Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 243-244)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمّا ذكر تعالى من الأحكام ما ذكر في الآيات السابقة ، قفّى عليه بذكر بعض أخبار الماضين لأجل العظّة والاعتبار بما تتضمّنه الوقائع والآثار ، كما هي سنّة القرآن ، في تنويع التذكير والبيان ، بل الإنتقال هنا ، إنّما هو من الأحكام مسرودة مع بيان حكمتها ، والتنبيه لفائدتها ، إلى حكم سبقته حكمته ، وتقدّمته فائدته ، في ضمن واقعة مضت زيادة في البصيرة ومبالغة في الحمل على الاعتبار ، وهو حكم القتال في سبيل الله ، ويتلوه حكم بذل المال في سبيله . الأحكام السابقة تتعلّق بالأشخاص في أنفسهم وبيوتهم ، وهذان الحكمان في أمر عام يتعلّق بالأمم من حيث حفظ وجودها ، ودوام استقلالها ، بمدافعة المعتدين عنها ، وبذل الروح والمال في حفظ مصالحها ، وتوفير منافعها ، ولذلك كان الأسلوب أشدّ تأثيراً ، وأعظم تذكيراً ؛ لأنّ الإشارة في سياق التذكير بمنافع الشخص ومصالحه في نفسه ، وفيمن يتّصل به ، كافية للتذكّر والعمل بما يوعظ به لموافقة ذلك لهواه ، فلها من النفس عون لا يغيب ، ووازع لا يعصى ، وأمّا المصالح العامّة فإنّه لا يفطن لها ولا يرغب فيها إلاّ الأقلّون ، فالعناية بالدعوة إليها ، يجب أن تكون بمقدار بعد الجماهير عنها ، فمن ثمّ جاءت هذه الآيات ببيان أجلى وأسلوب أفعل وأقوى ، كما ستعلم تفسيرها عن الأستاذ الإمام ، لا عن القصّاصين وأصحاب الأوهام . رووا في قصّة - الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت - روايات من الإسرائيليات التي ولع بها المفسّرون وكلّفوا بتطبيق كتاب الله تعالى عليها ، أشهرها ، أبعدها عن السياق ، وهي رواية السدي قال : كانت قرية وقع فيها الطاعون ، وهرب عامّة أهلها ، والذين بقوا مات أكثرهم ، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ، ثمّ بعد ارتفاع المرض والطاعون ، رجع جميع الذين هربوا سالمين ، فقال من بقي من المرضى : هؤلاء أحرص منّا ، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ، ولئن وقع الطاعون ثانياً لنخرجنّ كما خرجوا ، فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً ، فلمّا خرجوا من ذلك الوادي ، ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا . فهلكوا وبليت أجسامهم ، فمرّ بهم نبي يقال له حزقيل ، فلمّا رآهم وقف عليهم وتفكّر فيهم ، فأوحى الله تعالى إليه " أتريد أريك كيف أحييهم ؟ " فقال نعم فقيل له ناد : أيّتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي ، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتّى تمّت العظام ، ثمّ أوحى الله تعالى إليه ناد : أيّتها العظام إنّ الله يأمرك أن تكتسي لحماً ودماً ، فصارت لحماً ودماً ثمّ ناد : إنّ الله يأمرك أن تقومي ، فقامت ، فلمّا صاروا أحياءً قاموا وكانوا يقولون سبحانك ربّنا وبحمدك لا إله إلاّ أنت ، ثمّ رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم وكانت أمارات أنّهم ماتوا في وجوههم ، ثمّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم . أقول على هذه الرواية اقتصر ( الجلال ) مع علمه بأنّ السدي هذا هو محمّد بن مروان الكوفي المفسّر الكذّاب كما قال ابن جرير وغيره ( وليس هو إسماعيل السدي التابعي الذي وثّقه أحمد وضعّفه ابن معين ) وذكر في عددهم أقوالا ، أقلّها أربعة آلاف ، وأكثرها سبعون ألفاً ، وأنّهم عاشوا دهراً ، عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلاّ عاد كالكفن واستمرّت في أسباطهم ! ! ! وهناك رواية أخرى وهي : إنّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا ؛ لأنّ الأرض التي دعوا إلى قتالها موبوءة ، فأماتهم الله ثمانية أيّام حتى انتفخوا وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم فأحياهم الله تعالى وبقي فيهم شيء من ذلك النتن ، وفي بعض القصص إنّ ذلك انتقل إلى ذريّتهم وسيبقى فيهم حتّى ينقرضوا ! - وقلّما نجد في العلماء من ينبّه الناس لهذه الأكاذيب . والرواية الثالثة هي أنّ حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى القتال فكرهوا وجبنوا ، فأرسل الله عليهم الموت فكثر فيهم فخرجوا من ديارهم فراراً منه ، فدعا عليهم نبيّهم فأرسل الله الموت على الخارجين ، ثمّ ضاق صدره فدعا الله فأحياهم ، ولكن هذا لم يذكر في نبوّة حزقيال من كتب العهد العتيق ، ولا في غيرها . إذا علمت هذا فألق السمع إلى ما نرويه لك عن الأستاذ الإمام ، وتدبّر ما فيه من حقائق علم الإجتماع في القرآن ، لتعلم أنّ حقائق هداية كتاب الله يتجلّى منها في كلّ عصر للعارفين بالله ما لم يتجلّ لسواهم ، وأنّه الكتاب الذي لا تنتهي هدايته ولا تنفد معارفه ، وأنّ هذه الأمّة كالمطر قد يكون في آخره من الخير والبركة ما لم يكن في أوّله كما روي في الحديث الصحيح . قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ } الاستفهام هنا للتعجيب والعبرة ، والخطاب لكلّ من بلغه ، والرؤية بمعنى العلم ، والعبارة استعملت استعمال المثل فهي توجّه إلى من لم ير ولم يعلم ذلك ، والتقدير : ألم ينته علمك أيّها المخاطب إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم { وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } فإنّ حالهم عجيبة من حقّها ألا تجهل ، فإنّهم في كثرتهم أحقّ بأن يكون لهم من الشجاعة ما يربأ بهم عن الخروج من وطنهم حذراً من الموت . قال شيخنا الأستاذ الإمام في هذا المثل ما مثاله : وفي تفسير ابن كثير عن ابن جريج عن عطاء أنّ هذا مثل ، أي لا قصّة واقعة . أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ، ولم يعيّن عددهم ولا أُمّتهم ولا بلدهم ، ولو علم لنا خيراً في التعيين والتفصيل ، لتفضّل علينا بذلك في كتابه المبين ، فنأخذ القرآن على ما هو عليه ، لا ندخل فيه شيئاً من الروايات الإسرائيلية التي ذكروها ، وهي صارفة عن العبرة لا مزيد كمال فيها ، والمتبادر من السياق أنّ أولئك القوم قد خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم ، لا من قلّتهم ، فقد كانوا ألوفاً أي كثيرين ، وإنّما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء فيريهم أنّ الفرار من القتال هو الواقي من الموت ، وما هو إلاّ سبب الموت بما يمكّن الأعداء من رقاب أهله ، قال أبو الطيّب : @ يرى الجبناء أنّ الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم @@ قال الأستاذ الإمام في قوله ( الجلال ) إنّ الاستفهام بها استفهام تعجيب وتشويق ، أي إنّ الاستفهام الحقيقي ممتنع من الله تعالى ، ولذلك كان أكثر استفهام القرآن للإنكار أو للتقرير . ولكن الاستفهام هنا لشيء آخر ، وهو ما يحدث العجب للنبي صلى الله عليه وسلم ويوجب الشوق له إلى ما يقصّ عليه ، والمعنى ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم إلخ . والرؤية بمعنى العلم ، يمتنع أن تكون بصرية ، ولم يقل ألم تعلم ؛ للإشعار بأنّ الأمر المحكي عنه قد انتهى في الوضوح والتحقّق إلى مرتبة المرئي . أقول : ولا يشترط أن تكون القصّة في مثل هذا التعبير واقعة ، بل يصحّ مثله في القصص التمثيلية ، إذ يراد أنّ من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلوماً حتّى كأنّه مرئي بالعينين . ومنه ما نبّهنا عليه من الفرق بين العطف بالفاء وبثمّ ، وقد قالوا إنّ العطف في قوله تعالى : { وَقَٰتِلُواْ } للاستئناف ؛ لأنّ الجملة المبدوءة بالواو هنا جديدة لا تشارك ما قبلها في إعرابه ولا في حكمه الذي يعطيه العطف . قال الأستاذ الإمام : وهذا لا يمنع أن يكون بين الجملة المبدوءة بواو الاستئناف وبين ما قبلها تناسب وارتباط في المعنى غير إرتباط العطف والمشاركة في الإعراب ، كما هو الشأن هنا ، فإنّ الآية الأولى مبيّنة لفائدة القتال في الدفاع عن الحقّ أو الحقيقة ، والثانية آمرة به بعد تقرير حكمته وبيان وجه الحاجة إليه ، فالإرتباط بينهما شديد الأواخي ، لا يعتريه التراخي . خرجوا فارّين { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } أي أماتهم بإمكان العدو منهم ، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع أي قضت سنّته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت ، وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار ، ففتك بهم وقتل أكثرهم ، ولم يصرّح بأنّهم ماتوا ؛ لأنّ أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه ، فلا يمكن تخلّفه ، وللإستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك : { ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ } وإنّما يكون الإحياء بعد الموت ، والكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصية ؛ لأنّ المراد بيان سنّته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها ، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف ، فمعنى موت أولئك القوم : هو أنّ العدو نكّل بهم فأفنى قوتهم ، وأزال استقلال أمّتهم ، حتّى صارت لا تعدّ أمّة ، بأن تفرّق شملها ، وذهبت جامعتها ، فكان من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم ، مدغمين في غمارهم ، لا وجود لهم في أنفسهم ، وإنّما وجودهم تابع لوجود غيرهم ، ومعنى حياتهم : هو عود الاستقلال إليهم . ذلك إنّ من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنّه يكون تأديباً لهم ، ومطهّراً لنفوسهم ممّا عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة . أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها ، فجمعوا كلمتهم ، ووثّقوا رابطتهم ، حتّى عادت لهم وحدتهم قويّة فاعتزّوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عزّ الاستقلال ، فهذا معنى حياة الأمم وموتها ، يموت قوم منهم باحتمال الظلم ، ويذلّ الآخرون حتّى كأنّهم أموات ، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحيّة ، من حفظ سياج الوحدة ، وحماية البيضة ، بتكافل أفراد الأمّة ومنعتهم ، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات ، والاستعداد لما هو آت ، ويتعلّمون من فعل عدوّهم بهم كيف يدفعونه عنهم ، قال علي كرّم الله وجهه : إنّ بقيّة السيف هي الباقية ، أي التي يحيا بها أولئك الميّتون ، فالموت والإحياء واقعان على القوم في مجموعهم ، على ما عهدنا في أسلوب القرآن إذ خاطب بني إسرائيل في زمن تنزيله بما كان من آبائهم الأوّلين ، بمثل قوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] وقوله : { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البقرة : 56 ] وغير ذلك ، وقلنا إنّ الحكمة في هذا الخطاب تقرير معنى وحدة الأمّة وتكافلها ، وتأثير سيرة بعضها في بعض ، حتّى كأنّها شخص واحد ، وكلّ جماعة منها كعضو منه ، فإن انقطع العضو العامل لم يكن ذلك مانعاً من مخاطبة الشخص بما عمله قبل قطعه ، وهذا الاستعمال معهود في سائر الكلام العربي يقال : هجمنا على بني فلان حتّى أفنيناهم أو أتينا عليهم ، ثمّ أجمعوا أمرهم وكرّوا علينا ( مثلا ) وإنّما كرّ عليهم من بقي منهم . أقول : وإطلاق الحياة على الحالة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأُمم ، والموت على مقابلها ، معهود كقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] وقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [ الأنعام : 122 ] الآية ، وانظر إلى دقّة التعبير في عطف الأمر بالموت على الخروج من الديار بالفاء الدالّة على اتّصال الهلاك بالفرار من العدو ، وإلى عطفه الإخبار بإحيائهم بثمّ الدالّة على تراخي ذلك وتأخّره ، ولأنّ الأمّة إذا شعرت بعلّة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها ، فإنّه لا يتيسّر لها تدارك ما فات إلاّ في زمن طويل ، فما قرّره الأستاذ الإمام هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيّده السنن الحكيمة ، وأمّا الموت الطبيعي فهو لا يتكرّر كما علم من سنّة الله ومن كتابه إذ قال : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [ الدخان : 56 ] وقال : { وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ } [ غافر : 11 ] ولذلك أوّل بعضهم الموت هنا بأنّه نوع من السكتة والإغماء الشديد لم تفارق به الأرواح أبدانها . وقد قال بعد ما قرره : هذا هو المتبادر ، فلا نحمّل القرآن ما لا يحمل ؛ لنطبّقه على بعض قصص بني إسرائيل ، والقرآن لم يقل إنّ أولئك الألوف منهم كما قال في الآيات الآتية وغيرها ، ولو فرضنا صحّة ما قالوه من أنّهم هربوا من الطاعون ، وأنّ الفائدة في إيراد قصّتهم بيان أنّه لا مفرّ من الموت ، لمّا كان لنا مندوحة عن تفسير إحيائهم بأنّ الباقين منهم تناسلوا بعد ذلك وكثروا ، وكانت الأمّة بهم حيّة عزيزة ، ليصحّ أن تكون الآية تمهيداً لما بعدها مرتبطة به ، والله تعالى لا يأمرنا بالقتال لأجل أن نقتل ، ثمّ يحيينا ، بمعنى أنّه يبعث من قتل منّا بعد موتهم في هذه الحياة الدنيا . { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } كافّة بما جعل في موتهم من الحياة ، إذ جعل المصائب والعظائم ، محيية للهمم والعزائم ، كما جعل الهلع والجبن وغيرهما من الأخلاق التي أفسدها الترف والسرف من أسباب ضعف الأمم ، وجعل ضعف أمّة مغرياً لأمّة قويّة بالوثبان عليها ، والإعتداء على استقلالها ، وجعل الإعتداء منبّهاً للقوى الكامنة في المعتدى عليه ، وملجئاً له إلى استعمال مواهب الله فيما وهبت لأجله ، حتى تحيا الأمم حياة عزيزة ، ويظهر فضل الله تعالى فيها . قال الأستاذ الإمام : المراد بالفضل هنا الفضل العامّ ، وهو أنّه تعالى جعل إماتة الناس بما يسلّط على الأمّة من الأعداء ينكلون بها ، بمثابة هدم البناء القديم المتداعي ، والضرورة قاضية ببنائه ، فلا جرم تنبعث الهمّة إلى هذا البناء الجديد ، فيكون حياة جديدة للأمّة ، تفسد أخلاق الأمم فتسوء الأعمال ، فيسلّط الله على فاسدي الأخلاق النكبات ؛ ليتأدّب الباقي منهم ، فيجتهدوا في إزالة الفساد وإدالة الصلاح ، ويكون ما هلك من الأمّة بمثابة العضو الفاسد المصاب بالغنغرينا يبتره الطبيب ليسلم الجسد كلّه ، ومن لا يقبل هذا التأديب الإلهي فإنّ عدل الله في الأرض يمحقه منها { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ البقرة : 270 ] فهذه سنّة من سنن الإجتماع بيّنها القرآن ، وكان الناس في غفلة عنها ولهذا قال : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يقومون بحقوق هذه النعمة ، ولا يستفيدون من بيان هذه السنّة ، أي هذا شأن أكثر الناس في غفلتهم وجهلهم بحكمة ربّهم ، فلا تكونوا كذلك أيّها المؤمنون ، بل اعتبروا بما نزل عليكم وتأدّبوا به ، لتستفيدوا من كلّ حوادث الكون ، حتّى ممّا ينزل بكم من البلاء إذا وقع منكم تفريط في بعض الشؤون ، واعلموا أنّ الجبن عن مدافعة الأعداء ، وتسليم الديار بالهزيمة والفرار ، هو الموت المحفوف بالخزي والعار ، وأنّ الحياة العزيزة الطيّبة هي الحياة المليّة المحفوظة من عدوان المعتدين ، فلا تقصّروا في حماية جامعتكم في الملّة والدين . { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمته ، وتأمين دينه ونشر دعوته ، والدفاع عن حزبه ، كي لا يغلبوا على حقّهم ، ولا يُصدّوا عن إظهار أمرهم ، فهو أعمّ من القتال لأجل الدين ؛ لأنّه يشمل مع الدفاع عن الدين وحماية دعوته ، الدفاع عن الحوزة إذا همّ الطامع المهاجم بإغتصاب بلادنا والتمتع بخيرات أرضنا ، أو أراد العدو الباغي إذلالنا ، والعدوان على استقلالنا ، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا في ديننا ، فهذا الأمر مطلق كأنّه أمر لنا بأن نتحلّى بحلية الشجاعة ، ونتسربل بسرابيل القوّة والعزّة ، لتكون حقوقنا محفوظة ، وحرمتنا مصونة ، لا نؤخذ من جانب ديننا ، ولا نغتال من جهة دنيانا ، بل نبقى أعزّاء الجانبين ، جديرين بسعادة الدارين ، ألا ترى إنّ من ساق الله لنا العبرة بحالهم ، وذكّرنا بسنّته في موتهم وحياتهم ، لم يذكر أنّهم قوتلوا وقتلوا لأجل الدين ، فالقتال لحماية الحقيقة ، كالقتال لحماية الحقّ ، كلّه جهاد في سبيل الله ، فتفسير ( الجلال ) سبيل الله بإعلاء دينه تقييد لمطلق ، وتخصيص لقول عام من غير دليل ، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ العدو إذا دخل دار الإسلام ، يكون قتاله فرض عين . ذكّرنا الله تعالى بعد هذا الأمر بأنّه سميع عليم ؛ لينبّهنا على مراقبته فيما عسى أن نعتذر به عن أنفسنا في تقصيرها عن إمتثال هذا الأمر في وقته ، وأخذ الأهبّة له قبل الإضطرار إليه ، أمرنا أن نعلم إنّه سميع لأقوال الجبناء في إعتذارهم عن أنفسهم : ماذا نعمل ؟ ما في اليد حيلة ، ليس لها من دون الله كاشفة ، ليس لنا من الأمر شيء ، لو كان لنا من الأمر شيء ما قعدنا هاهنا ، فهذه الألفاظ في هذا المقام منفاح الجبن ، وعلل الخوف والحزن ، فهي عند أهلها تعلاّت وأعذار ، وعند الله تعالى ذنوب وأوزار ، وما كان منها حقاً في نفسه ، فهو من الحقّ الذي أريد به الباطل . وأن نعلم إنّه عليم بما يأتيه مرضى القلوب وضعفاء الإيمان من الحيل والمراوغة ، والفرار من الاستعداد والمدافعة ، فإذا علمنا هذا وحاسبنا به أنفسنا ، عرفنا إنّ كلا من المعتذر بلسانه ، والمتعلّل بفعاله ، مخادع لربّه ولنفسه وقومه . قال الأستاذ الإمام بعد نحو مما تقدم : وكثير من الناس يهزأ بنفسه وهو لا يدري ، إذ يصدّق ما يعتاده من التوهّم ، وهذه شنشنة المخذولين الذين ضربت عليهم الذلّة وخيّم عليهم الشقاء ، تعمل فيهم هذه الوساوس مالا تعمل الحقائق ، وقد أنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بتذكيرنا بأنه سميع عليم ، لا يخادع ولا يخفى عليه شيء . ونقول إنّ هذا التذكير كان بالأمر بالعلم ، لا بمجرّد القول أو التسليم ، فمن علم علماً صحيحاً أنّ الله سميع لما يقول عليم بما يفعل ، حاسب نفسه وناقشها ، ومن حاسب نفسه وناقشها تجلّى له كلّ آن من تقصيرها ما يحمله على التشمير لتدارك ما فات ، والاستعداد لما هو آت ، فمن تراه مشمّراً فاعلم أنّه عالم ، ومن تراه مقصّراً فاعلم بأنّه مغرور آثم .