Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 190-193)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم ، إذا فوجئوا بالقتال بغياً وعدواناً ، فهي متّصلة بما قبلها أتمّ الإتّصال ؛ لأنّ الآية السابقة بيّنت إنّ الأهلّة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامّة وفي الحجّ خاصّة . وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرّماً في الجاهلية . وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس : إن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ، وذلك إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صُدّ عن البيت ثمّ صالحه المشركون فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكّة ثلاثة أيّام يطوف ويفعل ما يشاء ، فلمّا كان العام القابل ، تجهّز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام بالقوّة ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } يقول أيّها المؤمنون الذين تخافون أن يمنعكم مشركو مكّة عن زيارة بيت الله والإعتمار فيه نكثاً منهم للعهد وفتنة لكم في الدين ، وتكرهون أن تدافعوا عن أنفسكم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام ، إنّني أذنت لكم في القتال على إنّه دفاع في سبيل الله للتمكّن من عبادته في بيته ، وتربية لمن يفتنكم عن دينكم وينكث عهدكم ، لا لحظوظ النفس وأهوائها ، والضراوة بحبّ التسافك ، فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلكم { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } بالقتال فتبدأوهم ، ولا في القتل فتقتلوا من لا يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى أو من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم ، ولا بغير ذلك من أنواع الإعتداء كالتخريب وقطع الأشجار ، وقد قالوا إنّ الفعل المنفي يفيد العموم . علّل الإذن بأنّه مدافعة في سبيل الله ، وسيأتي تفصيله في الآية التالية ، وعلّل النهي بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } أي إنّ الإعتداء من السيّئات المكروهة عند الله تعالى لذاتها ، فكيف إذا كان في حال الإحرام ، وفي أرض الحرم والشهر الحرام ؟ ثمّ قال : { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } أي إذا نشب القتال فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم ، ولا يصدنكم عنهم أنكم في أرض الحرم إلاّ ما يستثنى في الآية بشرطه . { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكّة ، فقد كان المشركون أخرجوا النبي وأصحابه المهاجرين منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم ، ثمّ صدّوهم عن دخولها لأجل العبادة ، فرضي النبي والمؤمنون على شرط أن يسمحوا لهم في العام القابل بدخولها لأجل النسك والإقامة فيها ثلاثة أيّام كما تقدّم ، فلم يكن من المشركين إلاّ أن نقضوا العهد ، أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن يقوّي هؤلاء المؤمنين ويأذن لهم بأن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين ، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الخائنين ؟ وهل يصحّ أن يقال فيهم إنّهم أقاموا دينهم بالسيف والقوّة ، دون الإرشاد والدعوة ؟ كلاّ لا يقول هذا إلاّ غرّ جاهل ، أو عدو متجاهل . ثمّ زاد التعليل بياناً فقال : { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } أي إنّ فتنتهم إيّاكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب ، والإخراج من الوطن ، والمصادرة في المال ، أشدّ قبحاً من القتل ، إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه وإضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكّن من عقله ونفسه ، ورآه سعادة له في عاقبة أمره . والفتنة في الأصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضّة ، إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزغل منهما . ويسمّى الحجر الذي يختبرهما به أيضاً فتانة ( كجبانة ) ثمّ إستعملت للفتنة في كلّ إختبار شاقّ ، وأشدّه الفتنة في الدين وعن الدين ، ومنه قوله تعالى : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وغير