Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 233-233)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا انتقال من أحكام الطلاق إلى أحكام الرضاعة ، وكلاهما من أحكام البيوت ( العائلات ) الهادية إلى كيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف وتربية الأطفال ، فمن ثمّ عطف على ما قبله ، وللمفسّرين في قوله { وَٱلْوَالِدَاتُ } ثلاثة أقوال : القول الأول : إنّه خاصّ بالمطلّقات لوجوه : أحدها : إنّ الكلام السابق في أحكامهنّ وهذا من تتمته . ثانيها : إيجاب رزقهنّ وكسوتهنّ على الوالد ، ولو كنّ أزواجاً لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب ؛ لأنّ النفقة على الزوج التي في العصمة واجبة للزوجية لا للرضاع . ثالثها : إنّ المطلّقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه ؛ لأنه يحول دون زواجها في الغالب ولما فيه من النكاية بالرجل ، ولا سيّما الذي لم يتيسّر له استئجار ظئر تقوم مقام الوالدة ، وهنا وجه . رابعها : لترجيح هذا القول ظهر لي الآن وهو تعليل الحكم بالنهي عن المضارّة بالولد ، وإنّما تضارّ بذلك المطلّقة دون التي في العصمة ، فبيّن إنّ للمطلّقة الحقّ في إرضاع ولدها كسائر الوالدات ، وأنّه ليس للمطلّق منعها منه ، وهو عرضة لهذا المنع . القول الثاني : إنّه خاصّ بالوالدات مع بقاء الزوجية ، قال الواحدي في هذا القول هو الأولى ، لأنّ المطلّقة لا تستحقّ الكسوة وإنّما تستحق الأجرة ، وأقول : إنّ هذا الترجيح مرجوح لا يلتفت إليه ، لأنّه مبني على الاحتجاج بقول الفقهاء على القرآن وهذا القول أضعف الأقوال . القول الثالث : إنّه عامّ في جميع المطلّقات ، وقال كثيرون إنّه أولى عملا بظاهر اللفظ ، فهو عام لا دليل على تخصيصه ، ويكون الرزق والكسوة - أي النفقة - خاصّاً ببعض أفراد العامّ ، وهنّ الوالدات المطلّقات . وقال بعضهم : إنّ استئجار الأمّ للإرضاع صحيح ، وعبّر عن الأجرة بالرزق والكسوة ، وقيل إنّه ليس في الآية ما يدلّ على إنّ الرزق والكسوة لأجل الرضاع ، وأنت ترى إنّ هذا خلاف المتبادر من الآية ، ونحن لا نستفيد من جعل الآية عامّة ، زيادة عمّا نستفيد بجعلها خاصّة ، إلاّ أنّه يجب على غير المطلّقة من إرضاع الولد مطلّقاً أو بشرط ، ما يجب على المطلّقة بالنصّ ، وأنّه من حقوقها أيضاً ، وهذا يؤخذ من الآية إذا حملت على التخصيص بالطريق الأولى ، على إنّ القائلين بالعموم لم يقولوا بهذا الوجوب مطلقاً كما يأتي ، ولا أذكر عن الأستاذ الإمام ترجيحاً أو إختياراً في هذه المسألة . قوله تعالى : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } أمر جاء بصيغة الخبر للمبالغة في تقريره على نحو ما تقدّم في قوله : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] وزعم بعضهم إنّه خبر على بابه ، أي إنّ شأن الوالدات ذلك ، وأنت ترى إنّه لا فائدة في الإخبار عن الواقع المعلوم للناس في مقام بيان الأحكام ، وكأنّ صاحب هذا القول أراد أن يقوّي به قول الفقهاء الذين يرون إنّه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها ، إلاّ إذا تعيّنت مرضعاً ، بأن كان لا يقبل غير ثديها كما يعهد من بعض الأطفال ، أو كان الوالد عاجزاً عن استئجار ظئر ترضعه ، أو قدر ولم يجد الظئر ، على إنّ هؤلاء الفقهاء لم يروا جعل الخبر بمعنى الأمر مانعاً من حكمهم هذا ، فقد حملوه على الندب في حال الإختيار ، قالوا : لأنّ لبن الأمّ أنفع للولد من لبن الظئر ، وخاصّة إذا لم يكن ولد الظئر في سنّه ، والظاهر أنّ الأمر للوجوب مطلقاً ، فالأصل إنّه يجب على الأمّ إرضاع ولدها واختاره الأستاذ الإمام ، يعني إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه ، ولا يمنع الوجوب جواز إستنابة الظئر عنها مع أمن الضرر ؛ لأنّ هذا الوجوب للمصلحة لا للتعبّد ، فهو كالنفقة على القريب بشرطها ، فإذا اتّفق الوالدان على استئجار ظئر ورأيا أنّها تقوم مقام الوالدة فلا بأس كما في مسألة الفصال الآتية . كما يجب على الأمّ إرضاع ولدها ، يجب لها ذلك ، بمعنى أنه ليس للوالد أن يمنعها منه ، ولأن يمنع الرجل مطلّقته من إرضاع ولدها منه إن أبيح له ذلك ، أقرب من أن تمتنع هي عن إرضاعه ، وكان الذي يتبادر إلى فهمي أنّ المقصود من الجملة أولا وبالذات هو أنّ من حقوق الوالدات أن يرضعن أولادهنّ ، وما المطلّقات إلاّ والدات فيجب تمكينهنّ من إرضاع أولادهنّ المدّة التامّة للرضاع ، وهي كما حدّدها فيرضعنّهم { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } والحول العام والسنة ، وهو في الأصل مصدر حال يحول إذا مضى ، وإذا تغيّر وتحوّل ، فالعام والحول يطلقان على صيفة وشتوة كاملتين ، وأمّا السنة فهي تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله اهـ . ملخّصاً من المصباح . وقد حدّدت مدّة الرضاعة التامّة بسنتين كاملتين مراعاة للفطرة بالنسبة إلى ضعف الأطفال في أقلّ البيوت أو البيئات إستعداداً للعناية بالتربية ، واللبن : هذا الغذاء الموافق لكلّ طفل في هذه المدّة ، وهذه المدّة هي التي تثبت بها حرمة الرضاعة في النكاح ، ومن العجب أن ترى الفقهاء اختلفوا في مدّة الرضاعة بعد تحديد الله سبحانه لها ، فقال بعضهم هي ثلاثون شهراً ، وقال بعضهم ثلاث سنين ، ولكن الجماهير على أنّ مدّتها التامّة لا تزيد على حولين كاملين ، وقد تنقص إذا رأى الوالدان ذلك ؛ لأنّ قوله تعالى : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } أجاز الإقتصار على ما دون الحولين ولم يحدّد أقل المدّة ، بل وكّله إلى اجتهاد الوالدين الذي تراعى فيه صحّة الطفل ، فمن الأطفال السريع النمو الذي يستغني عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين بعدّة أشهر ، ومنهم القميء البطيء النمو الذي لا يستغني عن ذلك ، وقد استنبطوا من قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] أقلّ مدّة الحمل بناءً على إنّ الحولين أكثر مدّة الرضاعة فإنّ ما يبقى بعد طرح شهور الحولين من ثلاثين شهراً هو ستّة أشهر ، وهي أقلّ مدّة الحمل . روي هذا عن علي وابن عبّاس رضي الله عنهما وقالوا : لعلّ الحكمة في تحديد المدّتين - أكثر الرضاعة وأقلّ الحمل - هي إنضباطهما دون ما يقابلهما . وقد يُقال إنّنا نطرح مدّة الحمل الغالبة ، وهي تسعة أشهر من مجموع مدّة الحمل والفصال وهي ثلاثون شهراً ، فالباقي وهو واحد وعشرون شهراً ينبغي أن يكون أقلّ مدة الرضاعة ، والظاهر أنّ معنى قوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } ذلك لمن أراد إتمامها ، ولذلك قلنا إنّ الأمر موكول إلى إجتهاد الوالدين ، فاللام متعلّق بمحذوف ، وقيل إنّه متعلّق بقوله { يُرْضِعْنَ } أي أنّهن يرضعن هذه المدّة لمن أراد إتمامها من المولود لهم وهم الآباء ، فيكون الأمر لهم في ذلك خاصّة ، وسيأتي ترجيح الأول في قوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } . { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } المولود له هو الأب ، ووجه إختيار هذا التعبير على لفظ الوالد والأب ، هو الإشعار بأنّ الأولاد لآبائهم ، لهم يدعون وإليهم ينسبون ، وأنّ الأمّهات أوعية مستودعة لهم كما قال المأمون : @ وإنّما أمّهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء @@ وهذا الذي قاله المأمون لا يصحّ إلاّ على العرف الجاهلي ، وهداية الإسلام إنّ الولد لوالديه يتقاسمان تربيته بحسب فطرة كلّ منهما ، وحقوق الزوجية التي تقدّم بيان حظّ كلّ منهما فيها ، فالتعبير بالمولود له مقابل التعبير بالوالدات ، واختير للتنبيه على علّة وجوب النفقة ، كأنّه يقول إنّ هؤلاء الوالدات قد حملن وولدن لك أيّها الرجل ، وهذا الولد الذي يرضعنه ينسب إليك ، ويحفظ سلسلة نسبك من دونهنّ ، فعليك أن تنفق عليهنّ ما يكفيهنّ حاجات المعاش من الطعام واللباس ليقمن بذلك حقّ القيام ، فاختيار لفظ " المولود له " هنا على لفظ الأب والوالد هو الذي تقضي به البلاغة قضاءً مبرماً ، وبه يستفاد ما لا يستفاد بهما ، وأين نجد هذه الدقّة في غير القرآن العزيز ؟ والمراد بكون هذه النفقة بالمعروف ، أن تكون كافية لائقة بحال المرأة في قومها وصنفها ، لا تلحقها غضاضة في نوعها ولا في كيفية أدائها إليها ، وتقدّم إنّ هذا يرجّح أنّ المراد بالوالدات المطلّقات منهنّ ، وقد عبّر عن النفقة هنا بالرزق والكسوة الواجبين للمرأة بمقتضى الزوجية ، دون الأجرة ، حتّى لا يتوهّم إنّ كلّ والدة تجب لها الأجرة على إرضاع ولدها ؛ لأنّ الكلام بدئ بلفظ { وَٱلْوَالِدَاتُ } وأمّا في سورة الطلاق ، فقد عبّر بلفظ الأجرة إذ قال : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] لأنّ الكلام هناك في المطلّقات لا يحتمل غيره ، فلا إبهام في اختيار اللفظ الأخير ، ولو توجّه الذهن إلى فهم الآية غير مثقل بأقوال الفقهاء لما فهم غير هذا منها ، ومن فهمها مجرّدة غير محمولة على مذهب معيّن ، لا يحتاج إلى الكلام في جواز استئجار الأمّ للرضاع مطلقاً وعدمه ، وهي في النكاح أو العدّة ، إذ المتبادر من الآية أنّ الأمّ يجب عليها إرضاع ولدها عند عدم المانع الشرعي ، ويجب لها ذلك أيضاً كما تقدّم آنفاً ، وأنّ المطلّقات إذا كنّ والدات ، يجب أن ينفق عليهنّ مدّة الإرضاع لما تقدّم ، وهنّ في هذه المدّة إمّا بائنات ولعلّه الأكثر لندرة طلاق أمّ الطفل ، ولا خلاف في جواز استئجارهنّ حينئذٍ ، وإمّا معتدات تجب لهنّ النفقة لعدم خروجهنّ من عصمة النكاح وقد استشكلوا استحقاق هؤلاء الأجرة على الإرضاع ، ولا إشكال في وجوب الشيء بسببين ، ولا تكرار في نصّي الوجوب ؛ لأنّ كلّ واحد منهما جاء في موضعه ، وله صورة ينفرد بها ، إذ المعتدة قد تكون والدة وغير والدة ، والمرضع تكون بائنة ومعتدة ، وكلّ منهما مشغولة بمصلحة الرجل المطلق شغلا يمنعها من زواج يغنيها عن نفقته ؛ لأنّ المرضع قلّما يرغب فيها وقلّما ترغب هي في الزواج ، ثمّ إنّها لا تستحقّ ولدها إذا تزوّجت . ولمّا كان المكلّفون من الرجال يتفاوتون في الإعسار والإيسار بالنفقة ، فمنهم من لا يقدر على اللائق بالمرأة في عرف الناس ، ومنهم من يقدر على أكثر من ذلك : عقّب تعالى هذا الأمر بقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } فسّر بعضهم الوسع بالطاقة وهو غلط ؛ لأنّ الوسع ضدّ الضيق ، وهو ما تتّسع له القدرة ولا يبلغ إستغراقها ، وأمّا الطاقة فهي آخر درجات القدرة ، فليس بعدها إلاّ العجز المطلق كأنّها آخر طاقة - أي فتلة من الطاقات التي يتألّف منها الحبل ، والمعنى إنّ المطلوب التوسّع في النفقة من السعة أي بحيث لا ينتهي إلى الضيق . وقد بسط هذا الإيجاز في سورة الطلاق بقوله تعالى في هذا المقام : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [ الطلاق : 7 ] . { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ( لا تضارّ ) بالضم تبعاً لقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } والباقون بالفتح ، وكلاهما جائز في اللغة ، وهو نهي عن المضارّة صريح ، والأول نهي في المعنى خبر في اللفظ ، وقالوا : إنّ الكلام تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم . والصواب : إنّه يفيد مع تعليل الأحكام السابقة حكماً جديداً عامّاً ، فمنع الرجل المرأة من إرضاع ولدها وهي له أرأم ، وبه أرأف ، وعليه أحنى وأعطف ، إضرار بها بسبب ولدها ، والتضييق عليها في النفقة مع الإرضاع إضرار بها بسبب ولدها ، وامتناعها هي من إرضاعه تعجيزاً للوالد بالتماس الظئر أو تكليفه من النفقة فوق وسعه ، إضرار به بسبب ولده ، فالعلّة في الأحكام السابقة ، منع الضرار من الجانبين ، لإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه بالمعروف ، وهو يتناول تحريم كلّ ما يأتي من أحد الوالدين للإضرار بالآخر ، كأن تقصّر هي في تربية الولد البدنية أو النفسية لتغيظ الرجل ، وكأن يمنعه هو من أمّه ولو بعد مدّة الرضاع أو الحضانة ، فالعبارة نهي عام عن المضارّة بسبب الولد ، لا يقيّد ولا يخصّص بوقت دون وقت ، أو حال دون حال ، أو شخص دون شخص . وكلمة " تضارّ " تحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول ، وهي للمشاركة ، وإنّما أسندت إلى كل واحد من الوالدين ؛ للإيذان بأنّ إضراره بالآخر بسبب الولد إضرار بنفسه ، ومنه أنّه يتضمّن ضر الولد أو يستلزمه ، وكيف تحسن تربية ولد بين أبوين همّ كلّ واحد منهما إيذاء الآخر وضرره به ؟ والنهي عن المضارّة في هذا المقام يؤيّد القول بأنّ الكلام في الوالدات المطلّقات كما تقدّم . أمّا قوله : { وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ } فمعطوف على قوله : { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } وما بينهما معترض للتعليل أو التفسير لما قبله من كون ذلك بالمعروف ، وإن أفاد حكماً جديداً . وقد اختلفوا في الوارث ، هل هو وارث المولود له ، أي الأب ؛ لأنّ الكلام فيه ؟ أو وارث الولد ؛ لأنّه وليّه تجب عليه نفقته ؟ واختلف القائلون بأنّ المراد وارث الأب ، هل هو عام أو خاص بعصبته ، أو بالولد نفسه ؟ أي إنّ نفقة إرضاعه تكون من ماله إن كان له مال وإلاّ فهي على عصبته . وقال بعضهم إنّ المراد بالوارث وارث الصبي من الوالدين ، أي وإذا مات أحد الوالدين فيجب على الآخر ما كان يجب عليه من إرضاعه والنفقة عليه . وكلّ يحتمله اللفظ ، ولعلّ الحكمة في هذا التعبير أن يتناول كلّ ما يصحّ تناوله إيّاه . { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } الفصال : الفطام ؛ لأنّه يفصل الولد عن أمّه ، ويفصلها عنه فيكون مستقلا في غذائه دونها ، والمراد إنّه لمّا كان ما ذكر من تحديد مدّة الرضاعة وكون الحقّ فيها للوالدة ، وكونها تستحقّ الأجرة عليها إذا كانت مطلّقة ، كلّ ذلك لدفع الضرار وتقرير المصلحة لا للتعبّد ، كان للوالدين صاحبي الحقّ المشترك في الولد والغيرة الصحيحة عليه أن يفطماه قبل هذه المدّة أو بعدها ، إذا اتّفق رأيهما على ذلك بعد التشاور فيه ، بحيث يكونان راضيين غير مضارّين به . وأقول : إذا كان القرآن يرشدنا إلى المشاورة في أدنى أعمال تربية الولد ، ولا يبيح لأحد والديه الإستبداد بذلك دون الآخر ، فهل يبيح لرجل واحد أن يستبدّ في الأمّة كلّها ؟ ! وأمر تربيتها وإقامة العدل فيها أعسر ، ورحمة الأمراء أو الملوك دون رحمة الوالدين بالولد وأنقص ؟ وقال أبو مسلم : يحتمل الفصال معنى آخر ، وهو إيقاع المفاصلة بين الأمّ والولد ، أي بأن ترضى هي بضمّه إلى أبيه يستأجر له ظئراً ترضعه ويرضى هو بذلك لا يضارّ به أحدهما الآخر ، وبهذه المناسبة مناسبة الحكم بأنّ الحقوق والواجبات المتعلقة بالولد مشتركة بين والديه ، ولهما الخيار في تقرير ما فيه المصلحة بالتراضي مع انتفاء الضرر ، أو مناسبة جواز فصل الطفل عن أمّه برضاها ، ذكر حكم المسترضعات وهن الأظآر اللواتي يرضعن بالأجرة فقال : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ } يقال استرضعت المرأة الطفل ، إذا اتّخذتها مرضعاً له ، ويحذفون أحد المفعولين للعلم به ، فيقولون استرضعت الطفل ، كما يقولون استنجحت الحاجة من غير ذكر من استنجح ، والمعنى إن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ } قال قتادة والزهري : أي إذا سلّمتم ما آتيتم من إرادة الإسترضاع ، أي سلّم كلّ واحد من الأبوين ورضي ، بأن كان ذلك عن اتّفاق منهما وقصد خير ، وإرادة معروف من الأمر ، فالخطاب عام للوالدين والوالدات على سبيل التغليب ، كذا في فتح البيان . أو إذا سلّمتم ما أردتم إيتاءه المراضع من الأجور بالمعروف ، أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً وعادةً . وقال الأستاذ الإمام : المراد به إعطاء الأجرة المتعارفة وهي ما يسمّيه الفقهاء أجر المثل ، وفي هذا الشرط مصلحة المرضع ومصلحة الولد والوالد ؛ لأنّ المرضع إذا لم تعامل المعاملة الحسنة المرضية بأخذ أجرها تامّاً ، لا تهتمّ بمراعاة الطفل ولا تعنى بإرضاعه في المواقيت المطلوبة وبنظافته وسائر شأنه ، وإذا أوذيت يتغيّر لبنها فيكون ضارّاً بالطفل ، والقول الأوّل مؤيّد وموافق لما علم من كون الأمّ أحق بإرضاع ولدها كما تقدّم ، والثاني لا يعارضه ؛ لأنّ الخطاب فيه يصحّ أيضاً أن يكون للآباء والأمّهات جميعاً ، والسكوت عن التصريح بالتراضي والتشاور بين الوالدين للعلم به ، وهو يشمل ما إذا كان هناك مانع منع الأمّ من الإرضاع كمرض أو حبل ، وقرأ ابن كثير وحده ( أتيتم ) مقصورة الألف من أتى إليه إحساناً ، إذا فعله ، وروى شيبان عن عاصم ( أوتيتم ) أي آتاكم الله من الخير والمراد الأجرة ، كذا قالوا . والأقرب أنّ معناه إذا سلّمتم المراضع ما أوتيتم من الولد بالمعروف ، بأن يتّفق الوالدان أو أحدهما ، إن استقلّ بالولد مع المرضع ، على أن تأخذ الولد لإرضاعه بطريقة معروفة شرعاً وعادة مرضية لهما ولها . ثمّ ختم الآية بما يبعث على التزام أحكامها والمحافظة عليها فقال : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي التزموا ما ذكر من الأحكام ، مع توخّي حكمة كلّ منها ، واتّقوا الله في ذلك فلا تفرّطوا في شيء منها ، واعلموا علم اليقين أنّ الله بصير بما تعملون في هذا كلّه وغيره ، فهو يحصي لكم عملكم ويجازيكم عليه ، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بالتراضي والتشاور واجتناب المضارّة جعلهم قرّة أعين لكم في الدنيا وسبباً للمثوبة في الآخرة ، وإن اتّبعتم أهواءكم وعمد الوالد إلى مضارّة الوالدة به وعمدت هي إلى ذلك ، كان الولد بلاءً وفتنة لهما في الدنيا ، وكانا بعملهما السيئ في أنفسهما وولدهما مستحقّين لعذاب الآخرة . قال الأستاذ الإمام : جاء الأمر الإلهي بإرضاع الأمّهات أولادهنّ على مقتضى الفطرة ، فأفضل اللبن للولد لبن أمّه باتّفاق الأطبّاء ، أي لأنّه قد تكوّن من دمها في أحشائها ، فلمّا برز إلى الوجود ، تحوّل اللبن الذي كان يتغذّى منه الرحم إلى لبن يتغذّى منه في خارجه ، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه ، وقد قضت الحكمة بأن تكون حالة لبن الأمّ في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنّه ، ولذلك كان ممّا ينبغي أن يراعى في الظئر ، أن تكون سنّ ولدها كسنّ الطفل التي تتّخذ مرضعاً له . وقال الأستاذ الإمام : إنّ لبن المرضع يؤثّر في جسم الطفل وفي أخلاقه وسجاياه ؛ ولذلك يحتاط في انتقاء المراضع ، ويجتنب إسترضاع المريضة والفاسدة الأخلاق والآداب ، ولكن لا يخشى من لبن الأمّ ، وإن كان بها علّة في بدنها ، أو في أخلاقها لأنّ ما يأخذه من طبيعتها فإنّما يأخذه وهو في الرحم ، فاللبن لا يزيده شيئاً ، وهذا الذي قاله هو الأصل ، وهو لا ينافي أن تمنع الأمّهات من الإرضاع أحياناً لسبب عارض في البدن أو النفس وهذا نادر ، وأمّا التدقيق في صحّة المرضع وفي أخلاقها فيجب أن يكون مطرداً إذا كانت ظئراً لا أمّاً . قال : اللبن يخرج من دم المرضع ويمتصّه الولد فيكون دماً له ينمو به اللحم ، وينشز العظم ، فهو يشرب منها كلّ شيء من حسن وقبيح ، وقد لوحظ إنّ من يرضع من لبن الأتان يغلظ قلبه ، وكذلك لبن كلّ حيوان يؤثّر على حسب حاله ، ولكن حياة الإنسان نفسية عقلية أكثر ممّا هي بدنية ، فجسمه مسخّر لشعوره وعقله ، لذلك كان تأثير الإنفعالات والصفات النفسية من المرضع في الرضيع أشدّ من تأثير الصفات البدنية ، وقد لاحظنا أنّ صوت المرضع قد ظهر في الولد الذي كانت ترضعه ، فكيف بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية . وقد نبّه الفقهاء على هذا المعنى وحكاية إمام الحرمين فيه معروفة . أقول : ذكر المؤرّخون أنّ أبا محمّد الجويني ، والد إمام الحرمين الشهير ( واسمه عبد الملك ) كان ينسخ بالأجرة فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح ، وكان يطعمها منه إلى أن حملت بإمام الحرمين وهو مستمرّ على تربيتها الحسنة وتغذيتها بالحلال ، فلمّا وضعته أوصاها أن لا تمكّن أحداً من إرضاعه ، فاتّفق أن دخل عليها يوماً وهي متألّمة والصغير يبكي وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها فرضع منها قليلا ، فلمّا رأى ذلك شقّ عليه وأخذه إليه ونكّس رأسه ومسح على بطنه ، وأدخل إصبعه في فيه ، ولم يزل به حتّى قاء جميع ما شربه ، وهو يقول يسهل عليّ أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمّه ، ويحكى عن إمام الحرمين إنّه كان يلحقه بعض الأحيان فترة في مجلس المناظرة ، فيقول هذا من بقايا تلك الرضعة ، فانظر إلى هذه المبالغة في العناية بتربية الأطفال من هؤلاء الأئمّة ، وقابله بتهاون الناس اليوم في أمر الولدان في رضاعتهم وسائر شؤونهم ، حتّى إنّ الأمّهات اللواتي فطرهنّ الله تعالى على التلّذذ بإرضاع أولادهنّ والغبطة به ، قد صار نساء الأغنياء منهنّ يرغبن عنه ترفّعاً وطمعاً في السمن وبقاء الجمال ، أو ابتغاء سرعة الحمل ، وكلّ هذا مقاومة للفطرة ومفسدة للنسل وقد فطن له من عرف سنن الفطرة من الأمم المرتقية بالعلم والتربية حتّى بلغنا أنّ قيصرة الروسية ترضع أولادها وتحرّم عليهم المراضع . ألسنا نحن المسلمين أولى بهذه الآداب في الرضاع والتربية من غيرنا ؟ إن كانت الفطرة تقضي به فديننا دين الفطرة ، وإن كان العلم يدلّ عليه فقد علّمنا الله ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله ، ولم نعرف أنّ ديناً أرشد إلى ما أرشد إليه ديننا من ذلك ، وإن كانت القدوة هي التي يعول عليها ، فقد علمت ما كان من أئمّة علمائنا في ذلك ، فاللهم وفّق المسلمين إلى الاهتداء بهذا القرآن ، ليتحقّقوا بحقيقة الإسلام والإيمان .