Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 196-196)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اتّصال هذه الآيات بما قبلها جليّ جدّاً ، لا سيّما لمن قرأ ما تقدّم من التفسير ، فإنّ آيات القتال السابقة نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم والإحرام والمسجد الحرام ، فكان الغرض الأوّل من السياق بيان أحكام الحجّ بعد بيان أحكام الصيام ؛ لأنّ شهوره بعد شهره الذي هو رمضان . ولمّا أراد النبي صلى الله عليه وسلم العمرة وصدّه المشركون أوّل مرّة بالحديبية ، وأراد القضاء في العام القابل ، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم وإضطرارهم إلى قتالهم إذا هم نقضوا العهد وبدأوا بالقتال ، أنزل الله تعالى أحكام القتال بعد ذكر الحج في الجواب عن حكمة اختلاف الأهلّة ، ثمّ عاد إلى إتمام أحكام الحج فقال : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } فالعطف والتعبير بالإتمام ظاهران في أنّ السياق في الكلام عن الحج ، ولذلك لم يقل هنا كتب عليكم الحجّ كما قال في الصيام . وقد كان الحجّ معروفاً في الجاهلية لأنّ فرض على عهد إبراهيم وإسماعيل فأقرّه الإسلام في الجملة ، ولكنّه أزال ما أحدثوا فيه من الشرك والمنكرات ، وزاد ما زاد فيه من المناسك والعبادات ، فالآية ليست في فرضيته وفرضية العمرة ، بل هي في واقعة تتعلّق بهما وبقاصديهما ، وقد كانوا توجّهوا إلى ذلك قبل نزولها بعام كما تقدّم ، فدلّ ذلك على أنّ المشروعية سابقة لنزول هذه الآيات . والمراد بإتمام الحجّ والعمرة : الإتيان بهما تامّين ، ظاهراً بأداء المناسك على وجهها ، وباطناً بالإخلاص لله تعالى وحده دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة فيهما ، ولا ينافي الإخلاص البيع والشراء في أثناء الحجّ إذا لم تكن التجارة هي المقصودة في الأصل . وسيأتي التفصيل في حكم التجارة في الحجّ في تفسير : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] . وأمّا الرياء وحبّ السمعة ، فإذا كان هو الباعث على الحجّ ، فالحجّ ذنب للمرائي لا طاعة ، وإذا عرض الرياء في أثنائه ، فقيل إنّه لا يقبل منه شيء لما ورد من أنّ الله تعالى لا يقبل إلاّ ما كان خالصاً لوجهه ، والأحاديث في ذلك كثيرة ، وإذا كان هذا قد بدأ بالنسك لوجه الله فإنّه لم يتمّه لله كما أمر ، وقيل بل يؤاخذ بقدر قصده الطاعة والإخلاص وقدر قصده الرياء ، وكلّ شيء عنده تعالى بمقدار : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] وتجد القول في هذه المسألة مفصّلا في كتاب الرياء من الجزء الثالث من ( الإحياء ) فراجعه . وقد نبّه الأستاذ الإمام في الدرس لحال عامّة الحجّاج في هذا الزمان فقال : إنّ أكثرهم لا يخطر في بالهم مناسك الحجّ وأركانه وواجباته ، ولا يقصدونها للجهل بها ، وإنّما يقصدون زيارة ( أبو إبراهيم ) يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من لا يعرف للحجّ معنى سوى هذه الزيارة ، وهؤلاء هم الهائمون المغرمون بالحجّ ، ومن الناس من يحجّ ليقال له الحاجّ فلان أو ليحتفل بقدومه ، وهذا من أخسّ ضروب الرياء ، وكثير منهم يقترض بالربا ويحجّ فيريد أن يعبد الله بأنكر المنكرات . وقد استدلّ بالآية القائلون بوجوب العمرة كالحجّ ، وهو المروي عن علي وابن عمر وابن عبّاس وجماعة من كبار التابعين وعليه الشافعي وأحمد . وقيل : إنّها سنة . ويروى عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وعليه مالك والحنفية وعن أبي حنيفة قول بالوجوب . وقد تقدّم أن الآية ليست في وجوب الحجّ والعمرة فلا تصلح حجّة على القائلين بالسنيّة ، لأنّ الأمر بإتمام الحجّ والعمرة خطاب لمن شرّع فيهما ، وهو يصدق وإن كانت العمرة سنّة . ويدلّ على فرضية الحجّ قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] والأحاديث الصحيحة الصريحة . وأمّا الأحاديث في العمرة فمتعارضة . والصواب إنّ الأحاديث الناطقة بأنّ العمرة غير واجبة وبأنّها تطوّع ضعيفة ، وأقواها حديث الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عن العمرة أواجبة هي ؟ فقال : " لا وأن تعتمر خير لك " وهو عند أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وصحّحه الترمذي ، وفي إسناده الحجّاج بن أرطأة وقد ضعّفه الأكثرون وبالغ ابن حزم فقال : إنّ هذا الحديث مكذوب وباطل . والصواب ما قاله النووي من اتّفاق الحفّاظ على تضعيفه . وأقوى أحاديث القائلين بوجوب العمرة حديث أبي رزين العقيلي ، قال : " يا رسول الله إنّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجّ ولا العمرة ولا الظعن فقال : " حجّ عن أبيك واعتمر " رواه أحمد وأصحاب السنن وصحّحه الترمذي بلا نكير ، بل قال الإمام أحمد لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أوجب من هذا ولا أصحّ منه ، فهو حجّة عند القائلين بأنّ الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف ، وقد يقال : إنّ هذا السائل لم يقصد السؤال عن مشروعية أصل الحجّ والعمرة ، فإنّه كان يعلم حكمهما ، وإنّما سأل هل يصحّ أن يأتي بهما عن أبيه الذي يقعده عنهما العجز ، ولا ينافي هذا كون العمرة سنّة متّبعة لا فرضاً لازماً ، ويؤيّد هذا عدم ذكرها في الآية الناطقة بالوجوب ، ولا في حديث أركان الإسلام ، فهي تطوّع النسك ، وإن لم يصحّ الحديث الذي فيه لفظ التطوّع . وقال بعضهم : إنّ العمرة سنّة ، فمتى شرّع فيها كان إتمامها واجباً . وما تقدّم في معنى الإتمام هو المتبادر والجامع بين الأقوال المختلفة ، وما رواه ابن أبي حاتم عن صفوان بن أميّة في سبب نزولها - إن صحّ - لا ينافيه ، وهو " أنّ رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم متضمّخاً بالزعفران عليه جبّة فقال : كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي ؟ فأنزل الله الآية فقال : " أين السائل عن العمرة " ؟ قال : هاأنا ذا ، فقال له : " ألق عنك ثيابك ثمّ إغتسل واستنشق ما استطعت ، ثمّ ما كنت صانعاً في حجّك فاصنعه في عمرتك " " . وأركان الحجّ خمسة : 1 - الإحرام من الميقات ، وهو في الأصل الوقت المضروب للشيء ، والمراد به هنا المكان الذي عيّنه الشارع لإحرام أهل كلّ قطر ، وسيأتي تفسير الإحرام . 2 - الوقوف بعرفة . 3و4 - الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة . 5 - الحلق أو التقصير للشعر . فمن أدّى هذه الأعمال ، فقد أدّى الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام . وله أعمال أخرى واجبة ، من قصّر في شيء منها كان عليه فدية ، وأركان العمرة هي ما عدا الوقوف من أركان الحجّ . وفرضية الحجّ مجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة ، من أنكرها كان مرتدّاً ، والراجح إنّه فُرِضَ سنة تسع من الهجرة ، وعليه الجمهور ، وهذه الآية نزلت سنة ستّ ، ولكن ليس فيها إنّ الحجّ فرض على كلّ مستطيع من المؤمنين رجالا ونساءً . هذا ما كتبته عقب حضور درس التفسير على شيخنا وطبع في المنار سنة 1322 ثمّ على حدة سنة 1325 ، وأقول الآن : إنّ الحجّ ممّا أقرّه الإسلام من ملّة إبراهيم عليه السلام كما تقدّم آنفاً ، وآية آل عمران في التصريح بفرضيته نزلت قبل هذه الآيات فيما يظهر ؛ لأنّ سورة آل عمران نزلت عقب غزوة أحد سنة أربع ، ولكن المسلمين لم يكن يمكنهم الحجّ قبل فتح مكّة ، فالطائف ، وكان فتحها في سنة ثمان ، وفي سنة تسع خرجوا للحجّ أوّل مرّة بإمارة أبي بكر رضي الله عنه وكانت تمهيداً لحجّة النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر ، إذ أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجّوا فيها : بأن لا يطوف بالبيت بعد هذا العام مشرك . ونزلت آية { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] ولهذا قال الجمهور : إنّ الحجّ فرض سنة تسع ، والصواب إنّه فرض قبلها ونفذ فيها . أمر بالإتمام ، ثمّ ذكر حكم ما عساه يحول دونه فقال : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } الحصر والإحصار في اللغة : الحبس والتضييق ، يقال حصره عن السفر وأحصره عنه ، إذا حبسه ومنعه ، وقال بعض أئمّة اللغة : إنّ الإحصار هو المنع بسبب الناس ، والحصر بسبب المرض ، وقال بعضهم بالعكس ، وقوله تعالى الآتي بعد " فإذا أمنتم " يرجّح أنّ المراد بالإحصار منع العدو ، أي إن منعتم من إتمام النسك فعليكم ما تيسّر لكم وسهل حصوله وثمنه من الهدي ، وهو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرّق على فقرائه ، وذهب الجمهور إلى أنّ المراد بما إستيسر الشاة ، وهي أدناه ، وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير : جمل أو بقرة ، والمتبادر من الآية أنّ على كلّ أحد ما إستيسر له من بدنة أو بقرة أو شاة قال ابن عبّاس : وما عظم فهو أفضل . والجمهور : على أن يذبحه حيث أحصر ولو في الحلّ ، ويتحلّل ؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحلّ على الأرجح . وقالت الحنفية : يبعث به إلى الحرم ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم ، وغلب على ظنّه أنّه ذبح تحلّل . ثم قال : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } الدخول في الحجّ أو العمرة يكون بالإحرام ، وهو نيّة النسك عند الابتداء به بالتلبية ، ولبس غير المخيط من إزار ورداء ، مع كشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيين ، والخروج منهما - ويعبّر عنه بالإحلال والتحلّل - يكون بحلق الرأس أو تقصير شعره ، فالنهي عن الحلق هنا ، عبارة عن النهي عن الإحلال قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي يحلّ ذبحه فيه ، وهو في حال الإحصار ، حيث يحصر الحاجّ ، وإلاّ فالكعبة لقوله تعالى : { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] واستدلّ الحنفية بهذا على عدم جواز نحر الهدي في محلّ الإحصار ، وحجّة الجمهور فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ، وأنّ الأصل في الهدي أن يبلغ الكعبة ؛ لأنّه مهديّ إليها ، وحال الإحصار حال ضرورة ، ولا سيّما إحصار السنة التي أنزلت فيها الآية ، فقد كانت الكعبة في أيدي المشركين ، فلا يعقل أن يأمر الله تعالى بإرسال الهدي إليها فيكون غنيمة لهم ، على أنّ إبلاغه محلّه في حال الإحصار يكون متعذّراً أو متعسّراً ، فكيف يتوقّف الإحلال عليه ؟ ثمّ إنّ إكتفاءهم بذبحه في أدنى مكان من أرض الحرم ، لا ينطبق على الآيتين الناطقتين ببلوغه الكعبة والبيت العتيق ، وقولهم إنّه عليه السلام ذبح عام الحديبية في أوّل الحرم ، غير مسلّم ، فجمهور أهل النقل على خلافه ، ثمّ إنّهم إحتاجوا في تصحيح قولهم إلى تقدير العلم ، أي حتّى تعلموا أنّ الهدي بلغ محلّه ، ولا حاجة إلى تقدير على رأي الجمهور . واستدلّ الجمهور بالإقتصار على الهدي في مقام البيان : على أنّ القضاء غير واجب على المحصر ، وقالت الحنفية : يجب قضاء العمرة ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضاها بأصحابه ، وسمّيت عمرة القضاء ؛ وقال الشافعي : سمّيت عمرة القضاء ، والقضيّة للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، لا على أنّه أوجب عليهم قضاء تلك العمرة ، والهدي جمع هدية كجدي وجدية ، والمحلّ بكسر الحاء اسم مكان من حلّ يحلّ حلاً ، أي صار حلالاً ، ضدّ حرم يحرم إذا صار حراماً . ثمّ ذكر حكم من يؤذيه عدم الحلق فقال : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } مرضاً ينفعه فيه الحلق ويضرّه عدمه { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } كقمل أو جرح { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } أي فعليه - إن حلق - فدية من هذه الأجناس الثلاثة على التخيير ، أخرج البخاري من حديث كعب بن عجرة قال : " وقف عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا فقال : " يؤذيك هوامك ؟ " قلت : نعم . قال : " فاحلق رأسك " قال : فنزلت هذه الآية وذكرها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صم ثلاثة أيّام أو تصدّق بفرق بين ستّة أو انسك بما تيسّر " قال البخاري وعنه رضي الله عنه أنّه قال : نزلت فيَّ خاصّة وهي لكم عامّة . والفرق بالتحريك ، قيل وبالفتح مكيال بالمدينة يسع ستّة عشر رطلا ، والمراد هنا ما يكال فيه من تمر وغيره من الأقوات . وقوله ( بين ستّة ) أي من المساكين ، والنسك هاهنا قال ابن عبد البرّ : لا خلاف بين العلماء في أنّه شاة . ثم قال تعالى : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } الإحصار ، وذهب خوف العدو - قال بعض الفقهاء : ومثله المرض - أو كنتم في حال أمن وسعة { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } أي فمن تمتّع بمحظورات الإحرام بسبب العمرة ، أي أدائها بأن أتمّها وتحلّل وبقي متمتّعاً إلى زمن الحجّ ليحجّ من مكّة ، فعليه ما إستيسر له من الهدي ، أي فعليه دم جبر أقله شاة - لأنّه أحرم بالحجّ من غير الميقات - يذبحه يوم النحر أو قبله جوازاً عند بعضهم ، أو المعنى فمن قام بأعمال العمرة قبل الحجّ منتهيّاً إليه فعليه ذلك { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي لعدمه أو عدم المال { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } أي فعليه صيامها في أيّام الإحرام بالحجّ وتمتدّ إلى يوم النحر ، وقال أبو حنيفة في أشهره بين الإحرامين وهذا أوسع { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } من الحجّ إلى بلادكم ، ويصدق بالشروع في الرجوع وعليه الأئمّة الثلاثة وغيرهم من السلف ، قالوا يجزئه الصوم في الطريق ، ولا يتضيّق عليه إلاّ إذا وصل إلى وطنه ، وقال مالك إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم ، وقال أبو حنيفة معناه : إذا فرغتم من أعمال الحجّ ، فيجوز الصوم عنده قبل الشروع بالرجوع إلى الوطن ، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر في حجّة الوداع : أنّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله " ولهذا الحديث قال بعض العلماء إنّه لا يجوز صيامها قبل الوصول إلى أهله ؛ لأنّه تقديم للعبادة البدنية على وقتها ، ويجاب عنه بأنّ لفظ الرجوع يصدق بالشروع فيه ، ولا يخفى أنّ الإحتياط أن يصومها بعد الوصول إلى أهله لأنّه المتبادر من العبارة ، ولأنّ الصيام في السفر خلاف الأصل في هذه القربة . وقوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } إشارة إلى الثلاثة والسبعة مبيّن لجملة العدد الواجب ، كما بيّن تفصيله ، ومزيل لوهم من عساه يتوهّم أنّ الواو العاطفة للسبعة للتخيير ، كما عليه بعض العرب في مثل : جالس الحسن وابن سيرين ، وروي أنّ بعض العرب كانوا يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد ، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة فالفذلكة تزيل وهم هؤلاء أيضاً ، ولذلك أكّدها بقوله كاملة . قال الأستاذ الإمام : إنّ الله تعالى إذا أراد أن يقرّر حكماً ، وكان في التعبير المألوف عنه ، ما يوهم خلاف المقصود ولو لبعض المخاطبين ؛ يأتي بما يؤكّد الحكم وينفي أدنى وهم يعرض فيه ، ولذلك وصف كتابه بالمبين وبالتبيان . وإذا كان هذا شأنه ، فيستحيل أن يطلق - في مقام بيان الأحكام - القول في نفي شيء بصيغة الإثبات ، كما قدّر بعضهم النفي في قوله : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } [ البقرة : 184 ] . ثمّ بيّن تعالى أنّ التمتّع بالعمرة مضمومة إلى الحجّ ، أو إلى وقت الإحرام بالحجّ ، وما يتبعه من الأحكام خاصّ بالآفاقيين ، دون أهل الحرم فقال : { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } وذلك إنّ أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتّع لما يلحقهم من المشقّة بالسفر إلى الحج وحده ، ثمّ السفر إلى العمرة وحدها . هذا ما اختاره الأستاذ الإمام ، وعليه الحنفية ، فلا متعة ولا قران عندهم لحاضري المسجد الحرام ، وقال غيرهم كالشافعية : إنّ الإشارة إلى أقرب مذكور وهو الجزاء على التمتّع من الهدي أو بدله ؛ لأنّ الآفاقي إذا تمتّع يحرم بالحجّ من مكّة ، لا من الميقات ، فيكون حجّه ناقصاً يجبر بالهدي أو بدله إذا لم يجده . ولعلّ وجه الإختيار التعبير باللام المفيدة إنّ التمتّع رخصة دون " على " المفيدة للجزاء . وحضور الأهل المسجد الحرام ، كناية عن الإقامة في أرض الحرم ، وقال الجلال : والأهل كناية عن النفس ، وما قلناه في الكناية أظهر ، والعبارة تشمل من لا أهل له على كلّ حال ، والمتبادر إنّ أهل المسجد الحرام هم أهل مكّة ، ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام غيرهم ، وعليه مالك ، وقال طاوس : هم أهل الحلّ ، وأبو حنيفة : هم من وراء الميقات ، والشافعي : هم من كان على مرحلتين من مكّة ، أي مسافة القصر عنده . ثمّ ختم الآية بالأمر بتقوى الله المقصودة من كلّ أمر ونهي ، والإعلام بشدّة عقوبته لمن لم يتّقه فقال : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } بالمحافظة على إمتثال هذه الأوامر والنواهي وغيرها من ضروب الهداية التي فيها سعادتكم { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } بما جعل عاقبة التفريط والإضاعة شديدة على المفرطين في الدنيا والآخرة ، فإذا علمتم ذلك علماً صحيحاً ، رجي لكم الاستمساك بحبل التقوى وكنتم من المفلحين ، وأمّا