Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 245-245)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

القتال للدفاع عن الحقّ أو لحماية الحقيقة يتوقّف على بذل المال لتجهيز المقاتلة ولغير ذلك ، لا فصل في الحاجة إلى هذا بين البدو والحضر ، فإذا كانت مقاتلة القبائل البدوية لا تكلّف رئيسها أن يتولّى تجهيزها ، بل يجهّز كلّ واحد نفسه ، فكل واحد مطالب ببذل المال لتجهيز نفسه وإعانة من يعجز عن ذلك من فقراء قومه ، وأمّا دول الحضارة فهي تحتاج في الاستعداد للمدافعة والمهاجمة ما لا يحتاج إليه أهل البادية ، وقد كثرت نفقات الدول الحربية اليوم بارتقاء الفنون العسكرية ، وتوقّف الحرب على علوم وفنون وصناعات كثيرة من قصّر فيها كان عرضة لسقوط دولته . لهذا قرن الله تعالى الأمر بالقتال ، بالحثّ على بذل المال ، فالمراد بالبذل هنا ما يعين على القتال ، وما هو بمعناه من كلّ ما يعلي شأن الدين ، ويصون الأمّة ويمنعها من عدوان العادين ، ويرفع مكانتها في العالمين . وقد ذكر حكم هذا الإنفاق في سبيل الله بعبارة تستفزّ النفوس ، وأسلوب يحفّز الهمم ، ويبسط الأكفّ بالكرم ، فقال : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } فهذه العبارة أبلغ من الأمر المجرّد ، ومن الأمر المقرون ببيان الحكمة ، والتنبيه إلى الفائدة ، والوجه في إختيار هذا الأسلوب هنا على ما قرّره الأستاذ الإمام : أنّ الداعية إلى البذل في المصالح العامّة ضعيفة في نفوس الأكثرين ، والرغبة فيه قليلة ، إذ ليس فيه من اللذّة والأريحية ما في البذل للأفراد ، فاحتيج فيه للمبالغة في التأثير . يدفع الغني إلى بذل شيء من فضل ماله لأفراد ممّن يعيش معهم أمور كثيرة ، منها إزالة ألم النفس برؤية المعوزين والبائسين ، ومنها اتّقاء حسد الفقراء ، وإكتفاء شرّ شرارهم ، والأمن من إعتدائهم ، ومنها التلذّذ برؤية يده العليا ، وبما يتوقّعه من إرتفاع المكانة في النفوس ، وتعظيم من يبذل لهم وشكرهم وحبّهم ، فإنّ السخي محبّب إلى جميع الناس من ينتفع منهم بسخائه ومن لا ينتفع ، وإذا كان البذل إلى ذوي القربى أو الجيران ، فحظّ النفس فيه أجلى ، وشفاء ألم النفس به أقوى ، فإن ألم جارك وقريبك آلم لك ، ويتعذّر على الإنسان أن يكون ناعماً بين أهل البؤس والضرّاء ، سعيداً بين الأشقياء ، فكلّ هذه حظوظ للنفس في البذل للأفراد ، تسهّل عليها امتثال أمر الله فيه وإن لم يكن مؤكّداً . وقد يكون فيها من الرياء وحبّ السمعة ما ينافي كونها قربة وتعبّداً . وأمّا البذل الذي يراد هنا - وهو البذل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته ، وحفظ حقوق أهله - فليس فيه شيء من تلك الحظوظ التي تسهل على النفس مفارقة محبوبها ( المال ) إلاّ إذا كان تبرّعاً جهرياً يتولّى جمعه بعض الحكّام والأمراء ، أو يجمع بأمر الملوك والسلاطين ، ولذلك يقلّ في الناس من يبذل المال في المصالح العامّة لوجه الله تعالى ، فلهذا كان المقام يقتضي مزيد التأكيد ، والمبالغة في الترغيب ، وليس في الكلام ما يدرك شأو هذه الآية في تأثيرها ، ولا سيّما موقعها هذا بعد بيان سنّة الله تعالى في موت الأمم وحياتها . حسبك إنّه تعالى جعل هذا البذل بمثابة الإقراض له ، وهو الغني عن العالمين الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ، وإنّما يقترض المحتاج ، وأنّه عبّر عن طلبه بهذا الضرب من الاستفهام ، المستعمل للإكبار والاستعظام ، فإنّه إنّما يقال من ذا الذي يفعل كذا ؟ في الأمر الذي يندر أن يقدم عليه أحد . يقال من ذا الذي يتطاول إلى الملك فلان ؟ أو من ذا الذي يعمل هذا العمل وله كذا ؟ إذا كان عظيماً أو شاقّاً يقلّ من يتصدّى له ، قال تعالى : { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وقال : { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 17 ] الآية ، ولا يقال من ذا الذي يشرب هذه الكأس المثلوجة - وهجير الصيف متّقد ، والسموم تلفح الوجوه - ؟ وأنّه لم يكتف بتسميته إقراضاً وبالتعبير عنه بهذا الاستفهام ، حتّى قال : { فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } ذلك أنّ الإقراض هو أن تعطي إنساناً شيئاً من المال على أن يرد إليك مثله ، فالتعبير بالإقراض يقتضي أنّ القرض لا يضيع ، وليس هذا بكاف في الترغيب الذي تقتضيه الحال هنا ، فصرّح بأنّه لا يرد مثله ، بل أضعاف أضعافه من غير تحديد ، وقد قال في مقام آخر : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [ سبأ : 39 ] وهو كاف هناك لما علمت من الفصل بين المقامين ، والتفاوت بين الناس في الحالين ، وإنّك لتجد الناس على هذا التأكيد في الترغيب قلّما يجودون بأموالهم في المصالح العامّة { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] . قال الأستاذ الإمام : معلوم أنّ الله تعالى غني عن العالمين ، فلا يحتاج إلى شيء لذاته ، ولا هو عائل لجماعة معينين فيقترض لهم ، فلا بدّ لهذا التعبير بالإقراض من وجه صحيح - أي غير ما يعطيه الأسلوب من الترغيب - فما هذا الوجه ؟ ورد في الحديث إنّ الفقراء عيال الله على الأغنياء ؛ لأنّ الحاجات التي تعرض لهم يقضيها الأغنياء . ومعنى كونهم عيال الله : إنّ ما أصابهم من الفاقة والعوز إنّما كان بالجري على سنن الله في أسباب الفقر ، وللفقر أسباب كثيرة منها الضعف والعجز عن الكسب ومنها إخفاق السعي ، ومنها البطالة والكسل ، ومنها الجهل بالطرق الموصلة ، ومنها ما تسوقه الأقدار من نحو حركات الرياح واضطراب البحار واحتباس الأمطار ، وكساد التجارة ورخص الأسعار ، والأغنياء متمكّنون من إزالة بعض هذه الأسباب أو تدارك ضررها وإضعاف أثرها ، كإزالة البطالة بإحداث أعمال ومصالح للفقراء ، وإزالة الجهل بالإنفاق على التعليم والتربية - تعليم طرق الكسب والتربية على العمل والاستقامة والصدق . وإذا كان فقر الفقير إنّما هو بالجري على سنّة من سنن الله ، فإزالة سبب فقره أو مساعدته عليه أو فيه ، إنّما يجري على سنّة من سننه تعالى أيضاً كما أنّ غنى الغني كذلك ، فالإنفاق لإحياء سنّة الله ومساعدة من ينتسبون إلى الله تعالى على أنّهم عياله ، إذ لا غنى لهم بكسبهم ولا حول لهم ولا قوّة ينزل منزلة الإقراض له تعالى ، فالفقراء عيال ، والله يعولهم بأيدي الأغنياء ، ويعول الأغنياء بتوفيقهم لأسباب الغنى . أقول : هكذا وجّه العبارة رحمه الله تعالى ، بعد أن قال إنّ الحث على الإنفاق في هذه الآية يراد به الإنفاق في المصلحة العامّة لا مواساة الفقير ، فكأنّه أراد أن يبيّن صحة التعبير في نفسه حيثما ورد ، وإن استعمل في مقام آخر كقوله تعالى : { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [ التغابن : 17 ] ودخل فيما ذكره بعض المصالح العامّة ، وهو ينطبق على سائرها ، فإنّ القتال لحماية الدين وتأمين دعوته ، وللدفاع عن الأنفس والبلاد ، هو من سنن الله تعالى في الإجتماع البشري ، فالإنفاق فيه يصحّ أن يسمّى إقراضاً لله تعالى باعتبار إقامة سنّته به على وجه الحق الذي يرضيه جلّ شأنه ، وقد كنت أزيد مثل هذا البحث فيما أكتبه وأسنده إليه في حياته إعتماداً على إجازته مع كونه ممّا يقتضيه قوله . ثمّ قال روّح الله روحه ما مثاله : والتعبير عن الإنفاق بالإقراض الذي يشعر بحاجة المستقرض إلى المقرض - عادةً - جدير بأن يملك قلب المؤمن ويحيط بشعوره ويستغرق وجدانه ، حتّى يسهل عليه الخروج من كلّ ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياء منه ، فكيف وقد وعد بردّه مضاعفاً أضعافاً كثيرة ووعده الحقّ ؟ هذا التعبير بمثابة الهزّ والزلزال لقلوب المؤمنين ، فقلب لا يلين له ويندفع به إلى البذل ، قلب لم يمسّه الإيمان ، ولم تصبه نفحة من نفحات الرحمن ، قلب خاو من الخير ، فائض بالخبث والشرّ ، أيّ لطف من عظيم يداني هذا اللطف من الله تعالى بعباده ؟ جبّار السماوات والأرض ربّ كلّ شيء ومليكه ، الغني عن العالمين ، الفعّال لما يريد ، المقلّب لقلوب العبيد ، يرشد عباده الذين أنعم عليهم بفضل من المال واختصّهم بشيء من النعمة ، إلى مواساة إخوانهم بما فيه سعادة لهم أنفسهم ، ولمن يعيش معهم ، ويهديهم إلى بذل شيء من فضول أموالهم في المصالح العامّة ، التي فيها صلاح حالهم ، وحفظ شرفهم واستقلالهم ، فيبرز هذا الهدي والإرشاد في صورة الاستفهام ، دون صيغة الأمر والإلزام ، ويسمّي نفسه مقترضاً ليشعر قلب الغني بمعنى الحاجة التي ربّما تصيبه يوماً من الأيّام ، ثمّ هو يعده ، بمضاعفة ذلك العطاء ، أيكون هذا اللطف كلّه منه بعبده الذي غمره بنعمته ، وفضّله على كثير من خلقه ، ثمّ يجمد قلب هذا العبد وتنقبض يده ولا يستحي من ربّه ، ولا يثق بوعده ، ويقال مع هذا إنّه مؤمن به ، وبأنّ ما أصابه من الخير فهو من عنده ؟ كلاّ . مثّل في نفسك ملكاً من ملوك الدنيا يريد أن يجمع إعانة للفقراء ، أو لمصلحة من مصالح الدولة ، وقد خاطبك بمثل هذا الخطاب ، في التلطّف والاستعطاف ، ومثّل في خيالك موقع قوله من قلبك ، وأثر كلامه في يديك . أمّا كون القرض حسناً ، فالمراد به ما حلّ محلّه ووافق المصلحة ، لا ما وضع موضع الفخفخة وقصد به الرياء والسمعة ، نعم إنّ ما أنفق في المصالح العامّة حسن وإن أريد به الشهرة ، ولكنّه لا يكون دالا على إيمان المنفق وثقته بربّه ، وابتغائه مرضاته ، ولا على حبّه الخير لذاته ، لارتقاء نفسه ، وعلو همّته ، بما استفاد من فضائل الدين وحسن التهذيب ، فلا يكون له حظّ من نفقته يقربه إلى ربّه زلفى ، بل يكون كلّ جزائه تلك السمعة الحسنة " فهجرته إلى ما هاجر إليه " ، ومن الناس من ينفق في المصالح بنيّة حسنة ، ولكن بغير بصيرة تريه مواطن المنفعة بنفقته ، فيبني مسجداً حيث تكثر المساجد ، فيكون سبباً في زيادة تفرّق الجماعة وذلك مخالف لحكمة الشرع ، أو يبني مدرسة ولا يحسن إختيار المعلّمين لها ، أو يفرض لها من النفقة ما لا يكفي لدوامها ، فيسرع إليها الخراب ، أو يضع فيها معلّمين فاسدي الاعتقاد أو الآداب ، فيفسدون ولا يصلحون ، فمثل هذا كلّه لا يقال له قرض حسن ، وإنّما يكون الإنفاق قرضاً حسناً مستحقّاً للمضاعفة الكثيرة ، إذا وضع موضعه مع البصيرة وحسن النيّة ، ليكون على الوجه المشروع من إقامة الدين ، وحفظ مصالح المسلمين ، أو منفعة جميع الأنام ، من الطريق الذي شرعه الإسلام . وأمّا هذه المضاعفة إلى أضعاف كثيرة - وسيأتي في آية أخرى بلوغها سبعمائة ضعف والمراد الكثرة - فهي تكون في الدنيا والآخرة . ذلك بأن المنفق لإعلاء كلمة الله ولتعزيز الأمّة وللمدافعة عن الحقّ والحقيقة ، يكون مدافعاً عن نفسه ومعزّزاً لها وحافظاً لحقوقها ؛ لأنّ اعتداء المعتدين على الأمّة إنّما يكون بالإعتداء على أفرادها ، فضعف الأمّة وإذلالها وضياع حقوقها لا يتحقّق إلاّ بما يقع على أفرادها وهو منهم ، والبلاء يكون عامّاً { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] ثمّ إنّ الأمّة التي يبذل أغنياؤها المال ، وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال ، فيكفل غنيّها فقيرها ، ويحمي قويّها ضعيفها ، تتّسع دائرة مصالحها ومنافعها ، وتكثر مرافقها وتتوفّر سعادتها ، وتدوم على أفرادها النعمة ، ما استقاموا على البذل والتعاون في المصالح العامّة ، ثمّ إنّهم يكونون بذلك مستحقّين لسعادة الآخرة ومضاعفة الثواب فيها . وأقول : لو سرنا في الأرض وسبرنا أحوال الأمم الحاضرة ، وعرفنا تاريخ الأمم الغابرة ، لرأينا كيف ماتت الأمم التي قصّرت في هذه الفريضة ، أو استعبدت ، وكيف عزّت الأمم التي شمّرت فيها وسعدت ، وهذه المضاعفة الدنيوية ، تكون لكلّ أمّة أقامت هذه السنّة الإلهية في حفظ بيضتها ، وإعزاز سلطانها ، سواء أكان المنفقون فيها يبتغون الأجر عند الله تعالى أم لا ، وإنّها لمضاعفة كثيرة لا يمكن تحديدها ، فما أجهل الأمم الغافلة عنها وعن حال أهلها ، إذ يرون أهلها قد ورثوا الأرض وسادوا الشعوب فيتمنّون لو كانوا مثلهم ، ولا يدرون كيف يكون كذلك . ومن العجب أن يكون المسلمون اليوم أجهل الأمم والشعوب بهذه السنّة الإلهية ، وهم يتلون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار ، ولا تتحرّك قلوبهم ، ولا تنبسط أيديهم عند تلاوة آياته الحاثّة على بذل المال في سبيله ، ولا سيّما هذه الآية التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من هيبة الله تعالى والحياء منه ، عمل بهذه الهداية قوم فسعدوا ، وتركها آخرون فشقوا ، فإن كان قد فات الأوّلين قصد مرضاة الله بإقامة سنّته فحرموا ثواب الآخرة ، فقد خسر الآخرون بتركها السعادتين ، وذلك هو الخسران المبين . ومن التفسير المأثور في الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله ، وهو إجمال لما تقدّم تفصيله ، ومن محاسن عبارات المفسّرين هنا أنّ لفظ المضاعفة هنا للمبالغة بما في الصيغة من معنى المبالغة . قرأ أبو عمرو ونافع والكسائي ( فيضاعفه ) بالضمّ بتقدير فهو يضاعفه ، وقرأه عاصم بالنصب لوقوعه في حيّز الاستفهام المعروف في قواعد النحو ، وقرأ ابن كثير ( فيضعفه ) بالرفع والتشديد وابن يعقوب وابن عامر بالنصب ، والتضعيف يدلّ على التكثير والتكرار . قال تعالى : { وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } وقرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر يبصط بالصاد ، وهي لغة كأنّ الأصل فيها تفخيم السين لمجاورة الطاء ، أي يقبض الرزق عن بعض الناس فيجهلون طرقه التي هي سنن الله تعالى فيه ، أو يضعفون في سلوكها ، ويبسطه لمن يشاء بما يهديهم إلى تلك السنن ، ويفتح لهم الأبواب ويسهّل لهم الأسباب ، ولو شاء أن يغني فقيراً ويفقّر غنيّاً لفعل ، فإنّ الأمر كلّه له وبيده القبض والبسط ، وهو واضع السنن الهادي إليها ، والموفّق للسير عليها ، فليس حضّه الأغنياء على مواساة الفقراء والإنفاق في المنافع العامّة أو الخاصّة ، من حاجة به ، أو عجز منه سبحانه ، كلاّ بل هي هدايته الإنسان إلى طريق الشكر على النعم بما يحفظها ويفضي إلى المزيد فيها ، حتّى يبلغ كماله الإجتماعي الذي أعدّه له بحكمته . وقال بعض المفسّرين : يقبض بعض الأيدي عن البذل ، ويبسط بعضها بالفضل . قال الأستاذ الإمام : وهو لا يتّفق مع ما تقدّمه من الآية ، ولا يظهر بعده ما تضمّنه قوله تعالى : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } من الوعد والوعيد ، أي لأنّه لا بد أن يكون مرتّباً على عمل لنا فيه كسب واختيار ، لا على ما تصرّفه الأقدار . وقد قال بعض العلماء : إنّ هذا التعقيب يدلّ على أنّ البذل واجب يعاقب على تركه . أقول يريد عقاب الآخرة ، وأمّا عقاب الدنيا فهو أظهر ؛ لأنّه مشاهد لأرباب البصائر الباحثين في شؤون الأمم إذ لا يبحثون في حال أمّة عزيزة إلاّ ويرون بذل أغنيائها المال ، لنشر العلوم وإتقان الأعمال ، وتعاون أفرادها على مصلحتها ، هي أسباب عزّتها ورفعتها ، ولا يبحثون في حال أمّة ذليلة مقهورة إلاّ ويرون أغنياءها ممسكين وأفرادها غير متعاونين ، فعلمنا بهذا أنّ قوله تعالى : { وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } إلخ بيان لطريق المضاعفة ودليل عليه ، وتذكير بالله وبتدبيره لخلقه ، وبمصير الخلق إليه ، أي فهو يضاعف لهم في الدارين . وقد عهدنا في القرآن ختم آيات الأحكام بمثل هذا ، وعندي أنّ هذه الآية أبلغ آياته . قال الأستاذ الإمام : الرجوع إلى الله تعالى رجوعان - رجوع في هذا العالم إلى سنّته الحكيمة ونظام خليقته الثابت ، ككون تحصيل الغني يكون بكذا من عمل العامل وكذا من توفيق الله تعالى وتسخيره ، وكون الفقر يكون بكذا وكذا من نحو ذلك ، وككون البذل من فضل المال يأتي بكذا وكذا من المنافع الخاصّة بالباذل والعامّة لقومه الذين يعتزّ بعزّتهم ويسعد بسعادتهم ، وكون ترك البذل يأتي بكذا وكذا من المفاسد والمضارّ العامّة والخاصّة . ولا يستقلّ الإنسان بعمل من ذلك تمام الاستقلال بحيث يستغني به عن الرجوع إلى الله تعالى بالحاجة إلى معونته وتوفيقه وتسخير الأسباب له . أقول : ولو فرض أنّ بعض أعماله يتمّ بكسبه وسعيه وجدّه ، لما كان راجعاً إلاّ إلى الله تعالى فيه ؛ لأنّه ما عمل ولا وصل إلاّ بالسير على سنّته ، وإنّما يكون مستغنياً عن الله تعالى إن قدر أن يغيّر سننه ونظام خلقه ، وينفذ بعمله من محيط ملكه وسلطانه { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 33 - 34 ] قال : وأمّا الرجوع الآخر ، فهو الرجوع في الدار الآخرة حيث تظهر نتائج الأعمال وآثارها { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .