Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 204-207)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أنّ المراد منها ومن كلّ العبادات هو تقوى الله تعالى بإصلاح القلوب ، وإنارة الأرواح بنور ذكر الله تعالى وإستشعار عظمته وفضله ، وإلى إنّ طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها ، بل هو ممّا يهدي إليه الدين ، خلافاً لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أنّ تعذيب الأجساد وحرمانها من طيّبات الدنيا هو أصل الدين وأساسه ، وإلى أنّ من يطلب الدنيا من كلّ وجه ويجعل لذّاتها أكبر همّه ليس له في الآخرة من خلاق ؛ لأنّه مخلّد إلى حضيض البهيمية ، لم تستنر روحه بنور الإيمان ، ولم يرتق عقله في معارج العرفان . ولمّا كان محلّ التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة ، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب ، الأعمال ، دون مجرّد الأقوال ؛ ذكر في هذه الآيات إنّ الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان ، فكانت هذه متّصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز ، وهو إصلاح القلوب ، واختلاف أحوال الناس فيها ، وما ينبغي أن يعلموه منها ، ولذلك عطفها عليها فقال : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } يقال أعجبه الشيء إذا راقه واستحسنه ورآه عجباً أي طريفاً غير مبتذل ، والخطاب عامّ ، وفي قوله : { فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } وجهان : أحدهما : أنّ من الناس فريقاً يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة ؛ لأنّك تأخذ بالظواهر ، وهو منافق اللسان يظهر خلاف ما يضمر ، ويقول ما لا يفعل ، فهو يعتمد على خلابة لسانه ، في غشّ معاشريه وأقرانه ، يوهمهم إنّه مؤمن صادق ، نصير للحقّ والفضيلة ، خاذل للباطل والرذيلة ، متّق لله في السرّ والعلن ، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن ، لا يريد للناس إلاّ الخير ، ولا يسعى إلاّ في سبيل النفع { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ } أي يحلف بالله أنّ ما في قلبه موافق لما يقول ويدّعي . وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان : الله يعلم أو يشهد بأنّي أحبّ كذا وأُريد كذا . قال تعالى : { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [ يس : 16 ] وهو تأكيد معروف في كلام العرب : @ أليس الله يعلم أنّ قلبي يحبّك أيّها البرق اليماني @@ وقال العلماء إنّ هذا آكد من اليمين ، وعن بعض الفقهاء أنّ من قاله كاذباً يكون مرتدّاً ؛ لأنّه نسب الجهل إلى الله تعالى . وأقول إنّ أقلّ ما يدلّ عليه عدم المبالاة بالدين ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عزّ وجلّ فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } [ البقرة : 9 ] فإنّ أحدهم ليبالغ في الخلابة والتودّد إلى الناس بالقول { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } أي وهو في نفسه أشدّ الناس مخاصمة وعداوة لمن يتودّد إليهم ، أو هو أشدّ خصمائهم ، على إنّ الخصام جمع خصم ككعاب جمع كعب وهو المختار ، واللدد : شدّة الخصومة ، ولد ( كتعب ) الرجل لازم ولد خصمه ( كنصر ) شدّد خصومته ولادّه للمشاركة . وفيه وجه آخر : قاله بعضهم : وهو أنّ الخصام بمعنى الجدال ، أي وهو قوي العارضة في الجدل لا يعجزه أن يختلب الناس ويغشّهم بما يظهر من الميل إليهم وإسعادهم في شئونهم ومصالحهم . قال صاحب هذا القول : فالأوصاف المحمودة التي يعتمد عليها ثلاثة : حسن القول بحيث يعجب