Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 215-215)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلنا في تفسير قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] إلخ : إنّ ما تقدّم من أوّل السورة إلى تلك الآية كان في القرآن والرسالة ، وإنّ تلك الآية وما بعدها إلى قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ } [ البقرة : 243 ] في سرد الأحكام العملية ، ثمّ أشرنا إلى هذا بعد ذلك وقلنا : إنّه لا حاجة إلى التناسب بين كلّ آية وما يتّصل بها ، ويظهر هذا أتمّ الظهور إذا كانت الأحكام المسرودة أجوبة لأسئلة وردت ، أو كان من شأنها أن ترد للحاجة إلى معرفة حكمها كهذه الآية ، على أنّ ما تقدّم من بيان التحام آيات القرآن والتئامها غريب ، حتّى في سرد الأحكام التي يظهر بادي الرأي أن لا تناسب بينها . فقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } الخ متّصل بما قبله في المغزى ، فإنّ الآيات السابقة دلّت على أنّ حبّ الناس لزينة الحياة الدنيا ، هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف ، وأنّ أهل الحقّ والدين هم الذين يتحمّلون البأساء والضرّاء في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، ومنها ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم ، وذلك ممّا يرغّب الإنسان في الإنفاق في سبيل الله ، وبذل المال كبذل النفس ، كلاهما من آيات الإيمان ، فكأنّ السامع لمّا تقدّم تتوجّه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه ، فجاء بعده السؤال مقروناً بالجواب . وقد ورد في أسباب النزول أنّ السؤال وقع بالفعل . أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم فنزلت الآية ، وأخرج ابن المنذر عن أبي حيّان : أنّ عمرو بن الجموح سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها ؟ فنزلت . قال بعض المفسّرين إنّ هذا من رواية أبي صالح عن ابن عبّاس ، وقال غيره إنّها من رواية الكلبي عنه ، وهي واحدة . قالوا : إنّها أوهى الروايات عنه . وعن عطاء عنه أنّها نزلت في : " رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ لي ديناراً ، فقال : " أنفقه على نفسك " قال : إنّ لي دينارين ، قال : " أنفقهما على أهلك " قال : إنّ لي ثلاثة ، قال : " أنفقها على خادمك " قال إنّ لي أربعة ، قال : " أنفقها على والديك " قال : إنّ لي خمسة ، قال : " أنفقها على قرابتك " قال : إنّ لي ستّة ، قال : " أنفقها في سبيل الله تعالى " هكذا أورد الحديث بعض المفسّرين ، وهو عند أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة بسياق آخر ، وهو " إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تصدّقوا " فقال رجل : عندي دينار ، قال : " تصدّق به على نفسك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدّق به على زوجك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " تصدّق به على ولدك " قال عندي دينار آخر ، قال : " تصدّق به على خادمك " قال : عندي دينار آخر ، قال : " أنت أبصر به " ورواه أبو داود ، ولكنّه قدّم الولد على الزوجة ، ورواه أيضاً الشافعي وابن حبّان والحاكم ، ولم يذكروا أنّ ذلك كان سبب نزول الآية . وقد زعم كثير من المفسّرين أنّ الجواب غير مطابق للسؤال ؛ لأنّه بيان لمن ينفق عليه لا لما ينفق ، وخرّجوها على أسلوب الحكيم ، كأنّه قال إنّه ينبغي السؤال عمّن ينفق عليه لا عن جنس ما ينفق أو نوعه ، وليس ما قالوا بصواب ، فإن جعل السؤال بما خاصّا بالسؤال عن الماهية والحقيقة من إصطلاح علماء المنطق ، لا من أساليب العربية . قال الأستاذ الإمام : ليس المراد السؤال عن جنس ما ينفق أو نوعه من ذهب أو فضّة أو برّ أو شعير ، وإنّما السؤال عن كيفية الإنفاق وتوجيهه إلى الأحقّ به ، وذلك مفهوم لكلّ عربي ، وليس أسلوب القرآن جارياً على مذهب أرسطو في منطقه ، وإنّما هو بلسان عربي مبين ، وسبق القفّال إلى بيان ذلك فقال : إنّه وإن كان السؤال وارداً بلفظ " ما " إلاّ أنّ المقصود السؤال عن الكيفية لأنّهم كانوا عالمين أنّ الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أنّ ذلك المال أي شيء هو ؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً ، تعيّن أنّ المطلوب بالسؤال مصرفه أي شيء هو ؟ حينئذٍ يكون الجواب مطابقاً للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة : 70 - 71 ] إلخ . وإنّما كان الجواب موافقاً لذلك السؤال ؛ لأنّه كان من المعلوم أنّ البقرة هي البهيمة التي نشأتها وصفتها كذا ، فقوله : { مَا هِيَ } لا يمكن حمله على طلب الماهيّة ، فتعيّن أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميّز تلك البقرة عن غيرها ، فبهذا الطريق قلنا إنّ ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال ، فكذا هاهنا ، لما علمنا أنّهم كانوا عالمين بأنّ الذي أمروا بإنفاقه ما هو ، وجب أن يقطع بأنّ مرادهم من قولهم " ماذا ينفقون " ليس هو طلب الماهية ، بل طلب المصرف فلهذا حسن هذا الجواب . اهـ . وقيل إنّ السؤال كان عن الأمرين - ما ينفق وأين ينفق - كما في بعض الروايات ، فذكر في إيراده عنهم الأوّل وحذف الثاني للعلم به ودلالة الجواب عليه ، فإنّه ذكر فيه الأمرين وهو قوله تعالى : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } وهذا هو المنفَق . والخير هو المال ، وتقدّم في تفسير : { إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } [ البقرة : 180 ] إنّ الأكثرين قيّدوه بالكثير ، ولكن قوله هنا من خير يعمّ القليل والكثير لدخول " من " التبعيضية عليه وتنكيره ، وقال بعضهم إنّ التعبير عن المال بالخير يتضمّن كونه حلالا ، فكأنّه قال إنّ الإنفاق والتصدّق يكون من فضل المال الكثير الحلال الطيّب ، وأمّا بيان المصرف فهو قوله : { فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } قدّم الوالدين لمكانتهما ، وفسّروا الأقربين بالأولاد وأولادهم ، ولا شكّ أنّ أقرب الناس إلى المرء أولاده إن وجدوا ، وإلاّ كان أقربهم إليه بعد والديه إخوته ، وما اختير لفظ الأقربين هنا ، إلاّ لبيان أنّ العلّة في التقديم القرابة ، فمن كان أقرب كان أحقّ بالتقديم . وكأنّ الذين حملوا لفظ الأقربين على الأولاد خاصّة أرادوا جعل الآية للنفقة الواجبة في الفقه ، وهي تجب للوالدين والأولاد عند الحاجة بالإجماع ، والنفقة في الآية أعمّ ، وهؤلاء اليتامى والمساكين لا يجب على فرد معيّن من المكلّفين الإنفاق على يتيم أو مسكين معين منهم من حيث إنّه يتيم أو مسكين ، ولكنّهم أحقّ بالصدقة المفروضة والمندوبة بعد الأقربين ، فالآية عامّة في النفقة وأحقّ الناس بها . ومن أغرب ما قيل فيها ، زعم بعضهم أنّها منسوخة بآية المواريث ، كأنّها اشتبهت عليهم بآية الوصيّة للوالدين والأقربين على أنّ دعوى النسخ هناك لم تسلم لهم ، فكيف بها هنا وقد ردّها عليهم الجماهير . ثم قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } كالإنفاق في موضعه بتقديم الأحقّ فالأحقّ به ممّن ذكر ، وهو ما يوجد في كلّ زمان ومكان ، وممّن لم يذكر في هذه الآية وذكر في غيرها كالرجل تعرض له الحاجة فتدفعه إلى السؤال - لا من يتّخذ السؤال حرفة وهو قادر على الكسب - وكالمكاتب يساعد على أداء نجومه وكغير الإنفاق من أعمال الخير { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } لا يغيب عنه فينسى الجزاء والمثوبة عليه ، بل يجزي به مضاعفاً .