Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 19-20)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا هو مثل الفريق الثاني من هذا الصنف من الناس ، الذي كان أفراده ولا يزالون فتنةً للبشر ، ومرضاً في الأمم ، وحجّة على الدين ؛ لأنّهم بغرورهم بتقاليدهم التي اكتفوا بها من دينهم الموروث ، يعبثون بعقولهم ، ويلهون بخيالاتهم ؛ ويجنون على مشاعرهم ومداركهم فيضعفونها ، ويصارعون الفطرة الإلهية فيصرعونها ، حتّى يكون بعضهم كالجمادات { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] كما تقدّم في المثل الأوّل . ويألف البعض الآخر الظلمة بطول التقليد ، ويكون أفراده في نور البرهان كالخفافيش في نور الشمس ، ولكنّهم أمثل من الفريق الذي ضرب له المثل الأوّل ؛ لأنّ فيهم بقيّة من الرجاء ورمقاً من الحياة ، يوجّههم إلى الاقتباس من نور الهداية كلّما أضاءت لهم بروقها ، والمشي في الجادّة كلّما استبانوا طريقها ، ولكن تحول دون ذلك ظلمات التقاليد العارضة ، وتقف في السبيل عقبات البدع المعارضة ، وقد يعدم لاستماع قوارع الآيات التي تنذرهم بما حرّفوا ، وصوادع الحجج التي تبيّن لهم كيف انحرفوا ، ولا يصدّهم عنها إلاّ أنّها تزعجهم إلى ترك ما صنّفوا وألّفوا ، وهجر ما أحبّوا وألفوا ، وعدم المبالاة بسنّة الآباء ، وقلّة الإحتفال بعظمة الرؤساء . فهم يتراوحون بين الخوف والرجاء ، مذبذبين بين أهل الجحود وأهل اليقين { لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [ النساء : 143 ] ، ولا ينقطع منهم الأمل ، حتّى ينقطع بهم الأجل . ألا تراهم عندما يقرع أسماعهم من كتاب ربّهم ما يبيّن فساد سيرتهم ، والتواء طريقتهم ، كقوله تعالى في النعي على أمثالهم ، وحكاية ما لم يرضَه من أقوالهم : { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] إلخ . وقوله في بيان ندمهم على التقليد ، عندما يحلّ بهم الوعيد : { رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [ الأحزاب : 67 ] يأخذهم الزلزال ، ويتولاّهم الإضطراب والقلق ، وتنشقّ لهم الظلمة عن فلق ، ويلمع في نفوسهم نور الهداية الفطريّة ، فيمشون فيه خطوات ، ثمّ تحيط بهم الظلمات ، وينقطع بهم الطريق كما ألمعنا آنفا . وأسباب غلبة الظلمات على النور هي : موافقة ما عليه الجمهور ، والإخلاد إلى الهوى ، وتفضيل عرض هذا الأدنى ، وانتظار المغفرة ولو بما تأوّلوه في معنى الشفاعة ، وتمنّي الربح من غير بضاعة { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } [ الأعراف : 169 ] بلى هو عندهم مدروس بجدليّات النحو والكلام ، ولكنّه دارس الصوى والأعلام ؛ المنصوبة لهداية القلوب والأحلام . ومقروء بالتجويد والأنغام ؛ ولكنّه متروك الحكم والأحكام ؛ يقرؤنه لكسب الحطام ؛ لا لمعرفة الحلال والحرام ، ولا يتلونه لإصلاح القلب واللسان ، بتزكية النفس وتغذية الإيمان . ويكتبونه لشفاء الأبدان من الأسقام ، لا لشفاء ما في الصدور من الأوهام والآثام ، ولو كان له أنصار يدعون إليه ؛ وهداة يعتصمون به ويعوّلون عليه ؛ لتبدّدت الظلمات أمام الأنوار ، ومحت آية الليل آية النهار . تلك الإرشادات الإلهية بمنزلة المطر الذي ينزل من السماء ، والزلزال والإضطراب الذي أشرنا إليه ، بمنزلة الرعد ؛ واستبانة الصراط المستقيم الذي يلمع في أنفسهم من ذلك ، كالبرق ؛ والعادات والتقاليد والشهوات والخوف من ذمّ الجماهير عند العمل بما يخالفهم ، كالظلمات التي تصدّ عن سلوك الطريق ، بل تعميه على طالبه