Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 21-22)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الناس المنادون هنا وجهان : أحدهما : إنّهم الذين يقولون : آمنّا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين ذلك الإيمان الذي يملك القلب ويصرِّف النفس في الأعمال ، وهو المقبول عند الله تعالى . وإنّما هم آخذون بتقاليد ظاهريّة ليس لها ذلك الأثر الصالح في أخلاقهم وأعمالهم . فهم يخادعون الله تعالى بالتلبّس ببعض صور العبادات والأقوال و " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " والكلام على هذا لا يزال في الصنف الرابع من أصناف البشر المخاطبين بالقرآن كما تقدّم ، فلا حاجة إلى بيان وجه الإتّصال بين الآيات . الوجه الثاني : وهو الراجح : إنّ الخطاب عامّ للناس كافّة ، ووجه الإتّصال بين الآيات على هذا ، أنّه لمّا بيّن تعالى في أصناف الناس هذا الصنف - الذي احتقر أفراده نعم الله تعالى عليهم ، واستعظموها وأكبروها على مَنْ قبلهم ، فحرموا أنفسهم من أجلّ المزايا الإنسانيّة ، وأجلّوا سلفهم حتّى رفعوهم إلى مرتبة الربوبيّة - خاطب الناس عامّةً بأن يعبدوه ملاحظين معنى الربوبيّة والخالقيّة التي تشملهم ومن قبلهم من السلف ، فتنظّمهم جميعاً في سلك العبوديّة للخالق تعالى شأنه ، ولا يكون كذلك الصنف الخاسر الكفور بنعم المشاعر والعقل وهداية الدين . إذ لم يستعملوا عقولهم في فهم ما أُنزل عليهم . بل اكتفوا بتقليد بعض رؤسائهم وعلمائهم ، زاعمين أنّه لا يقوى على فهم كتاب الله تعالى غيرهم ، كأنّ الله تعالى أنزل كتبه وخاطب بها نفراً معدودين في وقت محدود ، ولم يجعله هداية عامّة للأمّة ، وإنّما ألزم سائر الناس في سائر الأوقات الإكتفاء بإتّباع أولئك الرؤساء وإتّباعهم ، وإتّباع أتباعهم ، وهلمّ جرّا ، ثمّ تركوا أتباعهم اتّكالاً على شفاعتهم ، واكتفاءً بالإنتساب إليهم ، وزعماً : إنّ الله أعطاهم ما لا يعطي مثله لأحد سواهم ، وإن عملوا مثل عملهم . تعالى الله عن الظلم والمحاباة وهو ذو الرحمة التي لا تنتهي وذو الفضل العظيم . هذا النداء الإلهيّ المشعر بأنّ نسبة الناس الأوّلين إلى الله تعالى كنسبة الآخرين واحدة : هو الخالق وهم المخلوقون : وهو المستحقّ للعبادة وهم المأمورون بها أجمعون - حجّة علينا وعلى جميع مَنْ استنّ بسنّة ذلك الصنف من قبلنا . قال شيخنا : وأخصّ طلاّب علوم الدين بالذكر فينبغي للطالب أن يوجه نفسه إلى فهم القرآن ، ويحملها على الاهتداء به ، فإذا هو فعل ذلك تظهر عليه آداب الإسلام التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " أدّبني ربّي فأحسن تأديبي " وإنّما كان أدّبه القرآن . ومَنْ اشتغل بهذا حقّ الإشتغال وصل إلى معرفة أمراض المسلمين الحاضرة ، ومنابع البدع التي فشت فيهم ، ومثارات الفتن التي فرّقتهم ، ويعرف علاج ذلك . وأنّ مَنْ ذاق حلاوة القرآن لا ينظر في كتاب ولا يتلقّى علماً ، إلاّ ما يفتح له باب الفهم في القرآن ، أو ما يفتح له بابه القرآن فيجده مرآته ، وما عدا ذلك مبعد عنه ، والبعد عن القرآن هو عين البعد عن الله تعالى وذلك هو الضلال البعيد . كلّ ما أمرنا به القرآن وأرشدنا إلى