Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 200-203)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } كان للعرب في الجاهلية مجامع في الموسم يفاخرون فيها بآبائهم ويذكرون أنسابهم وفعالهم ، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم يقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديّات ، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم ، فأنزل الله هذه الآية . ولابن جرير عن مجاهد : كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة وذكروا آباءهم إلخ وروي أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتعاكظون ويتناشدون ، فأمرهم الله تعالى بأن يذكروا الله تعالى بعد قضاء المناسك - وهي أعمال الحجّ - كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية ، أو أشدّ من ذكرهم إيّاهم . وقد كان في حجّة الوداع أن خطب النبي في اليوم الثاني من أيّام التشريق فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات . روى أحمد من حديث أبي نضرة قال : حدّثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيّام التشريق فقال : " يا أيها الناس إنّ ربّكم واحد ، وإنّ أبّاكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى . أبلّغت ؟ " قالوا : بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } معناه ظاهر ، وهو بل اذكروه أشدّ من ذكركم آباءكم ، وفيه من الإيجاز ما ترى حسنه . قال الأستاذ الإمام : وقد تعسّف في إعرابه الذين حكّموا النحو الذي وضعوه في القرآن ، ويعجبني قول بعض الأئمّة ، وأظنّ إنّه أبو بكر بن العربي : من العجيب إنّ النحويين إذا ظفر أحدهم ببيت شعر لأحد أجلاف الأعراب يطير فرحاً به ويجعله قاعدة ، ثمّ يشكل عليه إعراب آية من القرآن فلا يتّخذها قاعدة ، بل يتكلّف في إرجاعها إلى كلام أولئك الأجلاف وتصحيحها به ، كأنّ كلامهم هو الأصل الثابت ، ويعجبني أيضاً ما قاله أبو البقاء ، وهو إنّ للقرآن إيجازاً وإختصاراً في بعض المواضع المفهومة من المقام ، وهو إنّ المعنى هنا أو كونوا أشدّ ذكراً ، ومثل هذا شائع في اللغة ، وقال الأستاذ هنا كلمته التي يكرّرها في مثل هذا المقام وهي : إنّه كان يجب أن يكون القرآن مبدأ إصلاح في اللغة العربية ، وقد ذكرناها من قبل . ثمّ بيّن تعالى إنّ الذين يذكرونه فيدعونه على قسمين : { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } الخلاق : النصيب والحظّ . ذكر تعالى إنّ هذا الفريق يطلب حظّ الدنيا مطلقاً ، ولم يقل إنّه يطلب حسنة فيها ؛ لأنّ من كانت الدنيا كلّ همّه لا يبالي أكانت شهواته وحظوظه حسنة أم سيّئة ، فهو يطلب الدنيا من كلّ باب ، ويسلك إليها كلّ طريق ، لا يميّز بين نافع لغيره ولا ضارّ ، فباستيلاء حبّ الدنيا عليه ، لم يكن للآخرة وما أعدّه الله فيها للمتّقين من الرضوان موضع من نفسه يرجوه ويدعو الله فيه ، كما إنّه لا يخاف ما توعّد الله به المجرمين فيها ، فيلجأ إليه تعالى بأن يقيه شرّه ، فحرمان هذا الفريق من خلاق الآخرة هو أثر كسبه وسوء إختياره وتفضيله حظوظ الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الباقية ؛ لأنّه يعمل للأولى كلّ ما يستطيع من أسباب الحلال والحرام ، حتى إنّه لا يسأل ربّه إلاّ المزيد من حظوظها وشهواتها ، وقد ينالها كثير من الناس بدون همّ كبير في العمل لها ، ولا يعمل للآخرة ، وقد اشترط لسعادتها خير العمل ، فقال تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 18 - 19 ] الآيات . ويالله ما أبلغ حذف مفعول " آتنا " في هذا المقام فهو من دقائق الإيجاز التي تحار فيها الأفهام ، وتعجز عنها قرائح الأنام ، فإنّه بدلالته على العموم يشمل كلّ ما يعنى به أفراد هؤلاء الناس المتفاوتي الهمم المختلفي الأهواء ، من الحظوظ والشهوات ، حسنها وقبيحها ، خيرها وشرّها ، كبيرها وخسيسها ، وما لا يليق ذكره منها . وقد اختلف المفسّرون في تعيين هذا الفريق ، فقيل هم الكفّار الذين لا يؤمنون بالآخرة ، واستدلّوا بما روي عن ابن عبّاس وأنس من دعاء المشركين في ذلك المقام بحظوظ الدنيا ، وقيل هم المسلمون الذين لم تمسّ أسرار الدين وحكمه قلوبهم ، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم ، بل إكتفوا بالتقليد في رسومه الظاهرة ، فكان همّهم في الدنيا دون الآخرة ، وذكروا هنا ما روي في المرفوع من إنّ الله تعالى يؤيّد هذا الدين بمن لا خلاق لهم . واستدلّوا على صحّة رأيهم بالسياق ، ولا شكّ أنّ هذا القسم موجود في المسلمين كما وجد في كل أمّة ، ومن بلا الناس وفلاّهم عرف ذلك . { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } أي ومنهم من يطلب خير الدنيا والآخرة جميعاً ، لا حظوظ الدنيا وحدها كيفما كانت كالفريق الأوّل ، وقد اختلف المفسّرون في تعيين الحسنة هل هي العافية أو الكفاف أو المرأة الصالحة أو الأولاد الأبرار أو المال الصالح أو العلم والمعرفة ، أو العبادة والطاعة ، وروي بعض هذه الأقوال عن بعض السلف ، ولعلّ كلّ ذي قول يطلقها على المهمّ عنده ، والظاهر إنّ ( حسنة ) وصف لمحذوف أي حياة حسنة ، وانظر بم تكون حياة المرء حسنة فيكون سعيداً في الدنيا ، فمن دعا الله تعالى دعاءً إجمالياً فليدعه بسعادة الدنيا والآخرة والحياة الطيّبة فيهما يكن مهتدياً بالآية ، ومن كانت له حاجة خاصّة فدعاه لها من حيث هي حسنة فهو مهتد بها ، على أنّهم اختلفوا في حسنة الآخرة - أيضاً - فقيل الجنّة ، وقيل : الرؤية ، واختلفوا في عذاب النار ورووا عن علي كرّم الله وجهه إنّه المرأة السوء . وقد علم ممّا تقدّم في تفسير { أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] أن الطلب من الله تعالى إنّما يكون باتّباع سننه في الأسباب والمسبّبات ، والتوجّه إليه تعالى واستمداد المعونة والتوفيق منه ، للهداية إلى ما يعجز العبد عنه ، وعلى هذا يتخرّج تفسير الحسن لقوله تعالى : { وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } بقوله أي احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدّية إليها ، فطلب الحياة الحسنة في الدنيا ، يكون بالأخذ بأسبابها المجرّبة في الكسب والنظام في المعيشة ، وحسن معاشرة الناس بآداب الشريعة والعرف ، وقصد الخير في الأعمال كلّها ، وتوقّي الشرّور كلها ، وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص ومكارم الأخلاق ، والعمل الصالح بقدر الإستطاعة ، وطلب الوقاية من النار ، يكون بترك المعاصي وإجتناب الرذائل والشهوات المحرّمة ، مع القيام بالفرائض المحتّمة . هذا هو الطلب بلسان القلب والعمل ، وأمّا الطلب بلسان المقال ، فهو يصدق بما يذكر القلب بأنّ هذه الأسباب من الله ، فالسعي لها مع الإيمان هو عين الطلب من فيضه وإحسانه ، مضت سنّته بأن يعطي بها فضلا منه ورحمة ، لا بخوارق العادات التي لا يعلم محلّها وحكمتها غيره ، وأنّه لا يرجع إلى سواه في الهداية إلى ما خفي ، والمعونة على ما عسر . ولم يذكر في التقسيم ، من لا يطلب إلاّ حسنة الآخرة ، لأنّ التقسيم لبيان ما عليه الناس في الواقع ونفس الأمر بحسب داعي الجبلّة وتأثير التربية وهدي الدين ، ولا يكاد يوجد في البشر من لا تتوجّه نفسه إلى حسن الحال في الدنيا مهما يكن غالباً في العمل للآخرة ؛ لأنّ الإحساس بالجوع والبرد والتعب يحمله كرهاً على التماس تخفيف ألم ذلك الإحساس ، والشرع يكلّفه ذلك بما يقدر عليه من أسبابه ، وقد جعل عليه حقوقاً لبدنه ولأهله وولده ولرحمه ولزائريه وأخوانه وأمّته ، لا تصحّ عبوديته إلاّ بدعاء الله تعالى فيها . وفي الآية إشعار بأنّ هذا الغلو مذموم ، خارج من سنن الفطرة وصراط الدين معاً ، وما نهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين وذمّهم على التشدّد فيه إلاّ عبرة لنا ، وقد نهانا عنه نبيّنا صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث أنس عند البخاري ومسلم : " إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له : " هل كنت تدعو الله بشيء ؟ " قال : نعم كنت أقول : اللهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله إذاً لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلاّ قلت : ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " ودعا له فشفاه الله تعالى " . وأبعد من هذا في الغلو إنّ بعض الصوفية سمع قارئاً يتلو قوله تعالى : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] فصاح أواه فأين من يريد الله ؟ وهو قول حسن الظاهر قبيح الباطن ، فالآية خطاب لخيار الصحابة وهو وشيخه من الصوفية لم يبلغوا مدّ أحدهم ولا تصيّفه ، فإرادة الدنيا والآخرة بالحقّ إرادة لمرضاة الله وعمل بسنّته وشرعه ، والمراد بالدنيا فيها الغنيمة في الحرب ، وبالآخرة الشهادة في سبيل الله ، فهل يظنّ بجهله أنّ من شهد الله تعالى لهم بأنّهم بذلوا أنفسهم في سبيله ونصر رسوله ، وآثروا الشهادة في القتال على الغنيمة ، أنّهم لا يريدون الله ؟ وقد ورد في الصحيح إنّ الآية كانت أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهل يدّعي ذلك الصوفي وأمثاله من الغلاة أنّهم أشدّ حبّاً منه لله وطلباً له عزّ وجلّ ؟ أقول : كلاّ إنّما هي فلسفة خيالية من خيالات وحدة الوجود البرهمية الهندية ، قد شغل بها أفراد عن فطرة الله وشرعه معاً فجعلوها أعلى مراتب العبودية ، وتأوّلوا لها بعض آيات الكتاب العزيز كقوله تعالى : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] وما إرادة وجهه تعالى إلاّ الإخلاص له في كلّ عمل مشروع من مصالح الدين والدنيا ، وتحرّي هداية دينه فيه ، لا ما تخيّلوه من أنّ إرادة وجهه تعالى هو الوصول إلى ذاته بعد التجرّد من كلّ نعمة في الدنيا والأخرة جميعاً ، فإنّ الإتّصال بتلك الذات العليّة القدسية التي لا تدركها العقول ولا تدنو من كنهها الأفكار ولا الأوهام ، ممّا لم يتعلّق به تكليف ، ولم يرد به شرع ، بل إدراك كنه الذوات المخلوقة له تعالى فوق إستطاعة خلقه . وإنّما أعلى مراتب معرفة الله تعالى في الدنيا هي معرفة كلّ شيء به ومعرفته في كلّ شيء وبكلّ شيء ، ودعاؤه بكلّ اسم من أسمائه بما يناسب تعلّقه بشؤون عباده ، وبهذا فضّل جمهور أهل السنّة خيار البشر على الملائكة الذين يعبد كلّ منهم ربّه عبادة خاصّة ، والمؤمن الكامل من يعرف حقّ ربّه على عباده وما شرّعه من حقوق بعضهم على بعض ، والقيام في كلّ ذلك بذكره وشكره وحبّه والتوكّل عليه والإخلاص له ، وأعلى مراتب معرفته في الآخرة هو مقام الرؤية بتجلّيه الأعلى في جنّات عدن ، والاشتغال بذكر الجزاء عن العمل الموصل إليه ، جهل لا علم ولا معرفة . ثمّ قال تعالى بياناً لمن يسأل عن حظّ هؤلاء : { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } الإشارة بأولئك إلى الذين يطلبون سعادة الدارين ، والحسنة في المنزلتين ؛ لأنّ حكم الفريق الذي يطلب الدنيا وحدها قد علم من قوله تعالى : { وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فإنّ العطف يشعر بمحذوف كأنّه قال : هذا الفريق له حظّه من الدنيا وما له في الآخرة من حظّ سواه ، ومجموع الكلام في الفريقين بمعنى قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] وقد بيّنت الآية صريحاً أنّهم يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم ، وهذا نصّ فيما تقدّم من معنى الدعاء وأنّه لا بدّ أن يكون طلب اللسان مطابقاً لما في النفس من الشعور بالحاجة إلى الله تعالى ، بعد الأخذ بالأسباب والسعي في الطرق التي مضت سنّة الله تعالى ، ولهذا قال : [ ممّا كسبوا ] ولم يقل لهم ما طلبوا . والمعنى : أنّهم لمّا كانوا يطلبون الدنيا بأسبابها ويسعون للآخرة سعيها ، كان لهم حظّ من كسبهم هذا في الدارين على قدره . { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } يوفّي كلّ كاسب أجره عقب عمله بحسبه ؛ لأنّ سنّته مضت بأن تكون الرغائب آثار الأعمال ، فهو يوفّي كلّ عامل عمله بلا إبطاء ، وكما يكون الجزاء سريعاً في الدنيا كذلك يكون في الآخرة ، فإنّ أثر الأعمال الصالحة يظهر للمرء عقب الموت وهو أوّل قدم يضعها في باب عالم الآخرة . وهذا أحسن بيان لما قالوه في تفسير { سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } من أنّه إجابة الدعاء . والأكثرون على أنّ المراد حساب الآخرة ، واختلفوا في كيفية ذلك على أقوال أقربها إلى التصوّر أنّ سرعة الحساب عبارة عن إطّلاع كلّ عامل على عمله أو إعلامه بما له ممّا كسب ، وما عليه ممّا اكتسب وذلك يتمّ في لحظة ، وقد ورد إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار نصف يوم من أيّام الدنيا ، وورد في قدر فواق الناقة ، وورد بمقدار لمحة البصر . أقول : هذا ما كنت كتبته في تفسير الآية بالمعنى الذي قرّره شيخنا رحمه الله من كون النصيب فيها شاملا لجزاء هذا الفريق في الدنيا والآخرة معاً ، وطبع في حياته ، ثمّ فكّرت في التعبير عنه بمن التبعيضية { مِّمَّا كَسَبُواْ } والحال أنّ جزاء الآخرة يضاعف ، وأنّ الدنيا هي التي لا ينال الناس فيها كلّ ما يطلبون بكسبهم ولادّعائهم وفاقاً لإستشهادي عليه آنفاً بآيات سورة الإسراء { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } [ الإسراء : 18 ] فرجّح عندي أنّ المراد هنا بالنصيب من الكسب ما يكون في الدنيا ، وأشار إلى جزاء الآخرة بسرعة الحساب الذي يكون الجزاء في أثره ، وهو ما حكيته عن الجمهور . ثمّ قال تعالى بعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك ، وبذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيّام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم : { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } حكى القرطبي عن الحافظ ابن عبد البرّ وغيره : الإجماع على إنّ الأيّام المعدودات هي أيّام منى ، وهي أيّام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجّة إلى ثالث عشرة ، ويؤيّده حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم ، قال : إنّ ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة ، فسألوه فأمر منادياً ينادي : " الحجّ عرفة من جاء ليلة جمع - أي مزدلفة - قبل طلوع الفجر فقد أدرك ، أيّام منى ثلاثة أيّام فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه " وأردف رجلا ينادي بهنّ ، أي أركب رجلا وراءه ينادي بهذه الكلمات ليعرف الناس الحكم ، وهو إنّ من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر بها الحاجّ إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجّة ، فقد أدرك الحجّ ، وإنّ أيّام منى ثلاثة وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم ، فمن فعل ذلك في اليومين الأوّلين منها جاز له ، ومن تأخّر إلى الثالث جاز له ، بل هو الأفضل ؛ لأنّه الأصل ، وفيه زيادة في العبادة . فالحديث مفسّر للأيّام المعدودات وعليه العمل عند أهل العلم كما قال الترمذي في جامعه . وإنّما أمر سبحانه بالذكر في هذه الأيّام ولم يأمر برمي الجمار لأنّه من الأعمال التي كانوا يعرفونها ويعملون بها ، وقد أقرّهم عليها ، وذكر المهم الذي هو روح الدين ، وهو ذكر الله تعالى عند كلّ عمل من تلك الأعمال ، وتلك سنّة القرآن يذكر إقامة الصلاة والخشوع فيها ، وذكر الله تعالى ودعاءه وتأثير ذلك في إصلاح النفوس ، ولا يذكر صفة القيام والركوع والسجود ، وكون الركوع يفعل مرّة في كلّ ركعة ، والسجود يفعل مرّتين ، وإنّما يترك ذلك لبيان النبي صلى الله عليه وسلم له بالعمل . وبيّنت السنّة أيضاً أنّ ذكر الله تعالى في هذه الأيّام هو التكبير أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين وعند رمي الجمار وغير ذلك من الأعمال ، فقد روى الجماعة عن الفضل بن العبّاس قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع ( مزدلفة ) إلى منى فلم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة العقبة ، وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر إنّه صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمرة يكبّر مع كلّ حصاة . وورد في التكبير في أيّام التشريق أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر في الصحيح إنّه صلى الله عليه وسلم كان يكبّر بمنى تلك الأيّام وعلى فراشه ، وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيّام جميعاً . وأمّا الذكر في يوم عرفة ويوم النحر ، فهو التكبير لغير الحاجّ وهو أعمّ ، ففي حديث أحمد والشيخين إنّ محمّد بن أبي بكر بن عوف قال : سألت أنساً ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال كان يلبّي الملبّي فلا ينكر عليه ، ويكبّر المكبّر فلا ينكر عليه . وفي حديث أسامة عند النسائي : إنّه صلى الله عليه وسلم رفع يديه يوم عرفة يدعو . وفي روايات ضعيفة السند : إنّ أكثر دعائه يوم عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير . وقد ذكرنا ذكره صلى الله عليه وسلم عند المشعر الحرام ، وقد قالوا : إنّ التلبية أفضل الذكر للحاجّ ، ويليها التكبير في يوم عرفة والأضحى وأيّام التشريق ، ولفظ التلبية المأثور : لبّيك اللهمّ لبّيك ، لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لك ، لا شريك لك . هذا هو المرفوع وله أن يزيد من الذكر والثناء والدعاء ما شاء ، والتكبير المرفوع صحيحاً : الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً ، ويزيدون . وقد جعل الله تعالى التخيير في التعجيل والتأخير مشروطاً بالتقوى فقال : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } أي من إستعجل في تأدية الذكر عند هذه الأعمال التعبّدية المعلومة وهي رمي الجمرات في يومين من تلك الأيّام المعدودات فلا حرج عليه ، ومن أتمّها كذلك إذا اتّقى كلّ منهما الله تعالى ووقف عند حدوده ، فإنّ تحصيل ملكة التقوى هي الغرض من الحجّ ومن كلّ عبادة ، والوسيلة الكبرى إليها كثرة ذكر الله تعالى بالقلب مع اللسان ، حتّى يغلب على مراقبته في جميع الأحوال ، فيكون عبداً له لا للأهواء والشهوات ، وإنّما تلك الأعمال مذكّرات للناسي . والجمار ثلاث ، وهي كالجمرات جمع جمرة ، ومعناها هنا مجتمع الحصى من جمره بمعنى جمعه ، ورميها من ذكريات النسك المأثورة عن سيّدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم كذبح القرابين هنالك ، وعامّة أعمال الحجّ ذكريات لنشأة الإسلام الأولى في عهد الخليل صلى الله عليه وسلم وكلّ جمرة ترمى بسبع حصيّات صغيرة كلّ يوم من الأيّام الثلاثة أو الإثنين ، وتمتاز جمرة العقبة منها بأنّها ترمى قبل ذلك يوم النحر أيضاً . ثمّ أمر بالتقوى بعد الإعلام بمكانتها فقال : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي اتّقوه في حال أداء المناسك وفي جميع أحوالكم ، وكونوا على علم يقين بأنّكم تجمعون وتساقون إليه في يوم القيامة فيريكم جزاء أعمالكم والعاقبة للمتقين { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] فإنّ العلم بذلك هو الذي يؤثّر في النفس فيبعثها على العمل ، وأمّا من كان على ظنّ أو شكّ فإنّه يعمل تارةً ويترك أخرى لتنازع الشكوك قلبه . ومن فوائد هذا الأسلوب أنّ تكرار الأمر بالذكر وبيان مكانة التقوى ، ثمّ الأمر بها تصريحاً في هذه الآيات التي فيها من الإيجاز ، ما هو في أعلى درجات الإعجاز ، حتّى سكت عن بعض المناسك الواجبة للعلم بها . كلّ ذلك يدلّنا على أنّ المهمّ في العبادة ذكر الله تعالى الذي يصلح النفوس وينير الأرواح ، حتّى تتوجّه إلى الخير وتتّقي الشرور والمعاصي ، فيكون صاحبها من المتّقين ، ثمّ يرتقي في فوائد الذكر وثمراته فيكون من الربّانيين .