب منه ، أي إنّ من شأنه ذلك ، ولا يلزم منه أن يعطي كلّ طالب عين ما طلبه . وأجاب بعضهم : بأن الإجابة أعمّ من إعطاء السؤال . وقد ورد في الحديث الصحيح إنّ الإجابة تكون بإحدى ثلاث : إمّا أن يعجّل له دعوته ، وإمّا أن يدخر له ، وإمّا أن يكفّ عنه من السوء مثلها . ولا حاجة إلى التأويل إذ لا محلّ للإشكال فإنّ الآية سيقت لبيان أنّ الله تعالى قريب من عباده المتوجّهين إليه ، فلا حاجة بهم إلى الصياح بتكبيره ودعائه ، ولا إلى أن يتّخذوا وسطاء بينهم وبينه في التوجّه إليه وسؤال رحمته وفضله ، بل يجب أن يصمدوا إليه وحده ، فإنّه هو الذي يجيب دعاءهم وحده . أقول : وأمّا كيفية إجابته إيّاهم فليس من موضوع الآية ، ولا شكّ إنّ العارف بالله تعالى والعالم بشرعه وبسننه في خلقه ، لا يقصد بدعائه ربّه إلاّ هدايته إلى الطرق والأسباب التي جرت سننه تعالى بأنّ تحصيل الرغائب بها ، وتوفيقه ومعونته فيها ، فهو إذا سأل الله تعالى أن يزيد في علمه أو في رزقه فلا يقصد أن يكون العلم وحياً يوحى ، ولا أن تمطر له السماء ذهباً وفضّة ، وكذلك إذا سأل الله شفاء مرضه أو مريضه الذي أعياه علاجه ، فإنّه لا يريد بذلك أن يخرق الله العادات ، أو يجعله مؤيّداً بالمعجزات والآيات ، وإنّما يريد المؤمن العارف بالدعاء ما ذكرنا من توفيق الله إيّاه إلى العلاج ، أو العمل الذي يكون سبب الشفاء ، سواء كان ذلك بإرشاد مرشد أو بإلهام إلهي ، فكم لله من عناية بالمتوجّهين إليه ، الداعين له ، بعد ما اجتهدوا في الأخذ بالأسباب فلم يفلحوا . ومن عنايته الهداية إلى سبب جديد ، وإلهام النفس العمل المفيد ، وتقوية المزاج على المرض ، ولا دليل في الآية على إنّ كلّ دعاء يجاب ، بل هي نفسها دليل على إنّه لا يجيب الدعاء إلاّ الله ، فيجب أن لا يدعى سواه { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] فعسى أن يهتدي بهذا الموسومون بسمة الإيمان ، الذين يدعون عند الضيق غير الرحمن ، ويتوجّهون إلى القبور : يا فلان يا فلان . ويتأوّل لهم هذا الشرك أدعياء العلم والعرفان ، بأنّ الكرامات ثابتة عندهم للأموات كالأحياء ، ولكن الله تعالى يقول لهم : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ } [ الأنعام : 41 ] . وانظر كيف لم يقل إنّه يجيب دعوة الداعي ، حتى قيّدها بقوله : { إِذَا دَعَانِ } قال الأستاذ الإمام ما مثاله : إنّ الداعي شخص يطلب شيئاً وهو يصدق على أكثر الناس الذين يطلبون كلّ يوم أشياء كثيرة ، وليس كلّ واحد منهم متحقّقاً بدعاء الله تعالى وحده كما يحبّ أن يدعى ، فهو يقول أجيب دعوة الداعي إذا خصّني بالدعاء والتجأ إليّ التجاءً حقيقيّاً بحيث ذهب عن نفسه إليّ ، وشعر قلبه إنّه لا ملجأ له إلاّ إليّ ، ومثل هذا لا يطمع في غير مطمع ، ولا يطلب ما لا يصحّ أن يطلب ، وإنّما يمتثل أمر الله تعالى باتّخاذ جميع الوسائل من طرقها الصحيحة المعروفة ، وهي لا تتحقّق إلاّ بالعلم والعزيمة والعمل ، فإن تمّ للعبد ما يريد بذلك ، فقد أعطاه الله تعالى من خزائنه التي يفيض منها على جميع متّبعي سننه في الخلق ، وإن بذل جهده ولم يظفر بسؤله ، فما عليه إلاّ أن يلجأ إلى مسبّب الأسباب وهادي القلوب إلى ما غاب عنها وخفي عليها ، ويطلب المعونة والتوفيق ممّن بيده ملكوت كلّ شيء ، وقد قال بعض السلف : إنّ مثل هذا يجاب لا محالة . وقالت الصوفية الدعاء المجاب هو الدعاء بلسان الإستعداد ، وقد إستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الطمع في غير مطمع ، فمن يترك السعي والكسب ويقول : يا ربّ ألف جنيه ، فهو غير داع ، وإنّما هو جاهل . ومثل ذلك المريض لا يراعي الحمية ولا يتّخذ الدواء ، ويقول ربّ إشفني وعافني ، كأنّه يقول اللهمّ أبطل سننك التي قلت إنّها لا تبدّل ولا تحول لأجلي وكم استجاب الله لنا من دعاء ، وكشف عنّا من بلاء ، ورزقنا من حيث لا نحتسب ولا نتّخذ الأسباب ، ولكن بتسخيره هو للأسباب . سأل سائل في الدرس : إذا كان الرزق مقدّراً فعلام السؤال ؟ فقال الأستاذ : إذا كانت إجابتي أو عدمها مقدّراً فلِمَ السؤال ؟ هذا لا يقال وإنّما ينبغي أن يقال ما الحكمة في طلب الدعاء منّا في هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث كحديث " الدعاء مخّ العبادة " والله تعالى يعلم ما في أنفسنا وما تنطوي عليه سرائرنا ؟ قالت الصوفية : إنّ المراد بالدعاء فزع القلب إلى الله وشعوره بالحاجة إلى معونته والتجاؤه إليه . ويحتجّون بما روي في قصّة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) من أنّ جبريل سأله قبل أن يلقى في النار : ألك حاجة ؟ قال : أمّا إليك فلا . قال : فادع الله . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . أقول : ولكن ظاهر الآيات والأحاديث يدلّ على أنّ الدعاء مطلوب بالقول ، مع التوجّه إلى الله بالقلب ، ومنه الأدعية المأثورة في الكتاب والسنّة ، وذلك أنّ الدعاء باللسان هو أثر الشعور بالحاجة إلى الله تعالى وفزع القلب إليه ، فإن لم يكن أثره فهو مذكّر به وهو أعظم مظاهر الإيمان ، ولذلك سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم مخّ العبادة ، فهو يطلب لذلك ، وإجابة الله الدعاء تقبّله ممّن أخلص له وفزع إليه بروحه ، ورضاه عنه ، سواء أوصل إليه ما طلبه في ظاهر الأمر أم لم يصل . والحديث رواه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه وسنده ضعيف ومتنه صحيح فهو بمعنى حديث " الدعاء هو العبادة " بصيغة الحصر وهو صحيح رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ، وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه . { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } قالوا : إستجاب له وإستجابه وأجابه إلى الشيء ، واحد ، وهو أن يفعل ما دعاه إليه ويؤتيه ما طلبه منه . وقال الراغب الإستجابة : قيل هي الإجابة ، وحقيقتها التحرّي للجواب والتهيّؤ له ، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة إنفكاكها منها اهـ . وأورد الشواهد عليه من الآيات ومنها هذه الآية . وقد ذكرت في تفسير { ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 24 ] إنّ الأقرب إلى الفهم ما قاله الراغب وعكسه ، وهو إنّ الإستجابة هي الإجابة بعناية وإستعداد ، فتكون زيادة السين والتاء للمبالغة ، وهو يقرب ممّا قالوه في معانيهما من التكلّف والتحرّي والطلب أو هو بعينه ، إلاّ أنّه لا يعبّر به فيما يسند إلى الله تعالى كقوله : { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] والمعنى : وإذ كنت قريباً منهم مجيباً لدعوة من دعاني منهم ، فليستجيبوا هم لي بتحرّي ما أمرتهم من الإيمان والأعمال النافعة لهم كالصيام وغيره ، ممّا أدعوهم إليه ، كما أجيب دعوتهم بقبول عبادتهم ، وتولّي إعانتهم ، فالآية تفيد أنّ المنفرد بإجابة الدعاء ، هو الذي يطاع طاعة العبادة ، فإذا دعانا غيره إلى عبادة اخترعها بإجتهاده لا دليل عليها فيما أوحاه الله إلى نبيّه ، لا نجيبه إليها ، كما أنّنا لا ندعو غيره تعالى . وقال المفسّرون في الأمر بالإيمان هنا : إنه أمر بالمداومة عليه ؛ لأنّ الخطاب للمؤمنين ، وذهب الأستاذ الإمام إلى أنّ الخطاب عامّ وأنّ حظّ من إستجاب لله وللرسول منه أن يحاسب نفسه ، ويطالبها بأن تكون أعماله الظاهرة التي عدّ بها مسلماً ، صادرة عن الإيمان اليقيني والإحتساب والإخلاص لله تعالى ، ففي ذكر الإيمان بعد الإستجابة إشارة إلى أنّ من الناس من يستجيب إلى الأعمال ويقوم بها ، وهو خلوّ من روح الإيمان { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] . { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } أي بالجمع بين الإيمان والإذعان للأمر والنهي . والرشد والرشاد ، ضدّ الغي والفساد ، فعلمنا إنّ الأعمال إذا لم تكن صادرة بروح الإيمان ، لا يرجى أن يكون صاحبها راشداً مهديّاً ، فمن يصوم اتّباعاً للعادة وموافقة للمعاشرين ، فإنّ الصيام لا يعدّه للتقوى ولا للرشاد ، وربّما زاده فساداً في الأخلاق وضراوة بالشهوات ؛ لذلك يذكّرنا تعالى - في أثناء سرد الأحكام - بأنّ الإيمان هو المقصود الأول في إصلاح النفوس ، وإنّما نفع الأعمال في صدورها عنه وتمكينها إيّاه .