وتحجبه عنه ؛ ولذلك قال تعالى في تمثيل حال هذا الفريق : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي قوم نزل بهم صيِّب ، ووصفه بأنّه من السماء ، مع العلم بأنّ الصيِّب لا يكون إلاّ من السماء : للإشعار بأنّه أمر لا يملكون دفعه وليس ملاكه في أيديهم ، ومن المعهود عند بلغاء العرب التعبير عمّا يلمّ بالناس ممّا لا دافع له ، بأنّه نزل من السماء ، ولا جرم أنّ تلك السوانح التي تسنح في الأفكار ، والإلهامات الإلهية ، لأصحاب الفطرة الذكيّة ، التي يكون من أثرها ما أشار إليه المثل ، وتقدّم التنبيه عليه ، هي أمر وهبيّ واقع ، ما له من دافع . قال تعالى في وصف الصيِّب { فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } الظلمات هي ظلمة الليل ، وظلمة السحب ، وظلمة الصيِّب نفسه . والرعد : هو الصوت المعروف الذي يسمع في السحاب عند اجتماعه أحياناً . والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب في الغالب ، وقد يلمع من الأفق حيث لا سحاب . وقال مفسّرنا الجلال السيوطيّ : إنّ الرعد ملك أو صوته ، والبرق سوطه يسوق به السحاب ، كأنّ الملك جسم مادّيّ لأنّ الصوت المسموع بالآذان من خصائص الأجسام ، وكأنّ السحاب حمار بليد لا يسير إلاّ إذا زُجر بالصراخ الشديد والضرب المتتابع . وما ذكرناه هو الذي كان يفهمه العرب من اللفظين ، وهو الذي يفهمه الناس اليوم ، ولا يجوز صرف الألفاظ عن معانيها الحقيقيّة إلاّ بدليل صحيح ، ولا سيّما إذا صرفت عن معاني من عالم - الشهادة الذي يعرفه الواضعون والمتكلّمون ، إلى معاني من عالم الغيب لا يعلمها إلاّ الله تعالى ومَنْ أعلمهم الله تعالى إيّاها بالوحي ، ولكن أكثر المفسّرين ولعوا بحشو تفاسيرهم بالموضوعات التي نصّ المحدّثون على كذبها ، كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليّات التي تلقّفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن لتكون بياناً له وتفسيراً ، وجعلوا ذلك ملحقاً بالوحي ، والحقّ الذي لا مرية فيه : إنّه لا يجوز إلحاق شيء بالوحي غير ما تدلّ عليه ألفاظه وأساليبه ، إلاّ ما ثبت بالوحي عن المعصوم الذي جاء به ثبوتاً لا يخالطه الريب . أقول : هذا ما قاله الأستاذ في الرعد والبرق ردّاً على الجلال فيما تبع فيه ما روي في التفسير المأثور عن بعض الصحابة والتابعين - ولا يصحّ منه شيء وأمثله ما رواه الترمذي بسند ضعيف من سؤال اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد رأينا السيوطي لم يذكر من هذه الروايات شيئاً في تفسير الآية من كتابه ( الدرّ المنثور ) المخصّص لنقل المأثور ، وكذلك ابن كثيّر ، وكأنّ هذا عدّه من الإسرائيليّات مع عدم صحّة الرواية فيه . وفسّرهما البغويّ بمفهومهما اللغويّ ، فقال في الرعد : " هو الصوت الذي يسمع من السحاب " وفي البرق : " هو النار التي تخرج منه " ، ثمّ قال : قال عليّ وابن عبّاس وأكثر المفسّرين : الرعد اسم ملك يسوق السحاب . والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب ، وقيل الصوت زجر السحاب وقيل تسبيح الملك ، وقيل الرعد نطق الملك والبرق ضحكه . وقال مجاهد : الرعد اسم الملك ويقال لصوته أيضاً رعد ، والبرق اسم ملك يسوق السحاب . وقال شهر بن حوشب : الرعد ملك يزجي السحاب فإذا تبدّدت ضمّها ، فإذا اشتدّ غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق ، وقيل : الرعد إنخراق الريح بين السحاب ، والأوّل أصحّ اهـ . ولم يذكر الحديث المرفوع لأنّه أضعف عنده ممّا ذكره فيما