النظر فيه فالإشتغال به اشتغال بالقرآن ، فإذا قال : { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } فذلك تنبيه وإرشاد إلى الإعتبار بما في خلقنا من الحكم والأسرار ؛ وينبغي لنا البحث عنها كما قال في آية أُخرى : { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 20 - 21 ] وإلى الاعتبار بتاريخ مَنْ قبلنا ، كما قال في آية أخرى : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ } [ الروم : 42 ] وأمثال ذلك كثير . لا يتّعظ الإنسان بالقرآن فتطمئنّ نفسه بوعده وتخشع لوعيده ، إلاّ إذا عرف معانيه ، وذاق حلاوة أساليبه ، ولا يأتي هذا إلاّ بمزاولة الكلام العربيّ البليغ مع النظر في بعض النحو ، كنحو ابن هشام وبعض فنون البلاغة ، كبلاغة عبد القاهر ، وبعد ذلك يكون له ذوق في فهم اللغة يؤهّله لفهم القرآن . قال الإمام أبو بكر الباقلانيّ : مَنْ زعم أنّه يمكنه أن يفهم شيئاً من بلاغة القرآن بدون أن يمارس البلاغة بنفسه فهو كاذب مبطل . فهل يصلح لمسلم بلغ ورشد وطلب العلم ، أن لا يجعل القرآن إمامه ويتّخذه نوراً يمشي به في الناس ، ويهتدي به في ظلمات البدع ؟ أمامنا عقبتان كؤدان لا نرتقي عمّا نحن فيه إلاّ باقتحامهما ، وهما : الكسل وتسجيل القصور على أنفسنا بجهل قيمة نعم الله تعالى علينا . وصاحب هاتين الخلّتين يمقت كلّ مَنْ يرشده إلى الخير ويهديه للحقّ ؛ لأنّه يكلّفه ضدّ طبعه ، فلا يرى مهرباً من الإعتراف بضلاله وغيّه ، إلاّ بالقدح بمرشده وناصحه . على كلٍّ منّا أن ينظر في نفسه ، وينظر في القرآن العظيم ويزن به ما هو عليه من العقائد والأخلاق والأعمال ، فإن رجح به ميزانه فهو مسلم حقيقيّ ، فليحمد الله تعالى . وإلاّ فليسْعَ فيما يكون به الرجحان . لا بدّ لنا من النظر الطويل والفكر القويم فيما نحن فيه ، فمَنْ لم يتفكّر لم يهتدِ إلى الحقّ ، ومَنْ لم يهتدِ إليه فهو ضالّ ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال . هذا ما تذكّرناه من التنبيه الذي قلنا : إنّ الأستاذ قفّى به على تفسير الآيات التي وردت في صنفي المنافقين ومرضى القلوب بإزاء القرآن ، ووصل به بينها وبين قوله تعالى : { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } الآيات . وهاك تفسيرها بالتفصيل . { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } أقول : إنّ الله تعالى قد افتتح هذه السورة بذكر كتابه القرآن ، وكونه حقّاً لا ريب فيه ، وذكر بعد ذلك أصناف البشر تجاهه من المهتدين به بالقوّة وبالفعل ، ومن الكافرين الذين فقدوا الإستعداد للهدى ، ومن المنافقين المذبذبين بين المؤمنين والكافرين . وفيه ما يفهم منه أنّ هؤلاء متفاوتون ، منهم المستعدّ للإخلاص في الإيمان ، ومن فقد الإستعداد له . وحكمه بيان حال الميؤوس من إيمانهم : إنّهم ليسوا حجّة على هداية القرآن ، بل هو حجّة عليهم . بعد هذا التمهيد جاءت هذه الآية ، والآيات الأربع بعدها مصرّحات بدعوة جميع الناس إلى دين الله تعالى الحقّ ، ببيان أُصوله وأُسسه وهي : 1 - توحيد الألوهيّة بعبادة الله تعالى وحده ، مع ملاحظة توحيد الربوبيّة . 2 - القرآن ، آيته الكبرى ودينه التفصيليّ . 3 - نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم المرسل بهذا القرآن . 4 - الجزاء في الآخرة على الكفر وأعماله بالنار ، وعلى الإيمان وأعماله بالجنّة . تقدّم تحقيق معنى العبادة ومعنى الربّ في تفسير سورة الفاتحة . وبدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده : هو سنّة جميع المرسلين قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] فكان كلّ رسول يبدأ دعوته بقوله : { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] وذلك أنّ جميع تلك الأمم كانت تؤمن بأنّ الله خالق الخلق هو ربّهم ومدبّر أمورهم ، وإنّما كان كفرهم الأعظم بعبادة غير الله تعالى بالدعاء الذي هو ركن العبادة الأعظم في وجدان جميع البشر ، وبغير الدعاء والإستغاثة من العبادات العرفيّة ، كالتقرّب إلى المعبود بالنذور وذبح القرابين أو الطواف والتمسّح به ، إن كان جسماً أو تمثالاً لملك أو بشر أو حيوان أو قبراً لإنسان ، ومنهم مَنْ كان ينكر البعث أيضاً ، ولمّا كان المخاطبون بالدعوة هنا أوّلاً وبالذات في ضمن الدعوة العامّة ، وهم اليهود والعرب في المدينة وما حولها يؤمنون بربّ العالمين ووحدانيّته ويعبدون غيره ، إمّا بدعائه مع الله أو من دون الله ، وإمّا بجعله شارعاً يتبعونه فيما يصدره من أحكام التعبّد أو الحرام والحلال . لمّا كانوا كذلك احتجّ على دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالتعبير بلفظ " ربّ " مضافاً إليهم فقال : { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } ووصفه بما يدلّ على انفراده بالربوبيّة من الصفات المسلّمة عندهم ، وهي : الخلق والتكوين والرزق فقال : { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } إلى آخر الآية التالية ، أي إذا كان ربّكم هو الذي خلقكم وخلق مَنْ قبلكم ، وهو الذي سخّر لكم السماء والأرض لرزقكم ومنافعكم ، فيجب أن تعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحداً من خلقه ، فتجعلونه مساوياً له وتفضّلونه على أنفسكم تفضيلاً من نوع تفضيل الخالق على المخلوق والربّ على المربوب . وهاك تفصيل ذلك بما كتبته من سياق درس شيخنا مفصّلاً له تفصيلاً . يقول تعالى : { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } الذين يدّعون الإيمان بالله قولا بأفواههم ولم يمسّ الإيمان الحقّ سواد قلوبهم ، ولا كان له سلطان على أرواحهم ، ويدّعون الإيمان باليوم الآخر ولم يستعدّوا له بتهذيب أنفسهم وإصلاح أعمالهم ، وإنّما يأتون ببعض صور العبادات بحكم العادات الموروثة ، وقلوبهم مشغولة عن الله الذي لا تفيد العبادة عنده إلاّ بالتوجّه إليه وابتغاء مرضاته ، والشعور بعظمته وجلاله : فهم يُخادعون الله بهذه الظواهر التي لا معنى لها ، والصور التي لا روح فيها ، وإنّما يخدعون في الحقيقة أنفسهم ؛ لأنّ أعمالهم هذه لا تفيدهم في الدنيا عزّة وسعادة ، ولا تنجيهم في الآخرة . ويا أيّها الناس الذين لم يُرزؤوا بهذا الخذلان ، ولم يبتلوا بهذا الإفتتان ، سواء كانوا من أهل الكفر ، أو من أهل الإيمان ، { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } جميعاً عبادة خشوع وإخلاص وأدب وحضور ، كأنّكم تنظرون إليه وترونه ، فإن لم تكونوا ترونه فإنّه يراكم ، وينظر دائماً إلى محلّ الإخلاص منكم وهو قلوبكم ، واستعينوا على إشعار نفوسكم هذا الخشوع والحضور والإخلاص في العبادة ، باستحضار معنى الربوبيّة ، فإنّه هو ربّكم الذي أنشأكم فيما لا تعلمون { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] وغذّاكم بنعمه ، ونمّاكم بكرمه ، كما فعل مثل ذلك بسلفكم الصالح فشكروه وعبدوه وحده مقرّين بهذه التربية ، ومعظّمين لهذه المنّة ، فليَدَعْ ذلك الصنف إحتقار النعم التي هو فيها ، والإقتصار على تعظيم نعمة الله على السلف فقط ؛ فإنّ هذا الربّ العظيم { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } وخلق { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } قد ربّاكم كما ربّى سلفكم ، ووهبكم من الهدايات مثلما وهبهم ، فمَنْ شكر منهم ومنكم زاده نعماً ، ومْنْ كفر بهذه النعم جعلها عليه نقماً . ليكون عبرةً ومثلاً للآخرين ، وذلك من رحمته بالعالمين . وقد أقسم تعالى على ذلك في كتابه المجيد ، فقال : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] وفي القصاص حياة لأولي الألباب ، وما يتذكّر إلاّ من أناب . هكذا أمر الله تعالى عباده أجمعين ، بأن يعبدوه وحده مخلصين له الدين . وأرشدهم بإعلامه إيّاهم أنّه ساوى بينهم وبين مَنْ قبلهم في المواهب الخلقيّة ، إلى الإستقلال بالعمل ، وقدّر نعمته عليهم قدرها ؛ ليعلموا أنّ كلّ النعم التي تكتسب بالشكر - وهي ما عدا النبوّة - مقدورة لهم ؛ كما كانت مقدورة لمن قبلهم ، وأنّهم إذا زادوا على سلفهم شكراً يزادون نعماً . وما الشكر إلاّ استعمال المواهب والنعم فيما وهبت لأجله ، فالذين يقولون : إنّنا لا نقدر على فهم الدين بأنفسنا من الكتاب والسنّة ؛ لأنّ عقولنا وأفهامنا ضعيفة ، وإنّما علينا أن نأخذ بقول مَنْ قبلنا من آبائنا ؛ لأنّ عقولهم كانت أقوى ، وكانوا على فهم الدين أقدر ، بل لا يمكن أن يفهمه غيرهم : أولئك كافرون بنعمة العقل ، وغير مهتدين بهذه الآية الناطقة بالمساواة في المواهب وسعة الرحمة والفضل . وكذلك الذين يتّخذون وسطاء بينهم وبين الله تعالى لأجل التقريب إليه زُلفى ، بغير ما شرّعه لهم من الدين وما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - وهم الوسائل في الهداية والإرشاد - أو لأجل الشفاعة لهم عنده لينالوا جزاء ما شرّعه من الدين ، من غير طريق العمل به واتّباع المرسلين : قد احتقروا نعم الله تعالى ولم يهتدوا بهذه الآية ؛ لأنّهم قد جعلوا لله أنداداً يبغون أن ينالوا بأشخاصهم ما حكم الله بأن يطلبه الناس بإيمانهم وأعمالهم ، فجعلوا هؤلاء الأنداد شركاء لله يغنونهم عن شريعته ، شعروا بذلك أم لم يشعروا . يقول تعالى لجميع عباده : أعبدوني ملاحظين معنى الربوبيّة والمساواة في المواهب الخلقيّة ، التي تؤهّلكم للسعادة الحقيقيّة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإنّ العبادة على هذا الوجه هي التي تعدّكم للتقوى ، ويرجى بها بلوغ غاية الكمال القصوى . قال الأستاذ : الشائع أنّ " لعلّ " للترجّي في ذاتها ، وإذا وقعت في كلام الله تعالى يكون معناها التحقيق ، وغرض القائلين بهذا : تنزيه الله