Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 194-195)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمّا خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم للنسك عام الحديبية ، صدّهم المشركون وقاتلوهم رمياً بالسهام والحجارة ، وكان ذلك في ذي القعدة من الأشهر الحرم سنة ست ، ولو قابلهم المسلمون عامئذ بالمثل ولم يرض النبي بالصلح لاحتدم القتال ، ولمّا خرجوا في العام الآخر لعمرة القضاء ، وكرهوا قتال المشركين - وإن اعتدوا ونكثوا العهد - في الشهر الحرام ، بيّن لهم أنّ المحظور في الأشهر الحرم إنّما هو الإعتداء بالقتال دون المدافعة ، وأنّ ما عليه المشركون من الإصرار على الفتنة وإيذاء المؤمنين لأنّهم مؤمنون ، هو أشدّ قبحاً من القتل لإزالة الضرر العام ، وهو منعهم الحق وتأييدهم الشرك . ثمّ بيّن قاعدة عظيمة معقولة ، وهي أنّ الحرمات - أي ما يجب إحترامه والمحافظة عليه - يجب أن يجري فيه القصاص والمساواة فقال : { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } ذكر هذه القاعدة حجّة لوجوب مقاصّة المشركين على إنتهاك الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل ، ليكون شهر بشهر جزاءً وفاقاً . وفي جملة : والحرمات قصاص . من الإيجاز ما ترى حسنه وإبداعه . ثمّ صرّح بالأمر بالإعتداء على المعتدي مع مراعاة المماثلة ، وإن كان يفهم ممّا قبله ؛ لمكان كراهتهم للقتال في الحرم والشهر الحرام ، فقال تفريعاً على القاعدة وتأييداً للحكم : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } وإنّما يتحقّق هذا فيما تتأتّى فيه المماثلة ، وسمّي الجزاء إعتداء للمشاكلة ، وقد استدلّ الإمام الشافعي بالآية على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به بأن يذبح إذا ذبح ، ويخنق إذا خنق ، ويغرق إذا أغرق ، وهكذا . وقال مثل ذلك في الغصب والإتلاف . والقصد أن يكون الجزاء على قدر الإعتداء بلا حيف ولا ظلم ، وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام ، وهو المماثلة في قتال الأعداء كقتل المجرمين بلا ضعف ولا تقصير ، فالمقاتل بالمدافع والقذائف النارية أو الغازية السامة يجب أن يقاتل بها ، وإلاّ فأتت الحكمة لشرعيّة القتال ، وهي منع الظلم والعدوان ، والفتنة والإضطهاد ، وتقرير الحرية والأمان ، والعدل والإحسان . وهذه الشروط والآداب لا توجد إلاّ في الإسلام ، ولذلك قال تعالى بعد شرح القصاص والمماثلة : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فلا تعتدوا على أحد ولا تبتغوا ولا تظلموا في القصاص بأن تزيدوا في الإيذاء . وأكّد الأمر بالتقوى بما بيّن من مزيّتها وفائدتها فقال : { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } بالمعونة والتأييد ، فإنّ المتّقي هو صاحب الحقّ وبقاؤه هو الأصلح ، والعاقبة له في كل ما ينازعه به الباطل ، لأنّ من أصول التقوى اتّقاء جميع أسباب الفشل والخذلان . ولمّا كان الجهاد بالنفس وهو القتال ، يتوقّف على الجهاد بالمال ، أمرهم به فقال : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهو عطف على قاتلوا ، رابط لأحكام القتال والحجّ بحكم الأموال السابق ، فهناك ذكر ما يحرّم من أكل المال مجملا ، وهاهنا ذكر ما يجب من إنفاقه منه كذلك ، وسبيل الله هو طريق الخير والبرّ والدفاع عن الحقّ . ثمّ ذكر علّة هذا الأمر وحكمته على ما هي سنّته في ضمن حكم آخر . فقال : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } بالإمساك عن الإنفاق في الإستعداد للقتال ، فإنّ ذلك يضعفكم ويمكّن الأعداء من نواصيكم فتهلكون . ويدخل في النهي التطوّع في الحرب بغير علم بالطرق الحربية التي يعرفها العدو ، كما يدخل فيه كلّ مخاطرة غير مشروعة ، بأن تكون لاتّباع الهوى لا لنصر الحقّ وتأييد حزبه . وقال بعضهم يدخل فيه الإسراف الذي يوقع صاحبه في الفقر المدقع فهو من قبيل " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " . وفسّر الجلال سبيل الله " بطاعته : الجهاد وغيره " والتهلكة " بالإمساك عن النفقة وترك الجهاد " قال لأنّه يقوّي العدو عليكم . قال الأستاذ الإمام : أصاب مفسّرنا وأجاد في تفسير هذه الآية ، وقال بعضهم في تفسير النهي عن التهلكة ، أي لا تقاتلوا إلاّ حيث يغلب على ظنّكم النصر وعدم الهزيمة . وهذا لا معنى له إذ لا يلتئم مع ما سبقه ، وقال بعضهم : إنّه نهى عن الإسراف ، ولا يلتئم مع الأسلوب قبله وبعده ؛ وإنّما الذي يلتئم ويناسب هو ما قاله الجلال وآخرون ، فالمعنى : إذا لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كلّ ما تستطيعون من مال وإستعداد ، فقد أهلكتم أنفسكم . وفي أسباب النزول عن أبي أيّوب الأنصاري قال : نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، لمّا أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرّاً إنّ أموالنا قد ضاعت ، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله يرد علينا ما قلنا " وأنفقوا " الآية ، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو . رواه أبو داود والترمذي وصحّحه ، وابن حبّان والحاكم وغيرهم . وروي أنّه قاله لمّا خاطر رجل من المسلمين في القسطنطينية فدخل في صفّ الروم فقال الناس ألقى بيديه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب أيّها الناس إنكم تؤوّلون هذه الآية وذكره . أقول : وبيانه أنّ المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين وهم كثيرون ، فلو انصرفوا عن الإستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لاغتالوهم ، وإصلاح الأموال وإستثمارها في هذا الزمان هو أساس القوّة ، فقوى الدول على قدر ثروتها ، فالأمّة التي تقصّر في توفير الثروة ، هي التي تلقي بأيديها إلى التهلكة ، والتي تقصّر في الإنفاق في سبيل الله للإستعداد لقتال من يعتدي عليها تكون أدنى إلى التهلكة ، ولا ثروة مع الظلم ، ولا عدل مع الحكم المطلق الإستبدادي . ثمّ قال تعالى : { وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } الأمر بالإحسان على عمومه ، أي أحسنوا كلّ أعمالكم وأتقنوها فلا تهملوا إتقان شيء منها ، ويدخل فيه التطوّع بالإنفاق . وقد زعم بعض المفسّرين إنّ هذه الآية منسوخة بآية سورة براءة ( التوبة ) التي يسمّونها آية السيف . وهاك ما قاله الأستاذ الإمام : محصّل تفسير الآيات ينطبق على ما ورد من سبب نزولها ، وهو إباحة القتال للمسلمين في الإحرام بالبلد الحرام والشهر الحرام ، إذا بدأهم المشركون بذلك ، وأن لا يُبقوا عليهم إذا نكثوا عهدهم واعتدوا في هذه المرّة ، وحكمها باق مستمر لا ناسخ ولا منسوخ ، فالكلام فيها متّصل بعضه ببعض في واقعة واحدة ، فلا حاجة إلى تمزيقه ، ولا إلى إدخال آية براءة فيه ، وقد نقل عن ابن عبّاس إنّه لا نسخ فيها ، ومن حمل الأمر بالقتال فيها على عمومه - ولو مع انتفاء الشرط - فقد أخرجها عن أسلوبها وحمّلها ما لا تحمل . وآيات سورة آل عمران نزلت في غزوة أحد وكان المشركون هم المعتدين . وآيات الأنفال نزلت في غزوة بدر الكبرى وكان المشركون هم المعتدين أيضاً . وكذلك آيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين ولذلك قال : { فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } [ التوبة : 7 ] وقال بعد ذكر نكثهم : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ التوبة : 13 ] الآيات . كان المشركون يبدءون المسلمين بالقتال ؛ لأجل إرجاعهم عن دينهم ، ولو لم يبدءوا في كلّ واقعة ، لكان إعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة - كلّ ذلك كافياً في اعتبارهم معتدين ، فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كلّه كان مدافعة عن الحقّ وأهله وحماية لدعوة الحقّ ، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطاً لجواز القتال . وإنّما تكون الدعوة بالحجّة والبرهان لا بالسيف والسنان ، فإذا مُنعنا من الدعوة بالقوة ، بأن هدّد الداعي أو قتل ، فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة ، لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } [ البقرة : 256 ] ويقول : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدّد الأمن ويعتدي على المؤمنين ، فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح ولا لأجل الطمع في الكسب . ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأوّل لأجل حماية الدعوة ، ومنع المسلمين من تغلّب الظالمين لا لأجل العدوان ، فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ، ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المتنصّرة من يظفرون به من المسلمين . وكان الفرس أشدّ إيذاءً للمؤمنين منهم ، فقد مزّقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعوته وهدّدوا رسوله ، وكذلك كانوا يفعلون ، وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية إقتضته طبيعة الملك ولم يكن كلّه موافقاً لأحكام الدين ، فإنّ من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف ، ولم تعرف أمّة قويّة أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمّة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك . وجملة القول في القتال : إنّه شرّع للدفاع عن الحقّ وأهله وحماية الدعوة ونشرها ، فعلى من يدّعي من الملوك والأمراء إنّه يحارب للدين ، أن يحيي الدعوة الإسلامية ، ويعدّ لها عدتها من العلم والحجّة بحسب حال العصر وعلومه ، ويقرن ذلك بالإستعداد التامّ لحمايتها من العدوان ، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحيّة وطرق الإستعداد لحمايتهم ، يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر . وبما قرّرناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام - حتّى من المنتمين إليه - من زعمهم إنّ الإسلام قام بالسيف ، وقول الجاهلين المتعصّبين إنّه ليس دينا إلهياً ؛ لأنّ الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء ، وأنّ العقائد الإسلامية خطر على المدنية . فكل ذلك باطل ، والإسلام هو الرحمة العامّة للعالمين .