يظهر . أقول : ولا شكّ عندي في أنّ هذه الأقوال كلّها ممّا كان يذيعه مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه بين المسلمين ، من الصحابة والتابعين ، ولو صحّ في حديث مرفوع بسماع صحيح لا يحتمل أن يكون من الإسرائيليّات ، لما وقع فيه مثل هذا الخلاف ، ولأمكن حمله على أنّ المراد به الإشارة إلى أنّ هذه المظاهر الكونيّة تقع بفعل ملك موكّل بالسحاب ، ولكن لا حاجة إلى ذلك مع عدم صحّة شيء في المسألة والملائكة من عالم الغيب ، وهم لا يراهم الناس إلاّ إذا تمثّلوا لنبيّ أو وليّ على سبيل المعجزة أو الإرهاص ، كتمثل الروح للسيّدة مريم ( عليها السلام ) ورؤية الصحابة لجبريل في حضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم بصورة رجل يسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان ، والبرق من عالم الشهادة لا من عالم الغيب . وقول البغويّ : وقيل الرعد : انخراق الريح بين السحاب - يريد به قول فلاسفة اليونان الذي اغترّ به بعض المسلمين . قال البيضاويّ ؛ والرعد صوت يسمع من السحاب . والمشهور أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد . اهـ . وهو قول باطل والسحاب بخار لا يحدث اضطرابه صوتاً . وقال تعالى في أصحاب الصيّب : { يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } الصاعقة : هي ما كان يعرفه العرب ويعرفه كلّ واحد وهو ما ينزل في أثناء المطر والبرق والرعد فيصعق ما ينزل به ، بأن يهلك أو يلحقه ضرر ، وما تفسيرنا للبرق والرعد والصاعقة مع كونها معروفة لكلّ الناس ، إلاّ لأنّ المفسّرين صرفوا أفهامهم عن المعروف إلى غيره ، كما حكي عن ( أرسطو ) - حكيم قدماء اليونان - أنّ تلاميذه سألوه عن تعريف الحركة ، فقام ومشى ، وما أنطقهم بالسؤال عنها على بداهتها ، إلاّ أنّهم اعتادوا أن يسمعوا من الفلاسفة أقوالاً في الأمور الجلية . تجعلها غامضة خفيّة . وأمّا حقيقة البرق والرعد والصاعقة وأسباب حدوثها ، فليس من مباحث القرآن لأنّه من علم الطبيعة - أي الخليقة - وحوادث الجوّ ، التي في استطاعة الناس معرفتها باجتهادهم ولا تتوقّف على الوحي . وإنّما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الإعتبار والاستدلال ، وصرف العقل إلى البحث الذي يقوّي به الفهم والدين ، والعلم بالكون ينمّي ويضعف في الناس ، ويختلف باختلاف الزمان . فقد كان الناس يعتقدون في بعض الأزمنة أنّ الصواعق تحدث من أجسام مادّية لما كان يشمّونه في محلّ نزولها من رائحة الكبريت وغيره ، ورجعوا عن هذا الإعتقاد في زمن آخر ملاحظين أنّ تلك الرائحة لا تكون دائماً في محلّ الصاعقة . وقد ظهر في هذا الزمان أنّ في الكون سيّالاً يسمّونه الكهرباء ، من آثاره ما ترون من التلغراف والتليفون والترامواي . وهذه الأضواء الساطعة في البيوت والأسواق ، من غير شموع ولا زيت ولا ذبال ، وإنّما تكون باتّصال سلكين دقيقين كالخيوط التي تخاط بها الثياب ، أحدهما يحمل أو يوصل السيّال الكهربائيّ الذي يسمونه الموجب ، والآخر يوصل السيّال المسمّى بالسالب ، وبإتّصال السلكين ، يتولّد النور من تلاقي السيّالين . وبانقطاعهما أو الفصل بينهما ينفصل السيالان فينقطع الضوء من المصابيح والحركة من الآلات ، والكهربائيّة موجودة في كلّ شيء ، والبرق في السحاب يتولّد من اتّصال نوعيها الموجب والسالب بقدرة الله تعالى ، كما يتولّد في الأرض بعمل الإنسان . وقد استنزل بعض علماء الكهربائيّة قبس الصاعقة من السحاب إلى الأرض ، والصاعقة من أثر