سبحانه عن الترجّي بمعناه اللغوي الآتي . ولكنه رمي للكلام بدون بيان . وحقيقته أن " لعلّ " للترجي ولكنّها تستعمل للإعداد والتهيئة للشيء ، وفي هذا معنى الترجّي ، فحيث وقعت " لعلّ " في القرآن فالمراد بها هذا المعنى الأخير كما فسّرناها به آنفاً ، وهو يستلزم التحقيق [ لأنّ الإعداد بما تأتي " لعلّ " بعده أمر محقّق لا ريبة فيه ] فإنّ العبادة على الوجه الذي أرشدت إليه الآية من ملاحظة معنى الربوبيّة إلخ ما تقدّم شرحه ، تطبع في النفس ملكة خشية الله وتعظيمه ومراقبته ، وتُعلي همّة العابد وتقوّي عزيمته وإرادته ، فتزكوَ نفسه وتنفر من المعاصي والرذائل ، وتألف الطاعات والفضائل ، وهذه هي التقوى . وإذا قلنا : إنّ الرجاء متعلّق بالناس فالإعداد فيه ظاهر ومتحقّق ، إذ لو لم يخلقهم مستعدّين للتقوى لما اتّقاه منهم أحد . ومعنى الترجّي في أصل اللغة : توقّع حصول الشيء القريب ، بحصول سببه والإستعداد له . سواء كان الإستعداد كسبيّاً أو طبيعيّاً ، فاستعملنا " لعلّ " المعبّرة عن التوقّع في سببه ، وهو الإستعداد أو الإعداد الذي هو جعل المرء مستعدّاً والتعبير عن المسبب بلفظ السبب شائع في استعمال اللغة ، وقد عدّوا الترجّي والتمنّي من الأخبار ، وصيغهما صيغ إنشاء فقط . وأقول : إنّ ما ذكره من الإعداد صحيح ، ولكنّه غير مطّرد ، والتحقيق : إنّ الترجّي عبارة عن كون الشيء مأمولا بما يذكر من سببه ، غير مقطوع به لذاته ، بل يتبع قوّة أسبابه مع انتفاء الموانع ، ويتعلّق تارة بالمتكلّم ، وتارة بالمخاطب ، وتارة بالمتكلّم عنه ، وتارة بغيرهما ، فتأمّل قوله تعالى : { لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ الطلاق : 1 ] وقوله حكايةً عن قوم موسى : { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ } [ الشعراء : 40 ] وقوله : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ } [ غافر : 36 ] إلخ ، وقوله لموسى وهارون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] وقد علم أنّ هذا مقطوع بعدم وقوعه عند الله ، ولكنّ الرجاء فيه متعلّق بموسى وهارون ، أي { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] راجيين به أن يتذكّر أو يخشى ، لا قولاً غليظاً منفّراً ، وتأتي " لعلّ " للإشفاق وإفادة التحذير من أمر وقعت أسبابه فكان بها مظنّة الوقوع كقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [ الكهف : 6 ] الآية ، وقوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } [ هود : 12 ] الآية . لما ذكّر الله عباده بنعمة الإيجاد ، ونعمة المساواة في المواهب التي تقتضي التقوى وعدم إطراء السلف برفعهم إلى مقام الربوبيّة كما وقع من الذين { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] ذكّرهم ثانياً ببعض خصائص الربوبيّة التي تقتضي الإختصاص بالعبوديّة ؛ فقال : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً } بما مهدها وجعلها صالحة للإفتراش والإقامة عليها والإرتفاق بها ، أي فهو القادر على جلائل الفعال ، العظيم الذي يستحقّ العبادة والإجلال ، المنعم بجميع النعم ، الجدير بأعلى مراتب الشكر ، جعل الأرض بقدرته فراشاً لأجل منفعتكم { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } متماسكاً لكيلا تقع على الأرض فتسحقكم . السماء : مجموع ما فوقنا من العالم ، والبناء : وضع شيء على شيء بحيث يتكوّن من ذلك شيء بصورة مخصوصة . وقد كوّن الله السماء بنظام كنظام البناء ، وسوّى أجرامها على هذه الصفة المشاهدة ، وأمسكها بسنّة الجاذبيّة فلا تقع على الأرض ، ولا يصطدم بعضها ببعض ، إلاّ إذا جاء يوم الوعيد وبطل نظام هذا العالم ليعود في خلق جديد ، والواجب ملاحظته في هذا المقام ، هو تصوّر قدرة الله تعالى وعظمته ، وسعة فضله ورحمته . ثمّ بعد أن امتنّ بنعمة الإيجاد ، ونعمة الفراش والمهاد ، ونعمة السماء ، التي هي كالبناء ، ذكر نعمة الإمداد ، الذي تحفظ به هذه الأجساد ، وهي مادّة الغذاء ، التي بها النمو والبقاء ، فقال : { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ } الثمرات : ما يحصل من النبات نجماً كان أو شجراً . يُصلح الزارع والغارس الأرض ، ويبذر البذر ، ويغرس الفسيل ، ويتعاهد ذلك بالسقي والعذق ، فيكون له كسب في رزقه ، ولكنّه ليس له كسب في إنزال المطر الذي يسقى به ، ولا في تغذية النبات بماء المطر أو النهر المجتمع من المطر ، وبأجزاء الأرض وعناصرها الأخر ، ولا في تولّد خلاياه التي بها نموّه ، ولا في إثماره إذا أثمر ، وإنّما كلّ ذلك بيد الله القدير - فعلينا أن نتفكّر في ذلك لنزداد تعظيماً له وإجلالاً فلا نعبد معه أحداً . وبعد أن عرّفنا الله تعالى بأنفسنا ، وبنعمته علينا وعلى سلفنا ، وبعد أن عرّفنا ذاته الكريمة ، بآثار رحمته ومننه العظيمة ، وصرنا جديرين بأن نعرف أنّ العبد عبد فلا يُعبد ، وأنّ الربّ ربّ فلا يُشرك به ولا يُجحد . قال تفريعاً وترتيباً على ما سبق { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } من سلفكم المخلوقين مثلكم ، تطلبون منهم ما لا يطلب إلاّ منه - وهو كلّ ما تعجزون عنه ، ولا يصل كسبكم إليه - لا تفعلوا ذلك ، فإنّهم في الخلق والعبوديّة مثلكم . الأنداد : جمع نِدّ بكسر النون ، وفُسّر بالشريك ، وهو في اللغة المضارع والكفء . يقال فلان ندّ فلان ، ومن أنداد فلان : أي يضارعه ويماثله ولو في بعض الشؤون . والأنداد الذين اتِّخذوا في جانب الله هم الذين خضع الناس لهم وصمدوا إليهم في بعض الحاجات ، لمعنىً يعتقده فيهم الخاضعون المخاطبون بترك الأنداد أوّلاً وبالذات ، وهم مشركو العرب وأهل الكتاب . فالعرب كانت تسمّي ذلك الخضوع والصمود عبادة ، إذْ لم يكن عندهم وحيٌ ينهاهم عن عبادة غير الله فيتحاموا هذا اللفظ " العبادة " ، ويستبدلوا به لفظ التعظيم أو التوسّل مثلاً ، تأويلا لظاهر نصّ التنزيل . وأمّا أهل الكتاب الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أنداداً ، وأرباباً ، فكانوا يؤوّلون فلا يسمّون هذا الإتخاذ عبادة ، ولا أولئك المعظِّمين آلهةً أو أنداداً أو أرباباً . وفرّق بين الإتّخاذ بالفعل والتسمية بالقول ، والجميع متّفقون على أنّه لا خالق إلاّ الله ولا رازق إلاّ الله ، وإنّما كانوا يُسمّون دعاءهم غير الله والتقرّب إليه : توسّلا واستشفاعاً ، ويسمّون تشريعهم لهم العبادات وتحليلهم لهم المنكرات وتحريمهم عليهم بعض الطيّبات : فقهاً وإستنباطاً من التوراة . إلاّ أنّ من النصارى مَنْ لا يتحامون التصريح بعبادة السيّدة مريم وبعض القدّيسين استعمالاً للّفظ في مدلوله اللغويّ . وصور العبادة تختلف عند الأمم اختلافاً عظيماً ، وأعلاها عند المسلمين : الأركان الخمسة والدعاء . وقالوا : كلّ عمل غير محظور تحسن فيه النيّة لله تعالى فهو عبادة ، كأنّ المعنى الذي يجعل جميع الأعمال عبادة : هو التوجّه إلى الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته . ولها عند أهل الكتاب صور أخرى ، والمؤوّلون يخصّون هذه الصور بالله تعالى ، وإذا ابتدعوا صورة فيها معنى العبادة يسمّونها باسم آخر يستحلّونها ، بل يستحبّونها به ، ولكنّهم لا يخرجون بالتسمية أو التأويل عن حيّز مَنْ يتخذ من دون الله أنداداً ، كما ذكر الله عنهم في قوله : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] ولم يكن منهم سوى التوسّل بهم ، والأخذ في الدين بقولهم تقليداً لهم بدون فهم لما جاء على لسان الوحي ، كما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقدماء الفرس جعلوا لله ندّاً في الخلق والإيجاد ، فقالوا : إنّ للخير إلهاً هو الإله الأوّل . وإنّ للشرّ إلهاً يضادّه . وليس النهي في الآية عن هذا الندّ الشريك ؛ لأنّ المخاطبين لا يدينون به كما قلنا وتدلّ عليه الآيات الكثيرة . لذلك وصل النهي بقوله عزّ وجلّ : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي والحال أنّكم تعلمون أنّه لا ندّ له لأنّكم إذا سُئلتم : مَنْ خلقكم وخلق من قبلكم ؟ تقولون : الله . وإذا سُئلتم : مَنْ يرزقكم من السماوات والأرض ومَنْ يدبّر الأمر ؟ تقولون : الله . فلماذا تستغيثون إذن بغير الله وتدعون غير الله ؟ ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضرّ ولا تنفع ، وادّعيتم أنّهم شفعاؤكم عند الله ؟ ومن أين جاءكم أنّ التقرّب والتوسّل إلى الله يكون بغير ما شرّعه من الدين حتى قلتم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ } [ الزمر : 3 ] . يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم . وخلق وسائطكم وشفعاءكم . وأعدّكم جميعاً للتقوى التي تقرّبكم إليه زُلفى ، وساوى بينكم في أنواع المواهب ، إلاّ أنّه خصّ الأنبياء عليهم السلام بالوحي ليُعلّموكم ما أخطأ نظركم ورأيكم فيه ، فعليكم أن تهتدوا بما جاؤوا به ، فإنّ صد المرؤسين عن ترك تقاليدهم واتّباع الوحي من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ، خوفهم الرؤساء . فقد آثروا رؤساءهم على الله وجعلوهم له أنداداً ، وإنّ صدّ الرؤساء عن هذا الاتّباع توقّع زوال المنفعة والجاه لدى المرؤسين ، فقد اتّخذوهم أنداداً ، فالندّ هو المكافئ والمثل ، وأنتم بترككم الحق لخوفهم ورجائهم تُفضِّلونهم على الله تعالى وتجعلونه أقلّ الأنداد تعظيماً ، ففرّوا - رحمكم الله - إلى الله ، ولا تخافوا غيره ولا ترجوا سواه ، فعار على مَنْ يعرف الله أن يؤثر رضاء أحد على رضاه ، لا فرق بين رئيس ومرؤوس ، وتابع ومتبوع ، بل هذا لا يقع من مؤمن حقيقيّ ؛ لأنّ الله تعالى يقول : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] .