السامع ، وإشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده ، وفي معناه ما هو دونه من ضروب التأكيد الذي يقبله خالي الذهن ، وقوّة العارضة في الجدل التي يحاجّ بها المنكر أو المعارض ، وأمّا بيان سوء حاله ، وفساد أعماله ، فهو في الآيتين التاليتين وقد مهّد لهما بقوله تعالى : { فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } والتمهيد في بداية الكلام للمراد منه في غايته من ضروب البلاغة وأفنانها . هذا الفريق من الناس يوجد في كلّ أمة ، وتختلف الخلابة اللسانية في الأمم باختلاف الأعصار ، ففي بعض الأزمنة لا يتيسّر للواحد أن يغشّ بزخرف القول إلاّ الفرد أو الأفراد المعدودين ، وفي بعضها يتيسّر له أن يغشّ الأمّة في مجموعها حتّى ينكل بها تنكيلاً وإنّ الجرائد في عصرنا هذا قد تكون طريقاً للغشّ العام ، كما تكون طريقاً للنصح العامّ ، وإنّما يكون تلبيسها سهلا على من يعجب العامّة قولهم في الأمم التي يغلب فيها الجهل لا سيّما في طور الإنتقال من حال إلى حال ، إذ تختلف ضروب الدعوة وطرق الإرشاد . وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعض المفسّرين ، وهو أنّ الظرف [ في الحياة الدنيا ] متعلّق بالقول قبله ، أي يعجبك قوله إذا تكلّم في شؤون الحياة الدنيا وأحوالها ، وطرق جمع المال وإحراز الجاه فيها ؛ لأنّ حبّها قد ملك عليه أمره ، والميل إلى لذّاتها وشهواتها قد استحوذ على قلبه ، وصار هو المصرّف لشعوره ولبّه ، فينطلق لسانه - ومثله قلمه - في كلّ ما يستهوي أصحاب الجاه والمال ، ويستميل أهل السيادة والسلطان ، ولكنّه إذا تكلّم في أمر الدين جاء بالخطل والحشو ، ووقع في العسلطة واللغو ، فلا يحسن وقع قوله في السمع ، ولا يكون له تأثير في النفس ، وذلك إنّ روح المتكلّم تتجلّى في قوله ، وضميره المكنون يظهر في لحنه { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 30 ] وفي الحكم : كلّ كلام يبرز عليه كسوة من القلب الذي عنه صدر ، ولهذا كان إرشاد المخلصين نافعاً ، وخداع المنافقين صادعاً . وعلى هذا الوجه في التفسير تكون جملة { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ } وصفاً مستقلاً غير حال ممّا قبله ، أي إنّه لا يحسن إلاّ الكلام في الدنيا ليعجب السامع ويخدعه ، ولكنّه يزعم إنّ قلبه مع الله ، وأنّه حسن السريرة ، وإنّك لترى هذا في سيرة المجرمين ظاهراً جليّاً كما وصف الله تعالى : يتركون الصلاة ، ويمنعون الزكاة ، ويشربون الخمور ، ويتسابقون إلى الفجور ، ويأكلون أموال الناس بالباطل ، ثمّ يفضّلون أنفسهم في الدين على أهل النزاهة والتقوى ، زاعمين إنّ هؤلاء المتّقين قد عمّرت ظواهرهم بالعمل والإرشاد ، ولكن بواطنهم خربة بسوء الاعتقاد ، ويقولون نعم إنّنا نحن نأكل الربا أو القمار ولكنّا نحرمه ، ونأتي في نادينا وخلوتنا المنكر ولكنّا لا نستحسنه ، وأنّ ما نبتزّه من جيوب الأغنياء بخلابتنا ليس المقصود به ترفيه معيشتنا ، وإنّما هو أجر على السعي في إعلاء شأنهم ، ومكافأة على خدمة أوطانهم . فهم بهذه الدعاوي ألدّ الخصماء ، ألا إنّهم هم السفهاء ، فقد جرت سنّة الله تعالى في خلقه ، ودلّت هدايته في كتابه ، على أنّ سلامة الاعتقاد وإخلاص السريرة هما ينبوع الأعمال الصالحة ، والأقوال النافعة : { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] . وانظر ما قاله عزّ شأنه في وصف فريق هذه الدعاوي العريضة ، والقلوب المريضة ، قال : { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } في تفسير التولّي هنا قولان : أحدهما : إنّ صاحب الدعوى القولية إذا أعرض عن مخاطبه وذهب إلى شأنه ، فإنّ سعيه يكون على ضدّ ما قال ، يدّعي الصلاح والإصلاح وحبّ الخير ، ثمّ هو يسعى في الأرض بالفساد ، ذلك إنّه لا همّ له إلاّ في الشهوات واللذّات والحظوظ الخسيسة ، فهو يعادي لأجلها أهل الحقّ والفضيلة ويؤذيهم ؛ لأنّه ألد خصم لهم للتناقض والتضادّ في الغرائز والسجايا ، ويعادي أيضاً المزاحمين له فيها من أمثاله المفسدين ، فلا يكون له همّ وراء التمتّع وأسبابه إلاّ الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم ، فهو يفسد بإعتدائه على الأموال والأعراض { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } بما يكون من أثر إفساده في إعتدائه ، وهو ذهاب ثمرات الحرث وهو الزرع ، والنسل وهو ما تناسل من الحيوان ، وكأنّه إشارة إلى مكاسب أهل الحضارة وأهل البادية ، وفي هذا عبرة كبرى للذين يقطعون الزرع ويقتلون البهائم بالسمّ وغيره إنتقاماً ممّن يكرهونهم ، وهي جرائم فاشية في أرياف مصر لهذا العهد ، فأين الإسلام وأين هداية القرآن ؟ وذكر الأزهري أنّ المراد بالحرث هاهنا النساء كما في قوله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 223 ] وبالنسل الأولاد ، وهل المراد نساء الناس وأولادهم ، أم نساء المفسدين وأولادهم خاصّة ؟ لعلّ الأمر أعمّ فإنّ المفسدين الذين يطمحون بإبصارهم إلى نساء الناس ، أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقون من الفتن ويعملون من التفريق ، لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب ظاهراً وباطناً أو باطناً فقط ، فالمفسد الشرّير يؤذي نفسه وأهله بضروب من الإيذاء قد يعميه الغرور عنها أو عن كونها من سعيه . وقال الأستاذ الإمام : إنّ إهلاك الحرث والنسل عبارة عن الإيذاء الشديد ، وقد صار التعبير به عن ذلك من قبيل المثل ، فالمعنى أنّه يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدّى إلى إهلاك الحرث والنسل ، وكذلك شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خرب الملك بإرضائها . والقول الآخر : إنّ المراد بتولّي صار والياً له ، حكم ينفذ وعمل يستبدّ به ، وإفساده حينئذٍ يكون بالظلم مخرّب العمران وآفة البلاد والعباد ، وإهلاكه الحرث والنسل ، يكون إمّا بسفك الدماء والمصادرة في الأموال ، وإمّا بقطع آمال العاملين من ثمرات أعمالهم ، وفوائد مكاسبهم ، ومن انقطع أمله انقطع عمله إلاّ الضروري الذي به حفظ الدماء ، ولا حرث ولا نسل إلاّ بالعمل . وقد شرحت لنا حوادث الزمان وسير الظالمين هذه الآية ، فقرأنا وشاهدنا أنّ البلاد التي يفشو فيها الظلم تهلك زراعتها ، وتتبعها ماشيتها ، وتقلّ ذرّيتها ، وهذا هو الفساد والهلاك الصوريان ، ويفشو فيها الجهل ، وتفسد الأخلاق ، وتسوء الأعمال حتّى لا يثق الأخ بأخيه ، ولا يثق الابن بأبيه فيكون بأس الأمّة بينها شديداً ولكنّها تذلّ وتخنع للمستعبدين لها . وهذا هو الفساد والهلاك المعنويان ، وفي التاريخ الغابر والحاضر من الآيات والعبر ، ما فيه ذكرى ومزدجر . ولمّا كان هذا المفسد يشهد الله على هداية قلبه ، عند من يظنّ أنّه يجهل حقيقة أمره ، قال تعالى بعد بيان عمله في الإفساد : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } أي إنّ إفساد هذا المنافق ظاهر في الوجود ، والظاهر عنوان الباطن ، فإفساده في عمله دليل على فساد قلبه وكذبه في إشهاد الله عليه { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ المائدة : 64 ] لأنّه لا يحبّ الفساد . وفي الآية دليل على أنّ تلك الصفات الظاهرة المحمودة لا تكون محمودة مرضية عند الله تعالى ، إلاّ إذا أصلح صاحبها عمله ، فإنّ الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ، وإنّما ينظر إلى القلوب والأعمال ، وهي ترشدنا إلى التمييز بين الناس بأعمالهم وسيرتهم ، وعدم الإغترار بزخرف القول ، فإنّ الناس إذا انصرفوا من مجالس القول ، لم يكن لهم بدّ من سعي وعمل ، والعمل إمّا خير وإصلاح ، وإمّا شرّ وإفساد ، وكلّ إناء ينضح بما فيه . ولمّا كان الإفساد يصدر تارةً عن الجهل وسوء الفهم ، وأحياناً عن فساد الفطرة وسوء القصد ، وكان من يعمل السوء بجهالة سريع التوبة ، مبادراً إلى قبول النصيحة ، وكان شأن الآخر الإصرار على ذنبه ، كالمستهزئ بربّه ، ذكر من صفة المفسد ما يميّز بينه وبين المخطئ ، فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ } أي أنّه إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ، يسرع إليه الغضب ، ويعظم عليه الأمر ، فتأخذه الكبرياء والأنفة ، وتخطفه الحميّة وطيش السفه ، فيكون كالمأخوذ بالسحر ، لا يستقيم له فكر ، لأنّه مصرّ على إفساده لا يبغي عنه حولا . وعبّر عن الكبرياء والحميّة بالعزّة ، للإشعار بوجه الشبهة للنفس الأمّارة بالسوء وهو تخيّلها النصح والإرشاد ذلّة تنافي العزّة المطلوبة . قال شيخنا : هذا الوصف ظاهر جدّاً في تفسير التولّي بالولاية والسلطة ، فإنّ الحاكم الظالم المستبدّ يكبر عليه أن يُرشد إلى مصلحة ، أو يحذّر من مفسدة ؛ لأنّه يرى أنّ هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأياً وأرجحهم عقلا ، بل الحاكم المستبدّ الذي لا يخاف الله تعالى ، يرى نفسه فوق الحقّ ، كما إنّه فوق أهله في السلطة ، فيجب أن يكون أفن رأيه خيراً من جودة آرائهم ، وإفساده نافذاً مقبولا دون إصلاحهم ، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له : اتّق الله في كذا ؟ وإنّ الأمير منهم ليأتي أمراً فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه ويودّ لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه ، فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها ، وهو يعلم أنّ فيها النجاة والفوز إلاّ أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم ، ولا بأنّ السيّد المطاع في حاجة إليه . وقد عرضت نصيحة على بعضهم مع ذكر لفظ النصيحة بعد تمهيد له بالحديث " الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم " وبيان معناه ، فعظم عليه أن يقول أحد إنّني أنصح لك لأنّك إمامي ، وكان ذلك آخر عهد الناصح به فانظر كيف لم يرض حاكم مسلم بأن يبذل له ما يجب أن يبذل لله ولرسوله وللأئمّة ، وقد كان العلماء ينصحون للخلفاء والملوك المسلمين ، فيأخذون بالنصح بحسب مكانهم من الدين ، وأمّا الطغاة البغاة الذين ليس لهم من الإسلام إلاّ ما يخدعون به العامّة من إتيان المساجد في الجمع والأعياد والمواسم المبتدعة ، فإنّهم يؤذون من يشير إشارة ما إلى أنّهم في حاجة إلى تقوى الله في أنفسهم ، أو في عيال الله الذين سلّطوا عليهم ، وإن لم يبق لهم من السلطان والحكم ما يمكّنهم من كلّ ما يهوون من الإفساد والظلم ، وإذا كان هذا شأن أكثر الملوك والأمراء الذين ينسبون إلى الدين ويدعون أتباعه ، فهل تجد دعوى فرعون الألوهية غريباً عجيباً ؟ وحمل التولّي على الوجه الآخر ، لا يتنافى مع أخذ العزّة بالإثم من جرّاء الأمر بالتقوى ، فإنّ في طبع كلّ مفسد النفور ممّن يأمره بالصلاح والإحتماء عليه ؛ لأنّه يرى أمره بالتقوى والخير تشهيراً به ، وصرفاً لعيون الناس إلى مفاسده التي يسترها بزخرف القول وخلابته ، ولكن التعبير أظهر في إرادة الولاة والسلاطين . وقد يبلغ نفور المفسدين في الأرض من الحقّ والداعين إلى الخير ، إلى حدّ إستثقالهم والحقد عليهم ، والسعي في إيذائهم ، وإن لم يأمروهم بذلك ، إذ يرون أنّ الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر على إطلاقهما كافيان في فضيحتهم ، وذاهبان بخلابتهم ، فلا يطيقون رؤية دعاة الخير ولا يرتاحون إلى ذكرهم ، بل يتتبّعون عوراتهم وعثراتهم ليوقعوا بهم وينفّروا الناس عن دعوتهم ، فإن لم يظفروا بزلّة ظاهرة التمسوها بالتحريف والتأوّل ، أو الإختراع والتقوّل ، ولذلك تجد طعن المفسدين في الأئمّة المصلحين ، من قبيل طعن الكافرين في الأنبياء والمرسلين : إنّ فلاناً مغرور ، لا يعجبه أحد خطّأ جميع الناس ، وصفهم بالضلال ، سفّه أحلامهم ، شنّع على أعمالهم ، فرّق بينهم ، وما أشبه هذا . هذه آثار المفسدين في الأرض عند العجز عن الإيقاع بالآمر بالتقوّى ، وإن قدروا حبسوا وضربوا ، ونفوا وقتلوا ، ولذلك قال عزّ وجلّ فيمن يأنف من الأمر بالتقوى : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي هي مصيره وكفاه عذابها جزاء على كبريائه وحميّته الجاهلية . ثمّ وصف جهنّم وهي دار العذاب في الآخرة بقوله : { وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } المهاد : الفراش يأوي إليه المرء للراحة ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف ، فالله تعالى يقسم تأكيداً للوعيد ، بأنّ الذي يرى عزّته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله سيكون مهاده ومأواه النار ، وهي بئس المهاد وشرّه ، لا راحة فيها ، ولا إطمئنان لأهلها . وقال بعض المفسّرين إنّه عبّر بالمهاد الذي هو مظنّة الراحة للتهكّم . وأنت ترى من هذا التقرير ومن كون التقسيم حقيقيّاً في نفسه ، شارحاً لما عليه البشر في حياتهم ، متصلاً بما قبله ملتئماً معه في السياق ؛ أنّ الكلام عامّ ، وما روي من أنّ له سبباً خاصّاً لا ينافي عمومه . وقد اختلفوا في السبب للآيات ، فروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عبّاس : إنّها نزلت في رجلين من المنافقين قالا لمّا هلكت سرية للمسلمين : يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في أهليهم ، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم . وروى ابن جرير عن السدي أنّها نزلت في الأخنس بن شريق : أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر له الإسلام فأعجبه ذلك منه ، ثمّ خرج فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر . فإن صحّت الروايتان فالظاهر أنّ من جعلهما سبباً حمل الآيات عليهما في الجملة ، وإلاّ فأنت ترى أنّ الآيات ليست مطابقة للحادثتين ، اللتين إن صحّتا كانتا في وقتين متباعدين ، فإنّ الأخنس من مشركي مكّة . ثمّ ذكر الفريق الآخر المقابل لمن تأخذه العزّة إذا ذكّر بالله تعالى فقال : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } وكان مقتضى المقابلة أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجّح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله ، وموافقة لسانه لما في قلبه ، والآية تضمّنت هذا الوصف وإن لم تنطق به ، فإنّ من يشري - أي يبيع - نفسه لله لا يبغي ثمناً لها غير مرضاته ، لا يتحرّى إلاّ العمل الصالح وقول الحقّ ، مع الإخلاص في القلب ، فلا يتكلّم بلسانين ، ولا يقابل الناس بوجهين ، ولا يؤثر على ما عند الله ، عرض الحياة الدنيا وما عند كبرائها ومترفيها من القصور ، ومتاع الزينة والغرور ، وهذا هو المؤمن الذي يعتدّ القرآن بإيمانه . وأمّا الإيمان القولي الذي