الكهربائيّة ، وهي تفريغ السحاب ، طائفة منها في مكان لجاذب في الأرض يجذبه ، وكثيراً ما حصل الصعق لعمّال التلغراف ، لما بين السحاب والأسلاك من الجاذبيّة . ومعرفة الناس بالسبب الحقيقيّ للصواعق هداهم إلى حفظ الأبنية الشاهقة منها ، بإتّخاذ القضيب المعروف الذي يسمّى قضيب الصاعقة ، فلا تنزل الصواعق على بناء رفع فوقه هذا القضيب ، ولا مجال في تفسير القرآن للتطويل في أمثال هذه المسائل الطبيعيّة ؛ لأنّها تطلب من فنونها الخاصّة بها ، فلنعد إلى بيان المثل . استحضر حال قوم مشاة في فلاة من الأرض ، نزل عليهم بعدما أقبل ظلام الليل صيِّب من السماء قصفت رعوده ، ولمعت بروقه ، وتصور كيف يهوون بأصابعهم إلى آذانهم كلّما حدث قاصف من الرعد ، ليدفعوا شدّة وقعه بسدّ منافذ السمع برؤوس الأنامل ، وعبّر عن الأنامل بالأصابع ، هذا التعبير المجازيّ اللطيف للإشعار بشدة عنايتهم بسدّ آذانهم ، ومبالغتهم في إدخال أناملهم في صماليخها ، كأنّ كلّ واحد منهم يحاول بما دهمه من الخوف أن يغرس إصبعه كلّها في أذنه ، حتّى لا يكون للصوت منفذ إلى سمعه ، لما يحذره على نفسه من الموت الزؤام ، ومعاجلة الحمام ، وهذا هو الجبن الخالع ، ومنتهى حدود الحماقة ؛ لأنّ سدّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت ، والموت فقد الحياة بمفارقة الروح للبدن ، وخلق الله له عبارةٌ عن تقديره أو عن قبضه للروح وتوفّيه للنفس . وقوله تعالى : { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } يرشدنا في أثناء شرح المثل وتقريره إلى حال من ضرب فيهم المثل ، لئلاّ يذهلنا ما نتصوّره من حال المشبّه به ، عن حال المشبّه المقصود بالذات ، وهو : إنّ التصامُم والهروب من سماع آيات الحقّ ، والحذر من صواعق براهينه الساطعة أن تذهب بتقاليدهم التي يرون حياتهم المليّة مرتبطةً بها ، لا يفيدهم شيئاً ؛ لأنّ الله تعالى محيط بهم ، ومطّلع على سرائرهم ، وعالم بما في ضمائرهم ، وقادر على أخذهم أينما كانوا ، وفي أيّ طريق سلكوا ، فلا يهربون من برهان إلاّ ويفاجئهم برهان آخر ، كالغريق يدفعه موج ويتلقّاه موج ، حتى يقذف به إلى ساحل النجاة ، أو يدفعه إلى هاوية العدم ، ولهذا قال : { مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } ولم يقل محيط بهم . أقول : فوضع الاسم المظهر موضع المضمر ، للإيذان بأنّهم إنّما كانوا كذلك بكفرهم ، وأنّ ذلك يرد في أمثالهم . والمراد بالإحاطة هنا إحاطة القدرة ، فمن لم يُمِتْه بأخذ الصاعقة أماته بغيرها . تنوّعت الأسباب والموت واحد . والمحيط بالشيء لا يمكن أن يفوته وينفلت من قبضته . { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } إذا لمع البرق بشدّة مفاجئاً من هو في ظلمة ، فإنه يُؤثّر في بصره تأثيراً يكاد يخطفه ، والخطف هو الأخذ بسرعة ، ولكنّه يتبيّن به جزءاً من الطريق فيمشي فيه خطوات ثمّ يعتكر عليه الظلام ، وتستحوذ عليه المخاوف والأوهام ، فيقف في مكانه ، أو يعود البرق إلى لمعانه ، ويحاكي هذا من حال الممثّل بهم : إنّه عندما يدعوهم الداعي إلى أصل الدين ، ويوضّح لهم سبب ما هم فيه من البلاء المبين ، ويتلو عليهم الآيات البيّنة ، ويقيم لهم الحجج القيّمة ، على أنّهم تنكّبوا الصراط السويّ ، وأصيبوا بالداء الدويّ ، يظهر لهم الحقّ فيعزمون على اتّباعه ، وتسير أفكارهم في نوره بعض خطوات ، ولكن لا يعتمون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشهوات ، وغبسة الأهواء والشبهات ، فتقيّد الفكر وإن لم تقف