من لم يكن على صحّة علم بسرّ وعيد الله تعالى بأن ظنّ أنّه تعالى يخلفه وإن لم يتب ويتّق صاحبه ، فهو من الخاسرين . ذكر الله تعالى في هذه الآية حكم التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، وقد علم أنّ الحرمي فيه ليس كالآفاقي ، ويفهم منه : أنّ هناك حجّاً وإعتماراً على غير هذه الطريقة ، وقد ذكروا أنّ الحجّ مع العمرة على ثلاثة ضروب - نذكرها هنا لإفادة من لم يقرأ الفقه ، أو لمن لا يعرف فيها إلاّ ما قاله بعض الفقهاء - وهي التمتّع والإفراد ، والقران ، وقد اختلفوا في أفضلها ؛ لتعارض الأحاديث في حجّة الوداع أي الضروب كانت ، فالتمتّع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ فيتمّها ، ويتحلّل ، ثمّ يحرم بالحجّ من مكّة أو من قريب منها ، وقال بعضهم لا يشترط التحلّل فتدخل في القران ، وقد أشرنا إلى الوجهين في تفسير الآية . والإفراد : أن يحرم بالحجّ وحده ، ثمّ يعتمر بعد أدائه ، والقران : أن يحرم بهما جميعاً ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يُدخل عليها الحجّ ، أو العكس كما تقدّم . وقد اختلفت الأحاديث الصحيحة في حجّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فعن بعض الصحابة أنّه كان تمتعاً ، وعن بعضهم أنّه كان إفراداً ، وعن بعضهم أنّه كان قراناً ، وقد جمع المحدّثون بين الروايات بوجوه ، أقواها وأجمعها : إنّه أهلّ بالحجّ مفرداً ، ثمّ أدخل عليه العمرة فصار قراناً ، فيحمل قول القائلين بالإفراد على ما أهلّ به ، وقول القائلين بالقران على ما انتهى إليه عمله من إدخال العمرة على الحجّ . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : إنّ التمتّع عند الصحابة يتناول القران ، فتحمل عليه رواية من قال إنّه حجّ تمتّعاً فتصحّ جميع الروايات . وصفوة القول : إنّ حجّه صلى الله عليه وسلم كان قراناً ؛ ولذلك فضّل كثير من العلماء القران ، وقال بعضهم التمتّع أفضل ، واحتجّوا له بحديث جابر عند البخاري وأبي داود قال : أهلّ النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحجّ وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة ، وقدم علي من اليمن ومعه هدي ، فقال أهللت بما أهلّ به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثمّ يقصروا ويحلّوا ، إلاّ مَن كان معه الهدي . وحكى إستنكارهم وقول النبي صلى الله عليه وسلم ردّاً عليهم : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أنّ معي الهدي لأحللت " وقال بعضهم وهو رواية عن أحمد : إنّ الأفضل التمتُع ، لمن لم يسق الهدي لا مطلقاً . وقال ابن القيم في اعلام الموقعين : أفتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بجواز فسخهم الحجّ إلى العمرة ، ثمّ أفتاهم بفعله حتماً ولم ينسخه شيء بعده ، وهو الذي ندين لله به أنّ القول بوجوبه قوي وأصحّ من القول بالمنع منه ، وقد صحّ عنه صحّة لا شّك فيها إنّه قال : " من لم يكن أهدى فليهلّ بعمرة ومن أهدى فليهلّ بحجّ مع عمرة " . والمراد بسوق الهدي : أخذه إلى الحرم ، ومن الإهلال الإحرام ، وإذ كان سوق الهدي في هذا الزمان شاقّاً على حجّاج الآفاق وكثير النفقة ، إلاّ على أهل جزيرة العرب المجاورين للحجاز ، فأكثر الناس يحرمون بالعمرة وحدها ، وبعد أداء أركانها يتحلّلون منها بمكّة ، ثم يحرمون بالحجّ قبل عرفة بيوم واحد في الغالب ، وهو المسمّى بيوم التروية الذي يخرجون فيه إلى عرفات .