يظهر على الألسنة ولا يمسّ سواد القلوب ، ولا تظهر آثاره في الأعمال ، ولا يحمل صاحبه شيئاً من الحقوق لدينه وملّته ، ولا لقومه وأمّته ، فلا قيمة له في كتاب الله ، ولا يقام لصاحبه وزن في يوم الله ، بل يخشى أن يقال لذويه يومئذ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } [ الأحقاف : 20 ] . ذكر الله تعالى هذا الشراء في آيات أخرى تشرح هذه الآية وتفسّرها ، وتبيّن أنّ المؤمنين باعوا ، وأنّ الله قد اشترى كقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] إلى قوله : { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [ التوبة : 111 ] وقد وصف هؤلاء المؤمنين في الآية التي بعدها بما يجب على المؤمن أن يجعله معها ميزاناً للإيمان وأهله . فنفس المؤمن لله ، لا للشهوة واللذّة البهيمية والمكر الشيطاني ، فمن آثر شهوته على مرضاة ربّه ، والتزام حدوده ، والمحافظة على هدي دينه ، فلا وزن له في سوق هذا البيع ولا قيمة . ولقد نعلم أنّه ليكبر هذا القول على المفتونين بزينة الحياة الدنيا ، ولذّاتها وقصورها ، وخمورها وحورها ، وإن كانوا يزعمون أنّهم من زعماء الدين ، وخدمته المخلصين لأنّ الحقّ مرّ في مذاق المبطلين . والآية لا تنافي ما دلّت عليه آية الدعاء من أنّ الإسلام شرّع لنا طلب الدنيا من الوجوه الحسنة ، كما شرّع لنا طلب الآخرة ، بل هي مؤيّدة لها ، فإنّ طلبها من الطرق الحسنة ، أي المشروعة النافعة لا ينافي مرضاة الله تعالى ببيع النفس له ، ولذلك لم يحرّم سبحانه علينا إلاّ ما هو ضارّ بفاعله أو غيره ، فلنا أن نتمتّع بها حلالا ، ونكون مثابين مرضيين عند الله تعالى . قال بعض الصحابة لمّا قال صلى الله عليه وسلم : " " وفي بضع أحدكم صدقة " يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ " قالوا : نعم ، قال : " فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " رواه مسلم من حديث أبي ذرّ . ولكن الذي ينافي مرضاة الله تعالى وينافي سعادة الدنيا قبل الآخرة ، هو أن يسترسل المرء في سبيل حظوظه وشهواته خارج الحدود المشروعة فيفسد في الأرض ، ولا يبالي أن يهلك بإفساده الحرث والنسل . ثم إنّ هذا البيع لا يتحقّق ، إلاّ إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله ، إذا مسّت الحاجة لذلك ، فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة ، كجهاد أعداء الملّة والأمّة عند الإعتداء عليهما ، أو الإستيلاء على شيء من دار الإسلام ، وحينئذٍ يكون فرضاً عينيّاً على جميع الأفراد ، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ، ومن قدر عليه بهما معاً وجب عليه . وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته ، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده . ومعنى هذا أنّه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال ، ويتمتّع بالحلال ، وينفع نفسه ولا يضرّ غيره ، وأن يصلّي ويصوم ؛ لأنّ كلّ هذا يعمله لنفسه خاصّة ، بل يجب أن يكون وجوده أوسع ، وعمله أشمل وأنفع ، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم ، بحفظ الشريعة ، وتعزيز الأمّة بالمال والأعمال ، والدعوة إلى الخير ، ومقاومة الشرّ ، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه ، فإن قصّر في واجب يتعلّق بحفظ الملّة وعزّة الأمّة من غير عذر شرعي ، فقد آثر نفسه على مرضاة الله تعالى ، وخرج من زمرة كَمَلة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى ، وكان أكبر إجراماً ممّن يقصّر في واجب لا يضرّ تقصير فيه إلاّ بنفسه ؛ ذلك أنّ الحكمة في تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة ، هي أن ترتقي ويتّسع وجودها في الدنيا فيعظم خيرها وينتفع الناس بها ، وتكون في الآخرة أهلا لجوار الله تعالى مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم وجعلوا أكثر أعمالهم ، خدمةً للناس وسعياً في خيرهم ، فإنّ الله تعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة لأجل نفعه سبحانه ، أو دفع الضرّ عنه جلّ شأنه ، فهو غني عن العالمين ، وإنّما شرّع هذا ليكون المؤمن باتّساع وجوده وعموم نفعه سيّد الناس ، فليعرض مدعو الإيمان أنفسهم على الآية وأمثالها ، فمن ادّعى أنّه من الذين باعوا أنفسهم لله ، وآثروا مرضاته على ما سواه ، فليعرضه غيره من المنصفين عليها ، ولا سيّما إذا ادّعى أنّه واسع الوجود خادم للأمّة والملّة ، لا جرم أنّ كثيراً منهم لا يصدق عليهم شيء من ذلك ، ولا قوله تعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] فإنّ معنى أسلمنا : إنقدنا لأحكام الدين الظاهرة ، وأخذنا بأعماله البدنية . وكثير ممّن تعجبك أقوالهم من صنف المسلمين لا يصلّون ولا يصومون ، ولا يزكّون ولا يحجّون ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ، ويأتون كثيراً من الكبائر جهاراً ، ويصرّون عليها إصراراً . ذكر تعالى أنّ من الناس من يشري - أي يبيع - نفسه وهم المؤمنون الخلّص كما في الآيات الأخرى ، والإخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدلّ على تقريره ؛ لأنّ الأمر به لا يدلّ على إمتثال المأمورين ، والإخبار هو الذي يدلّ على الوقوع ، فالقرآن يصوّر المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان . ثمّ بيّن أنّه ما شرّع هذا إلاّ رأفة بعباده فقال : { وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } إذ يرفع همم بعضهم ، ويعلي نفوسهم ، حتّى يبذلوها في سبيله لدفع الشرّ والفساد عن عباده ، وتقرير الحقّ والعدل والخير فيهم ، ولولا ذلك لغلب شرّ أولئك المفسدين في الأرض ، حتى لا يبقى فيها صلاح { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } [ البقرة : 251 ] وإنّ هذا يؤيّد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهّم أنّ بيع النفس يؤذن بترك الدنيا ، وأن لا يمتّع المؤمن نفسه بلذّاتها ، ولو كان كذلك وهو من تكليف ما لا يطاق ، لما قرنه الله تعالى باسمه الرؤوف الدالّ على سعة رحمته بعباده ، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله ، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه . ومن الدقّة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة ، وهي أنّ وجود هذه الأمّة في الناس رحمة عامّة للعباد لا خاصّة بهم ، والأمر كذلك ، بل كثيراً ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم ، إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم ، وإنّ على من يبذل نفسه إبتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ، أن لا يتهوّر ويلقي بنفسه في التهلكة ، بل عليه أن يكون حكيماً يقدّر الأمور بقدرها ، إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها ، وإنّما المراد دفع الشرّ وتقرير الخير العامّ رأفةً بالعباد ، وإيثاراً للمصلحة العامّة . وإنّ أمّة يتّصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين ، وكذلك ساد سلفنا الصالحون ، وإنّ أمّة تحرم من هذا الصنف ، لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلّبين ، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون ، فهل نحن معتبرون ؟