سيره ، وإنّما تعود به إلى الحيرة - كما تقدّم في أوّل الكلام - ثمّ يتكرّر النظر في تضاعيفها بطريق الإلتفات والإلمام . وفيه : إنّهم على سوء الحال وخطر المآل ، لم تنقطّع منهم الآمال ، كما انقطعت من أصحاب المثل الأوّل الذين وُصفوا بالصمّ البكم العمي ولذلك قال فيهم : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ } حتّى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ، ولا تفيدهم هداية هاد ، ولم يقل : إنّه ذهب بنورهم كما ذهب بنور أولئك وسلبهم كلّ أنواع الهدى والرشاد ، فوقع اليأس من رجوعهم إلى الحقّ وقوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } إلخ ، رجوع إلى بيان حال مَنْ ضُرب فيهم المثل ، لا من تتمّة المثل . وقد كنّى عنهم بالضمير هنا لأنّ المثل قد تمّ ، بعدما ذكرهم في قوله : { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } بالوصف الذي اقتضى التمثيل . هذا ما قاله شيخنا ، وهو أحد قولين للمفسّرين ، ومنهم مَنْ جعله تتمّة للمثل نفسه ، والمقصود مَنْ ضُرب فيهم المثل ، على أنّ كلاَّ من المعنيين صحيح لا ينافي الآخر ، وكلام بعضهم يمنع الجمع فقد قال البغوي : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم الظاهرة . كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة . اهـ وهو خطأ بيانيّ ، فإن الباطنة هي المقصود من الظاهرة بأسلوب التشبيه البليغ وهو الإستعارة . ومع هذا فقد جعله شيخنا في صنف منهم غير الموصوفين بقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] وكلامه أظهر . { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ليس عندي عن أستاذنا شيء في هذه الجملة ومعناها واضح لا يحتاج إلى تفسير ، ولكن قال بعض المفسّرين : إنّ قدير بمعنى قادر ، ومثله كلّ صيغة مبالغة في أسمائه تعالى لأنّه لا تفاوت فيها . وفيه أنّ المبالغة في الكلام ، لأجل التأثير في الأفهام . فقوله : { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } أبلغ من قوله : { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } ولكلّ منهما موقع . وهاهنا لمّا هدّد المنافقين بأنّه لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، علّله بأنّه على كلّ شيء قدير ، للإعلام بأنّ تعلّق مشيئته يتّصل به تعلّق قدرته ، فما شاء كان قطعاً لأنّه لا يعجزه شيء ، وتأثير الأسباب في مسببّاتها منوط بمشيئته تعالى . تنبيه صادع في تطبيق القرآن على ما هو واقع وظهور معاني الأمثال المضروبة للمنافقين ، في كثير من العلماء والعامة من المسلمين : عقّب الأستاذ تفسير هذه الآيات بتنبيه ، ارتاع له الخامل والنبيه ، ذلك أنّه بيّن أنّ القرآن هاد ومرشد إلى يوم القيامة ، وأنّ معانيه عامّة شاملة ، فلا يعِد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصاً مخصوصين ، وإنّما نيط وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب . فلا يغترّنّ أحد بقول بعض المفسّرين : إنّ هذه الآيات نزلت في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فيتوهّم أنّها لا تتناوله ، وإن كانت منطبقة عليه ؛ لأنّه لم يتّخذ القرآن إماماً وهادياً ، ولم يستعمل عقله ومشاعره فيما خُلقت له ، بل اكتفى عن ذلك بتقليد آبائه ومعاصريه ، في كلّ ما هم فيه ، ذكر ذلك عند بيان وجه الإتّصال بين الآيات السابقة وما بعدها ، فقال بعد تلاوة الآية التالية ما معناه : { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ … } .