Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 234-235)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لا يزال الكلام في أحكام النساء من حيث هنّ أزواج يمسكن ويسرحن ، فيراجعن أو يبتتن ، وفي حقوقهنّ حينئذٍ في أولادهنّ ، وكلّ هذا قد مرّ تفسيره وقد ذكر في هاتين الآيتين أحكام من يموت بعولتهنّ ماذا يجب عليهنّ من الحداد والاعتداد ، ومتى تجوز خطبتهنّ ومتى يتزوّجنّ . قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } أي يتوفّاهم الله تعالى ، أي يقبض أرواحهم ويميتهم ، قال تعالى : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] فإذا حذف الفاعل ، أسند الفعل إلى المفعول وهذا هو المستعمل الفصيح . { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } أي يتركون زوجات ، والفصيح إستعمال لفظ الزوج في كلّ من الرجل وامرأته ، ويجمع في الإستعمال على أزواج ، قال تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] والزوج في الأصل العدد المكوّن من إثنين ، وقد اعتبر في تسمية كلّ من الرجل وامرأته " زوجاً " إنّ حقيقته من حيث هو زوج مكوّنة من شيئين اتّحدا فصارا شيئاً واحداً ، في الباطن ، وإن كانا شيئين في الظاهر ، ولذلك وضع لهما لفظا واحد ليدلّ على أنّ تعدّد الصورة لا ينافي وحدة المعنى ، أُريد أنّ هذا اللفظ المشترك يشعر بأنّ من مقتضى الفطرة أن يتّحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها ، بتمازج النفوس ووحدة المصلحة ، حتّى يكون كلّ منهما كأنّه عين الآخر . وقوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } خبر لما قبله ، أي يتربصنّ بعد وفاتهم هذه المدّة ، وتقدّم الكلام في مثله في تفسير قوله عزّ وجلّ : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [ البقرة : 228 ] فارجع إليه إن كنت نسيت ما في التعبير من آيات البلاغة ، والمعنى : إنّ عدّة النساء اللاتي يموت أزواجهنّ أربعة أشهر وعشر ليال ، لا يتعرضنّ فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل بغير عذر شرعي ، ولا يواعدن الرجال بالزواج ، وقد يتعارض هذا مع قوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] فهل يقال إنّ ما هنا خاص بغير الحوامل ؟ أم ما هنالك خاصّ بالمطلّقات ؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ الكلام هنالك في الطلاق والسورة سورته فهو خاصّ ، والآية التي نحن بصدد تفسيرها عامّة في كلّ من يتوفّى زوجها ؛ لأنّ الله تعالى جعل عدّتها طويلة ، وفرض عليها الحداد على الزوج مدّة العدّة ، مع تحريم السنّة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيّام اهتماماً بحقوق الزوجية وتعظيماً لشأنها ، ولكن الجمهور على القول الأوّل ، وأنّ الحامل التي يموت زوجها إذا وضعت تنقضي عدّتها ولو بعد الموت بيوم أو ساعة ، واحتجّوا بحديث سبيعة الأسلمية عند أبي داود فإنّها قالت : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها بأنّها حلّت حين وضعت حملها ، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر ، ويروى عن علي وابن عبّاس رضي الله عنهما أنها تعتدّ بأقصى الأجلين إحتياطاً ، فأي آية كانت عند الله هي المخصّصة للأُخرى كانت عاملة بها ، ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام جزماً بقول من هذه الأقوال ، ولكن الإحتياط الذي قال به الحبران لا ينكره منكر . وقد سئل الأستاذ الإمام في الدرس عن الحكمة في كون عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشراً ، فأجاب إنّ مثل هذا ليس علينا أن نبحث عنه وإنّما نبحث عمّا يشير الكتاب إلى حكمته إشارة ما ، ويقول بعض الناس إنّ ما يحصل من فراق الزوج من الحزن والكآبة عظيم يمتدّ إلى أكثر من مدّة ثلاثة قروء أو ستّين يوماً ، فبراءة الرحم إن كانت تعرف بهذه المدّة ، فلا يكون إستعراف براءته من الحمل مانعاً من الزواج ، فبراءة النفس من كآبة الحزن تحتاج إلى مدّة أكثر منها ، والتعجّل بالزواج ممّا يسيء أهل الزوج ويفضي إلى الخوض في المرأة بالنسبة إلى ما ينبغي أن تكون عليه من عدم التهافت على الزواج ، وما يليق بها من الوفاء للزوج والحزن عليه . هذا ما حكاه عن بعض الناس جليناه وزدناه توضيحاً فكان بياناً لحكمة الزيادة في عدّة الوفاة على عدّة الطلاق في الجملة ، لا لكونها أربعة أشهر وعشراً . وقد سئلنا عن هذه الحكمة فأجبنا بجواب ذكر في المنار واطّلع عليه الأستاذ الإمام فلم ينكره . قلنا بعد بيان حكمة العدّة وما يجب من حداد المرأة على زوجها ما نصه : " وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ الحكمة في تحديد عدّة الوفاة بهذا القدر إنّه هو الزمن الذي يتمّ فيه تكوين الجنين ونفخ الروح فيه ، ولا بدّ من مراجعة الأطباء في هذا القول قبل تسليمه . والظاهر لنا إنّ الزيادة لأجل الإحداد ولم يظهر لنا شيء قوي في تحديده ، ولكن هناك احتمالات منها : إنّه ربّما كان من عرف العرب أن لا ينتقد على المرأة إذا تعرّضت للزواج بعد أربعة أشهر وعشر من موت زوجها ، فأقرّهم الإسلام على ذلك ؛ لأنّه من مسائل العرف والآداب التي لا ضرر فيها ، وقد كان من المعروف عندهم إنّ المرأة تصبر عن الزوج بلا تكلّف من أربعة أشهر وتتوق إليه بعد ذلك . ويروى أنّ عمر أمر أن لا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته . وإذا صحّ أنّ هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الإحتياطية عشرة أيّام والله أعلم بالصواب " اهـ . وسيمرّ بك قريباً من ذكر بعض عادات العرب في الحداد على الزوج وشدّته ، وما أصلح الإسلام فيه ما يبطل التعليل الأول ، وظاهر الآية : إنّ هذا التحديد لعدّة الوفاة يشمل بعمومه الصغيرة والكبيرة ، والحرّة والأمة ، وذات الحيض واليائسة ، ولكنّ الفقهاء اختلفوا في أفراد من هذا الشمول ، كما اختلفوا في الحامل . فذهب الجماهير إلى أنّ عدّة الأمة نصف عدّة الحرّة " شهران وخمس ليال " ولم ينقلوا في هذا خلافاً إلاّ عن الأصمّ وابن سيرين من فقهاء السلف . والأصل في هذا هو القياس على الحدّ ، فإنّ الله تعالى يقول في سورة النساء بعد ذكر التزوّج بالإماء : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] وعلى حديث ابن عمر مرفوعاً عند ابن ماجه والدارقطني والبيهقي " طلاق الأمة إثنتان وعدّتها حيضتان " والحديث ضعيف ، في إسناده عمر بن شبيب وعطيّة العوفي ، وقال الدارقطني والبيهقي والصحيح إنّه موقوف ، واختلفوا أيضاً في عدّة أمّ الولد يموت سيّدها ، فقالت طائفة من علماء السلف عدّتها أربعة أشهر وعشر ، وقال آخرون تعتدّ بثلاث حيض وعليه الحنفية . وقال آخرون منهم الأئمّة الثلاثة عدّتها حيضة أو شهر إذا لم تكن تحيض . { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي أتممن عدّتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } ممّا كان محظوراً عليهنّ في العدّة من التزيّن ، والتعرّض للخطاب ، والخروج من المنزل ، وقيّد ذلك بالمعروف ، أي شرعاً وأدباً عرفياً ، لأنّهنّ إذا أتين بالمنكر وجب منعهنّ . واختلفوا في الخطاب هنا ، فقيل هو للأولياء ؛ لأنّ هذا من مقدّمات الزواج الذي يتولّونه ، وقيل للمسلمين كافّة يتولاّه منهم من هو قادر عليه من العارفين به ، وهو المختار كما علم ممّا سبق له من النظائر . لا تقل إنّ الآية لم تنطق بما يحظر على المرأة في هذه العدّة ، فنقول : إنّ نفي الجناح متعلّق به ، فإنّ ما علم من الناس بالسنّة المتّبعة ، والأخبار الصحيحة في أمر نزل فيه قرآن ، يتعيّن حمل القرآن عليه . روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن زينب بنت أمّ سلمة إنّها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت دخلت علي أمّ حبيبة حين توفي أبو سفيان ( والدها ) فدعت أمّ حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق وغيره فدهنت منه جارية ثمّ مسّت بعارضيها ، ثمّ قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً " قالت زينب : وسمعت أمّي أمّ سلمة تقول : " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ ابنتي توفّي زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا " مرّتين أو ثلاثاً - كلّ ذلك يقول : " لا " ثمّ قال : " إنّما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول " قال حميد فقلت لزينب : ما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيباً حتّى تمرّ بها سنة ، ثمّ تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتقتض به ، فقلّما تقتض بشيء إلاّ مات ، ثمّ تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثمّ تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره . وروى أحمد والشيخان من حديث أمّ سلمة " إنّ امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال : " لا تكتحل ، كانت إحداكن تمكث في أحلاسها أو شرّ بيتها فإذا كان حول فمرّ كلب رمت ببعرة - فلا ، حتّى تمضي أربعة أشهر وعشر " وفي رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك " ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالا لها " . فأنت ترى من هذه الأحاديث الصحيحة ، إنّ العرب على غلوّها في الحداد ، وكثرة منكراتها في النوح والندب ، كانت تعتاد أموراً خرافية فيه ، وكانت المرأة تحدّ على زوجها شرّ حداد وأقبحه ، فتلزم شرّ أحلاسها في شرّ جانب من بيتها ، وهو الحفش سنة كاملة ، لا تمسّ طيباً ولا زينة ، ولا تبدو للناس في مجتمعهم ، ثمّ تخرج من ذلك بما علمت ، أمّا الأحلاس : فهي جمع حلس ( بكسر فسكون وبالتحريك ) وهو في الأصل ما يكون على الظهر تحت القتب أو السرج أو البرذعة ، ويطلق على الكساء الرقيق ، وعلى ما يجلس عليه من مسح ونحوه . والحفش بكسر المهملة : البيت الصغير المظلم داخل البيت ، ويسمّون مثله في الحجرات الآن " خزنة " والإقتضاض بالدابة بالقاف هو التمسّح بها ، قيل كانت تمسح به جلدها وقيل ما هنالك . قال ابن قتيبة سألت الحجازيين عن الإقتضاض فذكروا إنّ المعتدة كانت لا تمسّ ماء ولا تقلم ظفراً ولا تزيل شعراً ، ثمّ تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثمّ تقتض أي تكسر ما كانت فيه من العدّة بطائر تمسح به قبلها فلا يكاد يعيش ما تقتض به ، اهـ . والمراد إنّه يموت من نتنها ، وأمّا عادة مرور الكلب ورمي البعرة ، فظاهر الرواية إنّ المعتدة كانت في آخر العدة تنتظر مرور الكلب ، لترميه بالبعرة وإن طال الزمان ، وبه قال بعضهم ، وقيل بل ترمي بها ما عرض من كلب أو غيره ، وقالوا إنّ المعنى في ذلك عندهم إنّ ما فعلته من التربّص في تلك المشقّة والجهد هو عندها بمنزلة البعرة التي رمتها احتقارّاً له وتعظيماً لحقّ زوجها . وقيل هو إشارة إلى رمي العدّة والتفلّت منها . وقيل بل هو تفاؤل بعدم العودة إلى مثلها ، وتمنّي أن تموت في كنف من عساها تتزوّج به . إذا علمت هذا وأمثاله ممّا كانت عليه العرب من العادات السخيفة والخرافات الشائنة المهينة للمرأة ، يظهر لك شأن ما جاء به الإسلام من الإصلاح في ذلك ، إذ جعل العدّة على نحو الثلث ممّا كانت عليه ، ولم يحرّم فيها ، إلاّ الزينة والطيب ، والتعرّض لأنظار الخاطبين من مريدي التزوّج ، دون النظافة والجلوس في كلّ مكان من البيت مع النساء والمحارم من الرجال . وهذا الذي أمر به الإسلام يليق ويحسن في كلّ شعب وجيل في كلّ زمن وعصر ، لا يشقّ على بدو ولا حضر ، وقد رأيت أنّ سعة الدين وتكريمه للنساء قد كادت تنسي المسلمات ما لم يبعد العهد به من عادتهنّ وتخرج بهنّ من كلّ قيد ، حتّى استأذن من استأذن منهنّ بالكحل بحجّة الخيفة على العين من المره ، أو الرمد ، حتّى ذكّرهنّ صلى الله عليه وسلم بذلك . واستشكل في الحديث المنع من الكحل للتداوي كما هو ظاهر من قولها " فخشوا على عينها " مع ما علم من أصول الشريعة التي لا خلاف فيها من انتفاء العسر والحرج ، ومن كون الضرورات تبيح المحظورات ، وكون الضرر والضرار ممنوعين ، ومن الترخيص في الكحل للتداوي بالليل دون النهار - لأنّ الليل أبعد من مظنّة الزينة - في حديث الموطأ عن أمّ سلمة ، وفيه إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار " وحديث أبي داود " فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار " وأجيب عن حديث النهي المطلق بأجوبة منها حمله على كحل الزينة ، كأنّه علم بالقرينة إنّ السؤال كان عنه أو لأجله ، ومنها غير ذلك ممّا لا حاجة لاستيفائه هنا ، وينبغي أن نتذكّر أنّ الليل صار كالنهار في أمصارنا أو أشدّ إظهاراً للزينة . هذا ما جاء به الإسلام من الإصلاح في هذه المسألة الإجتماعية ، ومن أراد الاعتبار فلينظر إلى حظّ المسلمين اليوم من هديه فيها . المسلمون لا يسيرون اليوم على طريقة واحدة ، وإنّما هم طرائق قدد ، فمن نسائهم من يغلون في الحداد ، ويغرقن في النوح والندب والخروج من العادات في كيفية المعيشة بالبيوت ، حتّى يزدن في بعض ذلك على ما كان يكون من نساء الجاهلية ، وليس لهنّ في ذلك حدّ ولا أجل يتساوين فيهما ، ولا يخصّص الزوج بما خصّه به الشرع ، بل ربّما حددن على الولد سنة أو سنين ، وربّما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين ، يختلف ذلك فيهنّ باختلاف البلاد والطبقات والبيوت ، فإيّاكم نسأل أبناء العصر الجديد الذين يرون أنّ أنفسهم ارتقت في المدنية والإجتماع إلى أفق يستغنون فيه عن هدى الدين : هل تجدون لنا سبيلا إلى إصلاح هذه العادات الرديئة في الحداد الذي لا حدّ له ولا نظام ، ولا فائدة فيه لأحد ، بل كلّه غوائل بما يفني من المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون وغير ذلك ، وما يفسد من آداب المعاشرة ويسلب من هناء المعيشة ، وما يفعل في صحّة الكثيرين ، ولا سيّما ضعاف المزاج وأهل الأمراض ؟ أصلحوا لنا بعلومكم وفلسفتكم هذه العادات الرديئة بإرجاعها إلى ما قرّره الشرع من الحداد ثلاثة أيّام على القريب ، وأربعة أشهر وعشراً على الزوج ، ويجعل هذا الحداد مقصوراً على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من البيت ، أو بما هو خير من ذلك إن أمكن ، وإلاّ فاعلموا أن لا صلاح لنا ، إلاّ بالاعتصام بهدي الدين الذي تحاربونه كلّ ساعة بأعمالكم وخلالكم ، وعاداتكم ولذّاتكم ، وما تحاربون إلاّ أنفسكم وما تشعرون . { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } محيط بدقائق عملكم لا يخفى عليه منه شيء ، فإذا ألزمتم النساء الوقوف معكم عند حدوده أصلح أحوالكم ، ورفّه معيشتكم في الدنيا ، وأحسن جزاءكم في الآخرة ، وإن لم تفعلوا أخذكم في الدارين أخذاً وبيلا { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] . ومن مباحث اللفظ في الآية ، أنّ الفصيح المستعمل في التعبير عن الموت بالتوفّي أن يقال توفّي فلان بالبناء للمفعول ، وعليه القراءة المتوتّرة في الآية : { يُتَوَفَّوْنَ } وقرئ في الشواذّ عن علي ( يتوفّون ) بالبناء للفاعل ، وفسّر بيستوفون آجالهم ، فإنّ معنى التوفّي أخذ الشيء وقبضه وافياً تاماً ، وكانوا يعدّون التعبير عن الميّت بالمتوفّي بصيغة اسم الفاعل لحناً ؛ لأنّه مقبوض لا قابض ، كما روي عن أبي الأسود الدؤلي إنّه كان خلف جنازة فقال له رجل من المتوفّي ؟ فقال " الله تعالى " وكان هذا من أسباب أمر علي كرّم الله وجهه إيّاه بوضع بعض أحكام النحو . ومنها مسألة المطابقة بين المبتدأ وهو { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ } والخبر هو جملة { يَتَرَبَّصْنَ } فإنّها غير جلية على قواعد النحو ، وإن كان المعنى جليّاً ، والتأليف عربياً ، وقد قدّر بعضهم لفظ زوجات مضافاً محذوفاً أي : وزوجات الذين يتوفّون منكم يتربّصن إلخ . قال الأستاذ الإمام ولا لزوم له ، أي لأنّه لا يكون معه فائدة لقوله " ويذرون أزواجاً " مع ما فيه من التكلّف ، ويروون عن سيبويه أنّ الخبر محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم من حكم الذين يتوفّون منكم . ورجّح الأستاذ الإمام ما قاله الكسائي ومثله الأخفش ، وهو أنّ الرابط بين المبتدأ والخبر في مثل هذا التعبير ، هو الضمير العائد إلى الأزواج ، الذي هو من متعلّقات المبتدأ ، فهو راجع إلى المبتدأ كأنّه قال : " والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن أزواجهم أربعة أشهر وعشراً " قال : وهو ينطبق على استعمال اللغة ، وهناك وجه آخر يرجع إليه ، وهو صحّة الأخبار عن المبتدأ بما يرجع إليه كقول الشاعر : @ لعلّي إن مالت بي الريح ميلة إلى ابن أبي ذبيان أن يتندّما @@ فمراد الشاعر الإخبار عن تندّم ابن أبي ذبيان ، والإخبار في اللغة لا يراعى بها ، إلاّ صحّة المعنى وكونه مفهوماً كما تقدّم في تفسير { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } [ البقرة : 189 ] . ولمّا كان من شأن الراغبين في التزوّج بمن يتوفّى زوجها المسارعة إلى خطبتها ، بيّن الله للمؤمنين ما يتعلّق بذلك من الأحكام والآداب اللائقة بهم ، وبكرامة النساء في مدّة العدّة فقال : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } فالمراد بالنساء المعتدّات لوفاة أزواجهنّ ، قالوا : ومثلهنّ المطلّقات طلاقاً بائناً ، وأمّا الرجعيات فلا يجوز التعريض لهنّ ، لأنّهنّ لم يخرجن عن عصمة بعولتهنّ بالمرّة ، والتعريض في الأصل : إمالة الكلام عن منهجه إلى عرض منه وهو الجانب ، ويقابله التصريح ، فهو أن تفهّم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح يحتمله الكلام على بعد بمعونة القرينة ، وفي الكشّاف : هو أن تذكر شيئاً تدلّ به على شيء لا تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأُسلّم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم . أقول وللناس في كلّ عصر كنايات في هذا المقام ، وممّا سمعته من استعمال عامّة زماننا في هذا ، ذكر الرغبة في الزواج مسندة إلى أناس مبهمين ، نحو إنّ من الناس من يتمنّى لو يكون له كذا أو يوفّق إلى كذا ، والخطبة بالكسر : من الخطاب أو الخطب ، وهو الشأن العظيم ، وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس ، وأمّا الخطبة بالضمّ ، فهي ما يوعظ به من الكلام ، والإكنان في النفس : هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوّج بالمرأة بعد انقضاء العدّة ، أباح الله تعالى أن يعرّض الرجل للمرأة في العدّة بأمر الزواج تعريضاً ، وقرن ذلك بما يكون من النيّة في القلب والعزم المستكن في الضمير ، كأنّه مثّله في تعذّر الاحتراز منه أو تعسّره ، ولم يحرّم عليهم أن يقطعوا في هذا الأمر بأنفسهم ؛ لأنّ الأمر أمر ديني ، بل راعى فيما شرّعه لهم ما فطرهم عليه ولذلك ذكر وجه الرخصة فقال : { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } في أنفسكم ، وخطرات قلوبكم ليست في أيديكم ، ويشقّ عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن النطق لهنّ بما في أنفسكم ، فرخّص لكم في التعريض دون التصريح ، فقفوا عند حدّ الرخصة ، { وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } أي في السرّ فإنّ المواعدة السرّية مدرجة الفتنة ، ومظنّة الظنّة ، والتعريض يكون في الملأ لا عار فيه ولا قبح ، ولا توسّل إلى ما لا يحمد ، وذهب جمهور العلماء إلى أنّ السرّ هنا كناية عن النكاح أي لا تعقدوا معهنّ وعداً صريحاً على التزوّج بهنّ ، قال الأستاذ الإمام : عبّر عن النكاح بالسرّ ؛ لأنّه يكون سرّاً في الغالب . وروي عن ابن عبّاس إنّه قال : المواعدة سرّاً أن يقول لها : إنّي عاشق وعاهديني ألا تتزوّجي غيري ونحو هذا ، وقيل : هي المواعدة على الفاحشة . والدليل على إنّ النهي عام يراد به تحريم الكلام الصريح معها في الخلوة قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قيل : هو التعريض ، وقال الأستاذ الإمام : هو ما يعهد مثله بين الناس المهذّبين بلا نكير كالتعريض ، وهذا أقوى من التعريض . وجملة القول : إنّه لا يجوز للرجال أن يتحدّثوا مع النساء المعتدات عدّة الوفاة في أمر الزواج بالسرّ ويتواعدوا معهنّ عليه ، وكلّ ما رخّص لهم فيه هو التعريض الذي لا ينكر الناس مثله في حضرتهنّ ، ولا يعدونه خروجاً عن الأدب معهنّ ، والفائدة منه التمهيد وتنبيه الذهن ، حتّى إذا تمت العدة كانت المرأة عالمة بالراغب أو الراغبين ، فإذا سبق إلى خطبتها المفضول ردّته إلى أن يجيء الأفضل عندها ، وقد أوضح الأمر وسلك فيه مسلك الإطناب ؛ لأنّ الناس يتساهلون في مثل هذه الأمور لما لهم من دافع الهوى إليها ، ولذلك صرّح بما فهم من سابق القول من جواز القصد إلى العقد بعد تمام العدّة فقال : { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } أي على عقدة النكاح على حذف " على " ويقال : عزم الشيء وعزم عليه واعتزمه ، أي عقد ضميره على فعله ، أو المعنى لا تعقدوا عقدة النكاح وهو العزم المتّصل بالعمل لا ينفصل عنه { حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } أي حتّى ينتهي ما كتب وفرض من العدّة ، فالكتاب بمعنى المكتوب ، أي المفروض أو بمعنى الفرض ، قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] وقال : { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] وإنّما عبّر عن الفرضية المحتّمة بلفظ الكتاب ؛ لأنّ ما يكتب يكون أثبت وآكد وأحفظ ، وفسّر بعضهم الكتاب بالقرآن على أنّ المراد به العدّة أيضاً ، كأنّه قال حتّى يتمّ ما نطق به القرآن من مدّة العدّة ، والحاصل أنّ التزوّج بالمرأة في العدّة محرّم قطعاً ، ولأجله حرّمت خطبتها فيها والعقد باطل بإجماع المسلمين . ثمّ قال { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ } أي يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم ، فاحذروا أن تعزموا ما حظره عليكم منه ، من قول وعمل ، قال الأستاذ الإمام : هذا التحذير راجع للأحكام التي تقدّمت من التعريض وغيره ، جاء على أسلوب القرآن وسنّته في قرن الأحكام بالموعظة ترغيباً وترهيباً ، تأكيداً للمحافظة عليها والإلتفات إليها ، ولا يقال إنّ العلم بما في النفس أعمّ من الخبر بالعمل ، فيستغنى عن هذا بما ختمت به الآية السابقة ؛ لأنّ لكلّ كلمة ممّا ورد في هذا الكلام أثراً مخصوصاً في النفس ، والمقصود واحد ، وما دامت الحاجة ماسّة إلى شيء فلا يقال إنّ في الإتيان به تكراراً مستغنى عنه ، وإن كثر وتعدّد ، ولو بلغ الألوف بلفظه ، فكيف به إذا تنوّع بعموم أو خصوص أو غير ذلك ، وقوله : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } بعد ما ورد من الوعيد والتشديد في الآيات السابقة ، يبيّن أنّ للإنسان مخرجاً بالتوبة إذا هو تعدّى شيئاً من الحدود ، وأراد الرجوع إلى الله تعالى ، فإنّه غفور له ، حليم لا يعجلّ بعقوبته ، بل يمهله ليصلح بحسن العمل ، ما أفسد بما سبق من الزلل .