Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 214-214)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الآية متّصلة بما قبلها فقد أمر الله تعالى بالوفاق والسلام ، وبين سبب التنازع والخصام ، وأرشد إلى ما فطر عليه البشر من حاجة بعضهم إلى التعاون مع بعض عندما كثروا واجتمعوا وكثرت مطالبهم وتعدّدت رغائبهم ، ومن إفضاء ذلك إلى التنازع والتعادي ، ومن حاجتهم إلى نظام جامع وشرع يحدّد الحقوق ويهدي القلوب ، لا مجال فيه للنزاع والاختلاف ؛ لوجوب أخذه بالتسليم لما معه ، أو لما فيه من البيّنات على أنّه من عند الله ، وذكر إحسان الله تعالى إليهم إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم في الاختلاف . ثمّ ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الكتاب نفسه وتحويلهم الدواء داء ، واتّخاذهم الرابطة الجامعة آلة مفرّقة ، ثمّ هداية الله تعالى أهل الإيمان الصحيح لما وقع الاختلاف فيه من الحقّ برجوعهم إلى الأصل وهو الكتاب ، وتحكيمه في كلّ خلاف ، وقبول حكمه في كلّ نزاع ، والإعتماد في فهمه على ما يؤخذ من جملته ، وما علم علماً صحيحاً من سنّة من جاء به ، ومن صدّقوه واتّبعوه قبل الخلاف . بيّن الله تعالى هذه الأطوار في البشر ، فأنار لنا الطريق التي اهتدت فيها الأمم بعد ضلال ، ثمّ ضلّت بعد هداية ، لنكون على بصيرة فيما نعمله للخروج من الخلاف بعد وقوعه ، ولكن الذي يحاول الخروج من الخلاف يكون عرضة لبغي المختلفين وإيذائهم ، وهكذا أهل الضلالة يبغون على أهل الهداية وإن كان هؤلاء يريدون خيرهم ، سواء كان ما يحاولون هدايتهم فيه هو الضلال في طريق الفطرة والعقل ، أم الضلال في تأويل الكتاب والتصرّف في الشرع . ولذلك قفّى على ذلك البيان كلّه بتمثيل حال الأوّلين الذين سلكوا سبيل الهداية في أنفسهم ، وتصدّوا لهداية الناس وإرشادهم إلى السلم والوفاق فقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } إلخ . الخطاب موجّه إلى الذين هداهم الله تعالى إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف ، إلى نور الكتاب الذي أنزل لإزالته في زمن النزول وفي كل زمن يأتي بعده . وتوجيهه أوّلا وبالذات إلى أهل الصدر الأول من المسلمين ، الذين كانوا خير أمّة أخرجت للناس أكبر عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم ، ويحسبون أنهم بمجرّد الإنتماء إلى الإسلام يكونون أهلا لدخول الجنّة ، جاهلين سنّة الله تعالى في أهل الهدى منذ خلقهم ، وهي تحمّل الشدائد والمصائب والضرر والإيذاء في طريق الحقّ ، وهداية الخلق ، وعجيب من أمّة ينطق كتابها بالآيات البينات على أنّ سنّة الله في خلقه واحدة لا تحويل لها ولا تبديل ، ويحثّها دائماً على الاعتبار بها والسير في الأرض لمعرفة آثارها في الأمم البائدة والأمم الحاضرة ، ثمّ هم يحوّلون هذه السنّة عنهم ، ويفشو فيهم الإنكار على من يعظهم ، بما حكى الله تعالى عن حال تلك الأمم التي كفرت بنعمة الله تعالى عليها بالسلم والهداية ، قائلين إنّه يقيس المسلمين على الكافرين ! ! " أم " هاهنا هي الواقعة في طريق الاستفهام ، وهي تشعر بمحذوف دلّ عليه الكلام في وصف الذين خلوا من قبلنا وما نالوا من البأساء والضرّاء ، كأنّه يقول : قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحقّ ، فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا . أفتصبرون مثلهم على المكاره ، وتثبتون ثباتهم على الشدائد ؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة وتنالوا رضوان الله تعالى من غير أن تفتنوا في سبيل الحقّ ، فتصبروا على ألم الفتنة ، وتؤذوا في الله فتصبروا على الإيذاء ، كما هي سنّة الله تعالى في أنصار الحقّ وأهل الهداية في كلّ زمان ؟ قرّر الأستاذ معنى الآية على هذا الوجه وقال : إنّه معنى ظاهر من الآية يسبق إلى ذهن كل قارئ وإن لم يستطع كلّ أحد التعبير عنه ، وإذا جعلت " أم " بمعنى الإضراب والاستفهام معاً كما قال المفسّر ( الجلال ) ، بطل هذا المعنى الذي يملك النفس ويؤثّر في الوجدان . قيل : إنّ الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين وشجّوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته . وقيل : إنّها نزلت في غزوة الأحزاب إذ اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين وقطع دابرهم ، وأصاب المؤمنين يومئذ ما أصابهم من الجهد والشدّة والجوع والحاجة وضروب الأذى ، وإذ انتقض المنافقون على المؤمنين الصادقين ، وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض { مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 12 ] وإذ جاءهم الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنّوا بالله الظنون ، وإذ ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً ، وإذ رأى المؤمنون الصادقون الأحزاب متحزّبة عليهم فقالوا على قلّتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم : { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب : 22 ] . أمثال هؤلاء يخاطبهم الله تعالى بقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } أي وإلى الآن لم يصبكم ما أصاب الذين سبقوكم بالإيمان والهدى والدعوة إلى الحقّ من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، فالمراد بالمثل الوصف العظيم والحالة التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل . أي لم تكن لكم هذه الحال الشديدة إلى الآن . وهذا النفي المستغرق ممّا يوجّه الأذهان إلى طلب العلم بما أصاب أولئك الأقوام ، ولذلك وصله بالبيان فقال : { مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } البأساء : الشدّة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه ، كأخذ المال والإخراج من الديار وتهديد الأمن ومقاومة الدعوة ، وفسّره الجلال بالفقر وهو من أثره . والضرّاء : ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل ، وفسّره الجلال بالمرض وهو بعضه ، وأمّا الزلزال : فهو الاضطراب في الأمر يتكرّر حتى يكاد يزلّ صاحبه عنه ، وهذا الحرف فيه لفظ زلّ مكرّراً ومعناه زلق وانحرف ، فزلزله بمعنى هزّه ودعّه ليزلّه عمّا هو عليه ، أي إنّهم وصلوا إلى درجة حدوث الاضطراب والإشراف على الزلل في مجموعهم ، كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب : { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ] والآية التي نفسّرها تصرّح بأنّ بعض السابقين كانوا أشدّ زلزالاً من هذا الذي وقع للمسلمين في يوم الأحزاب ، ولعلّ الغاية التي وصلوا إليها ولم يصل إليها سلفنا هي قوله تعالى : { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } أي حتّى وصلوا إلى غاية من الشدائد والأهوال لم يروا فيها منفذاً لسبب من أسباب الفوز ؛ لأنّ قوّة أعداء الحقّ أحاطت بهم من كلّ جانب ودنت حتّى أخذت بأكظامهم ، فاعتقدوا أنّ وقت العناية الإلهية والنصر الذي وعد الله به من ينصر الحقّ ، قد حان وقته ، أو أبطأ ، فاستعجلوه بقولهم : متى نصر الله ؟ فأجابهم تعالى : { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } بأنّ نصرهم وكفّ عنهم شرّ أهل البغي ، وأيّد دعوتهم وجعل كلمتهم العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وكان الله قويّاً عزيزاً ، ومثل هذه بل أشدّ قوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } [ يوسف : 110 ] الآية . فالرسول هنا للجنس ، وقد ذكرت هذه الغاية في الشدّة بصيغة المضارع ، تصويراً لها كأنّها حاضرة ، ليتمثّل المخاطب هولها وشدّتها ، فيخفّ عنده ما يجده ممّا هو دونها . وما من شدّة تصيب الأمم ، إلاّ وهي دون الشدّة التي يستعجل بها رسل الله تعالى نصر الله إستبطاءً له ، وهم أعلم الناس بالله تعالى ، وأشدّهم اتّكالا عليه وتسليماً له . ولعمري إنّ المسلمين لم يصلوا في تلك الشدّة التي حملت عليها الآية إلى تلك النهاية التي قال فيها أولئك الرسل ما قالوا ولقد قتل بعض النبيين ضروباً من القتل حتّى ورد أنّ منهم من نشر بالمنشار حيا وناهيك بأصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] . وحاصل معنى الآية لوم المؤمنين على ذلك الحسبان ، وبيان أنّ ما كانوا فيه من الشدّة والألم في وقعة الأحزاب أو وقعة أحد - إن صحّ إنّ الآية نزلت في ذلك الوقت - أو في عامّة أحوالهم قبل فتح مكّة إذ كانوا يألمون من منازعة المشركين واليهود والمنافقين ، ويقاسون من جحودهم وكيدهم ما يقاسون . كلّ ذلك قليل في جنب ما قاسى غيرهم ممّن سبقهم بالإيمان والهدى ، إذ كان إستعداد البشر أضعف ، وقسوتهم أشدّ وعنادهم أقوى . جاء في معنى هذه الآية آيات ، أقربها منها لفظاً ومعنىً : قوله تعالى في سورة آل عمران : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] وهذه نزلت في غزوة أحد لا محالة ، وأمّا قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] فقد قيل إنّه خطاب للمؤمنين وقيل للمنافقين . ومن خطاب المؤمنين في مثل هذا المقام ، قوله في أوّل سورة الم العنكبوت : { الۤـمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] - إلى قوله - { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] . فهذه الآيات وأمثالها تؤيّد الآية التي نفسّرها في إبتلاء الله المؤمنين الصادقين الداعين إلى الحقّ ، ولكنّك تجد أكثر المسلمين الذين تتلى عليهم دائماً في غفلة عنها ، فمن لم يغفل عن تصوّر المعنى في ذهنه يغفل عن إنطباقه على الواقع ، ولذلك تجد الكثيرين منهم يذهبون إلى أنّ من يؤذى في سبيل الحقّ بالقول أو بالفعل ، كان وقوع الأذى عليه دليلا على أنّه مبطل لا يطلب الحقّ ! ! فما أجهلهم بكتاب الله ؟ وما أبعدهم عن العلم بسنن الله ؟ وما أغفلهم عن تأويلهما في خلق الله ؟ . اتّخذ المسلمون هذا القرآن مهجوراً ، إلاّ ما يتغنّون به من بعض سوره في المحافل الجامعة ، ففقدوا روح الدين ، وتبع الروح الجسمان ، إلاّ قليلا من الرسوم الماثلة في جانب بروج البدع المشيّدة ، وإنّما أبقى على تلك الرسوم تمسّك العوام بها ، فلولاهم لما بالى بها الأمراء والرؤساء الذين لا قوام لعظمتهم إلاّ خضوع العامّة لهم ، لذلك جعلوا الدين رابطة سياسية وآلة لإخضاع العامّة ، ولذلك يحاربون من يدعو الأمّة إلى الكتاب العزيز ، ويستعينون عليه بعلماء الرسوم الذين يستمدّون سلطتهم ورزقهم وجاههم منهم ، لئلاّ تتوجّه نفوس الجمهور إلى الكتاب ، فيعرو رياستهم الزلزال والاضطراب . هذا هو الحجاب بين الأمّة وبين الاعتبار بالقرآن والإهتداء بهديه . المسلم العارف بتاريخ دينه ، يعرف قيمة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلم العامّي المقلِّد يعظّمهم في خياله وشعوره ، أشدّ ممّا يعظّمهم العارف في فكره وقلبه ، حتّى إنّ الكثيرين أو الأكثرين من المسلمين يكادون يرفعونهم عن مرتبة البشر ، ويكاد تعظيمهم إيّاهم يشبه العبادة . ولكن ما بال هؤلاء وأولئك لا يعتبرون بما خاطبهم الله تعالى به في مثل هذه الآية ، ولا يتأمّلون كيف عاتبهم الله تعالى هذا العتاب الشديد على ظنّهم وحسبانهم أنّهم يدخلون الجنّة وهم لم يقاسوا من البأساء والضرّاء واحتمال الشدائد في سبيله ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان ، حتّى استحقّوا الجنّة ؟ يقول الأستاذ الإمام : إنّ الآية عتاب لهم ، وقال غيره من المفسّرين : إنّها إنكار عليهم ، وهذا القول أشدّ من قوله . فكيف لا ينكر مسلم على نفسه مثل هذا وهو يعلم أنّه دون الصحابة الكرام إيماناً وإسلاماً ودعوة إلى الحقّ وصبراً على المكاره في سبيله ؟ لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراه من أمثاله الذين يقولون آمنا بالله ، فإذا أوذي أحدهم في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ، وآثر ما عند الناس على ما عند الله ؟ بل لماذا لا ينكر على نفسه ، وعلى من يراهم لا همّ لهم إلاّ زينة هذه الحياة الدنيا ، والإستكثار من المال ولو من غير حله ، والإنبساط في الأرض ولو بالبغي في الأرض والإعتداء على حقوق الجيران وغيرهم ؟ . أم حسبت أنّ هؤلاء الذين يغشّون أنفسهم ، ويغشّون الناس بدعواهم الإيمان ، وغرورهم بالإنتساب إلى الإسلام ، كانوا بدعاً من الناس بجهلهم وأمانيهم ؟ كلاّ إنّ هذه كانت حال كلّ أمّة طال عليها الأمد بعد زمن البعثة ، فقست من أفرادها القلوب ، وفسقوا عن أمر ربّهم ، فلم يزنوا إيمانهم ولا إسلامهم بالميزان الذي وضعه الله تعالى في كتابه ليميّز به الراجح والطائش ، وبه حكم على أصحاب النبيّين وأتباعهم بما قرأت في الآية الكريمة ، وما ذكرنا في تفسيرها ممّا في معناها . وإنّما البدع الغريب ، والأمر العجيب ، الذي لم يعرف له نظير في أمّة من الأمم ، هو ما نراه في هذا العصر من تصدّي أناس لدعوى نصر الدين والزعامة فيه وحفظه على أهله ، وهم لم يقرؤا كتابه ، ولو قرأوه لما فهموه ، ولم يتلقّوا سنّته ولو سمعوها لما وعوها ، ولم ينظروا في عقائده ، ولو نظروا فيها لما عقلوها ، ولم يعرفوا معظم أحكامه وما يعرفونه منها لا يعملون به . وأعجب من هذا وأغرب ، أنّهم بلغوا من الوقاحة والتهجّم أن صاروا يعارضون حملة القرآن ، وأنصار السنّة ، وعرفاء الشريعة وحجج العقائد ، وحكماء الأحكام ، ويجادلونهم في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وقد حلّوا رابطة الدين ودعوا إلى رابطة أخرى يسمّونها الوطنية يفرّقون بها بين المؤمنين وما جرّأهم على ذلك كلّه إلاّ جهل العامة ، وقلّة الذين يميّزون بين العلماء العاملين والأدعياء الجاهلين ، ولو كان هؤلاء على شيء من الإيمان لاستحيوا من الله تعالى أن يدعوا هذه الدعاوى التي يكذبهم بها كتابه ، كما تكذّبهم سيرة السابقين الأوّلين ، لكنّهم لا هم لهم إلاّ العامّة التي يبتغون عندها الرزق والإستعلاء في الأرض ، وهم في مأمن من فهمها معنى الإيمان وصفات أهله ؛ لأنّهم يحولون بينها وبين كلّ من يوجّه وجهها إلى كتاب الله تعالى الهادي إلى ذلك . جعل الله تعالى للمؤمنين آيات ، ووصفهم في كتابه بصفات غيّرها المحرّفون ، واستبدلوا بها آيات الغشّ وصفات المخادعة التي يفتنون بها العامّة . أكبر آيات الإيمان وأظهرها الإهتداء بكتاب الله تعالى والدعوة إليه وإيثاره على كلّ ما يخالفه ، واحتمال البأساء والضرّاء في سبيل الحقّ الذي يهدي إليه ، والخير الذي يحضّ عليه ، ويدخل في ذلك بذل المال والنفس ، فمن بخل بما آتاه الله من مال وقوّة على تأييد كلمة الله ، فلا وزن لإيمانه في كتاب الله . فيا أيّها المسلم المقلِّد لوالديه ومعاشريه وأقرانه ، الذي يحسب إنّه من أهل الجنّة لأنّه ولد وربّي بين المسلمين ، ورضي ببعض ما هم عليه من رسوم الدين ، أو اتّكالاً على شفاعة الأوّلين ، اقرأ أو اسمع وتأمّل ما عاتب الله تعالى به أفضل سلفك الصالحين ، وما ذكره عمّن سبقهم من أتباع النبيّين . ويا أيّها العلماء بالرسوم ، والعاكفون على قراءة كتب العلوم ، ليس بأمانيكم ولا أماني الكاتبين ، فقد وضع كتاب الله الميزان للصادقين والمنافقين ، فعليكم أن تتذكّروا وتذكّروا به إخوانكم المسلمين ، ولا يصدنّكم عن آيات الله والإهتداء بكتاب الله أنّكم فضّلتم الناس بقراءة مطوّلات الكتب العربية ، وصرف السنين الطوال في فهم الأحكام الفقهية ، والإكتفاء من علم الإيمان بمثل السنوسية والنسفية ، فإنّ ينبوع الإيمان كتاب الله تعالى فاحصوا ما فيه من الشعب والآيات على الإيمان { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 9 ] . ويا أيّها الأمراء والسلاطين ، الذين انتحلتم لأنفسكم الرياسة في هذا الدين ، وإفاضة السلطة الدينية على العلماء والحاكمين ، اعلموا أنّكم مخاطبون كغيركم بهذه الآيات ، بل هي موجّهة إلى غيركم بالتبع وإليكم أولا وبالذات ؛ لأنّكم سلبتم الأمّة الإستطاعة على العمل للملّة ، ومنكم من سلبها أيضاً حريّة القول والدعوة ، فعليكم أن تخفضوا من هذه الكبرياء ، وأن تتحمّلوا في سبيل الحقّ البأساء والضرّاء ، وأن تبذلوا في تأييد كلمة الله قناطير الذهب التي تخزنون ، وهذه المزارع والدساكر التي تتأثّلون ، فإنّ ما تستدّلون به على أصل سلطتكم من القرآن ، مقيّد بكونكم من أهل الإيمان ، وهذه آيات المؤمنين ، وما أعلم الله به أهل الإيمان الصادقين ، بل عليكم بعد إقامة شعب الإيمان في أنفسكم ، أن تقيموها في أنفس رعيتكم ، وتكونوا قدوة لعالمهم وعاملهم ، وغنيّهم وفقيرهم ، لتكونوا أئمّة هدى ونور ، لا أئمّة ضلالة وفجور ، وإلاّ كان عليكم إثمكم ، وإثم جميع الأمم التي منيت بكم . وجملة القول : إنّه يجب على كلّ مكلّف أن يتحقّق بصفات الإيمان التي جاء بها الكتاب العزيز ، ويعلم إنّ للإيمان عليه حقوقاً عامّة وواجبات خاصّة ، هنّ آيات الإيمان وثمراته في الأنفس والأعمال ، وبهنّ يؤدّي إلى غايته من سعادة الدارين ، ولم يسلب الله هذه الأمّة تلك النعم التي أنعم بها على سلفها بقيامهم بحقوق الإيمان ، إلاّ بعد التفريط فيها ، ثمّ إنّهم ليمنّون أنفسهم بالجنّة ، بدلا عمّا فاتهم من السيادة والعزّة ، غافلين عن الآيات البيّنات التي تفرض عليهم من الأعمال لسعادة الآخرة ، أكثر ممّا تفرضه عليهم لسعادة الدنيا ، وإنّ في كلّ آية منها ما يكفي لإستئصال جراثيم الغرور والأماني فما بالك بمجموعها ، فعلى المسلم المذعن أن يشغله تطبيقها على نفسه ، عن اشتغاله بعيوب غيره ، وأن يتعاون مع أهلها على البرّ والتقوى ، ويهجر الراغبين عنها غروراً بزينة الحياة الدنيا . ومن مباحث اللفظ في الآية : إنّ الجلال فسّر " أم " هنا ببل ، والهمزة فجعلها للإضراب مع الاستفهام ، تبعاً للبصريين ووفاقاً لكثير من المفسّرين . وقال الأستاذ الإمام : إنّ " أم " تقع في أوّل الكلام ، فلا يصحّ فيها المعنى المشهور إذ لا معنى للإضراب في أوّل القول ، وما استشهدوا به من الشعر لا يشهد لقولهم ، بل يصحّ على أن تكون " أم " في الآية للاستفهام المجرّد ، وهو ما قاله الزجّاج . وقد فسّر الآية بنحو ما تقدّم وهو مبني على جعل " أم " للمعادلة وحذف ما عطف عليه ، وقال في المغني : إنّ الزمخشري هو الذي أجاز هذا وحده ، ثمّ قال وجوّز ذلك الواحدي أيضاً وعزا مجيئها للاستفهام المجرّد إلى أبي عبيدة . ثمّ قال : ونقل ابن الشجري عن جميع البصريين إنّها أبدا بمعنى بل والهمزة جميعاً ، وأنّ الكوفيين خالفوهم في ذلك ، والذي يظهر لي قولهم إذ المعنى في نحو { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } [ الرعد : 16 ] ليس على الاستفهام . وذكر سيبويه في الكتاب أن " أم " المتّصلة لا تخرج عن معنى المعادلة والتسوية ، وأن " أم " المنفصلة تجيء بعد الاستفهام كما تجيء بعد الخبر وبعد أن مثل لهما قال : وبمنزلة أم هنا قوله عزّ وجل : { الۤـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } [ السجدة : 1 - 3 ] فجاء هذا الكلام على كلام العرب ليعرّفوا ضلالتهم - إلى أن قال - ومثل ذلك قوله : { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ } [ الزخرف : 16 ] فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إنّ الله عزّ وجلّ لم يتّخذ ولداً ولكنّه جاء على حرف الاستفهام ليبصروا ضلالتهم اهـ . وفسّر الجلال " لما " بلم ، وهو غير صحيح ولم يقل به أحد ، بل قال سيبويه إنّ لما لتأكيد النفي في مقابلة الإثبات المؤكّد ، كأن يقول أحد إنّ فلاناً جاء فتقول لما يجيء ، وهذا قد يصحّ في الآية ؛ لأنّ المقام مقام تأكيد أنّه لا وجه لحسبانهم أن يدخلوا الجنّة ولم يأتهم - بعد - ما أصاب من قبلهم . وقال الزمخشري إنّ لما للنفي مع توقّع الحصول ، ولم للنفي المنقطع ، وهو الذي يتجه في الآية وأمثالها ، وفي المغني إنّ " لما " تفارق " لم " في خمسة أمور فتراجع هناك .