ذلك من الآيات . وما تقرّر في هذه الآيات على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في سورة الحج : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } [ الحج : 39 - 40 ] الآيات . وهي أوّل ما نزل من القرآن في شرع القتال ، معلّلا بسببه ، مقيّداً بشروطه العادلة . وفسّر بعضهم الفتنة هنا وفي الآية الآتية بالشرك ، وجرى عليه الجلال وردّه الأستاذ الإمام بأنّه يخرج الآيات عن سياقها ، وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف [ قيل ] : وردّ قولهم أيضاً إنّ هذه الآية ناسخة لما قبلها ، وذلك إنّه كبر على هؤلاء أن يكون الإذن بالقتال مشروطاً بإعتداء المشركين ، ولأجل أمن المؤمنين في الدين ، وأرادوا أن يجعلوه مطلوباً لذاته . وقال : إنّ هذه الآيات نزلت مرّة واحدة في نسق واحد وقصّة واحدة ، فلا معنى لكون بعضها ناسخاً للآخر ، وأمّا ما يؤخذ من العمومات فيها بحكم أنّ القرآن شرع ثابت عام ، فذلك شيء آخر . ثمّ استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كلّ مكان أدركوا فيه : المسجد الحرام فقال : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } أي إنّ من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمناً ، إلاّ أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته ، فلا أمان حينئذٍ . ولمّا كان القتل في المسجد الحرام أمراً عظيماً يتحرّج منه أكّد الإذن فيه بشرطه ، ولم يكتف بما فهم من الغاية فقال : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } ولا تستسلموا لهم ، فالبادي هو الظالم ، والمدافع غير آثم { كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } أي إنّ من سنّة الله تعالى أن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء فيعذّبهم في مقابلة تعرّضهم للعذاب بتعدّي حدوده ، فيكونوا هم الظالمين لأنفسهم . وقرأ حمزة والكسائي : ولا تقتلوهم … حتّى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم من قتل الثلاثي ويخرّج على أنّ قتل بعض الأمّة كقتل جميعها لتكافلها . والمراد حتّى لا يقتلوا أحداً منكم ، فإن قتلوا أحداً فاقتلوهم وهو أسلوب عربي بليغ . ثمّ قال : { فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ } عن القتال فكفّوا عنهم ، أو عن الكفر فإنّ الله يقبل منهم ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يمحو عن العبد ما سلف ، إذا هو تاب عمّا اقترف ، ويرحمه فيما بقي ، إذا هو أحسن واتّقى { إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] . { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } عطف على ( قاتلوا ) في الآية الأولى فتلك بيّنت بداية القتال ، وهذه بيّنت غايته ، وهي ألاّ يوجد شيء من الفتنة في الدين ، ولهذا قال الأستاذ الإمام : أي حتّى لا تكون لهم قوّة يفتنونكم بها ويؤذونكم لأجل الدين ويمنعونكم من إظهاره أو الدعوة إليه { وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ } [ البقرة : 193 ] وفي قوله تعالى : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } [ التوبة : 39 ] أي يكون دين كلّ شخص خالصاً لله لا أثر لخشية غيره فيه ، فلا يفتن لصدّه عنه ولا يؤذى فيه ، ولا يحتاج فيه إلى الدهان والمداراة ، أو الإستخفاء أو المحاباة ، وقد كانت مكّة إلى هذا العهد قرار الشرك ، والكعبة مستودع الأصنام ، فالمشرك فيها حرّ في ضلالته ، والمؤمن مغلوب على هدايته ، قال : { فَإِنِ ٱنْتَهَواْ } أي في هذه المرّة عمّا كانوا عليه { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } أي فلا عدوان عليهم ؛ لأنّ العدوان إنّما يكون على الظالمين تأديباً لهم ليرجعوا عن ظلمهم ، ففي الكلام إيجاز بالحذف ، وإستغناء عن المحذوف بالتعليل الدالّ عليه . ويجوز أن يكون المعنى : فإن انتهوا عمّا كانوا عليه من القتال والفتنة ، فلا عدوان بعد ذلك إلاّ على من كان منهم ظالماً بإرتكابه ما يوجب القصاص ، أي فلا يحاربون عامّة وإنّما يؤخذ المجرم بجريمته ، ثمّ زاد تعليل الإذن بالقتال بياناً ببنائه على قاعدة عادلة معقولة فقال تعالى : { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ … } .