Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 259-259)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المفردات : الكاف في قوله " أو كالذي " بمعنى مثل فهي اسم ومن الشواهد على ذلك قول الراجز : @ بيض ثلاث كنعاج جُمّ يضحكن عن كالبرد المنهمِّ @@ أي عن ثنايا مثل حبّ البرد الذائب وقول الشاعر : @ أتنتهون ولن ينهي ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتلُ @@ وزعم الجلال أنّها زائدة انتصاراً لمذهب البصريين الذين أنكروا مجيء الكاف بمعنى مثل ولكن المعنى لا يستقيم كما يليق ببلاغة القرآن إلاّ على الأول . قال الأستاذ الإمام : إنّ تحكيم مذاهبهم النحوية في القرآن ومحاولة تطبيقه عليها وإن أخلّ ذلك ببلاغته - جراءة كبيرة على الله تعالى وإذا كان النحو وجد لمثل ذلك فليته لم يوجد . والقرية بالفتح الضيعة والمصر الجامع وأصل معنى المادّة الجمع ومنه قرية النمل لمجتمع ترابها ويعبّر بالقرية عن الأُمّة . والخاوية الخالية يقال خوى المنزل خواء ، وخوى بطن الحامل وقيل يعني ساقطة من خوى النجم إذا سقط . والعروش السقوف . ويتسنّه يتغيّر بمرور السنين وإشتقاقه من السنة . فهاؤه أصلية يقال سنة ( كتعب ) أتت عليه السنون وتسنّهت النخلة أتت عليها السنون وتسنّه الطعام تكرج وتعفّن لطول الزمن أو أصله تسنّى أو تسنّن والهاء للسكت . وننشزها بالزاي نرفعها من أنشزه إذا رفعه . وننشرها بالراء نقويها ومنهما حديث أبي داود " لا رضاع إلاّ ما أنشز العظم وأنبت اللحم " . التفسير : قال الأستاذ الإمام ما ملخّصه : للمفسّرين في الآية قولان : أحدهما : أنّ هذا الذي مرّ على القرية كان من الصديقين أو الأنبياء . وثانيهما : أنّه كان من الكافرين وهو ضعيف لأنّ الكافر لا يؤيّد بآيات الله فالكلام على الوجه الأول وهو الصحيح مثل لهداية الله تعالى للمؤمنين وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، كما كان شأن إبراهيم مع ذلك الكافر . وقالوا إنّ هذا لا يصحّ أن يكون معطوفاً على قصّة الذي حاجّ إبراهيم في ربّه ، لأن ذلك منكر . وردّ على طريقة التعجيب والإنكار لأنّ من شأن مثله أن لا يقع . وهذا وإن كان عجيباً لا يصحّ إنكار وقوعه لأنّ الشبهة قد تعرض للمؤمن وهو مؤمن فيطلب المخرج بالبرهان فيهديه الله إليه بما له من الولاية والسلطان على نفسه ، ويخرجه من ظلمات الشبهة والحيرة إلى نور البرهان والطمأنينة . وقد قدروا هنا " أرأيت " لإثبات التعجيب دون الإنكار أي { أَوْ } أرأيت { كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ } أي مثل الذي مرّ على قرية في إلمام ظلمة الشبهة به وإخراج الله إيّاه منها إلى النور . وقد أبهم الله تعالى هذا المارّ وهذه القرية ، فلم يذكر مكانها وأصحابها ، بل اقتصر على الوصف الذي به تقرّر الحجّة حتى لا يشغل القارئ أو السامع عنها شاغل . فهو من الاختصار البليغ ولكن المفسّرين أبوا إلاّ أن يبحثوا عنها وعمّن مرّ بها ، فقال بعضهم إنّها قرية الذين خرجوا من ديارهم وقيل غير ذلك وقيل إنّ الذي مرّ أرمياء وقيل العزير رجماً بالغيب أو تسليماً للإسرائيليات . وقوله { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } معناه وهي خالية من السكّان واقعة على عروشها فقوله : " على عروشها " خبر بعد خبر أو متعلّق بخاوية على القول الثاني أي ساقطة على عروشها . وقيل المعنى : وهي الخاوية من السكّان وقائمة على عروشها ومن أمثالهم : إذا نزعت القوائم سقطت العروش . والحال تأتي من النكرة خلافاً لمن منع ذلك . وأوقع المفسّرين في التعسّف في التأويل واختيار الجملة الحالية على الحال المفرد لتمثيل حال القرية في النفس بذكر ضميرها وإسناد خاوية إليه ولو قال : على قرية خاوية لما أفاد هذا التمثيل . { قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } يتعجّب من ذلك ويعده غريباً لا يكاد يقع { فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } قالوا معناه ألبثه مائة عام ميتاً . وذلك أنّ الموت يكون في لحظة واحدة . قال الأستاذ الإمام : وفاتهم أنّ من الموت ما يمتدّ زمناً طويلاّ وهو ما يكون من فقد الحس والحركة والإدراك من غير أن تفارق الروح البدن بالمرّة ، وهو ما كان لأهل الكهف وقد عبّر عنه تعالى بالضرب على الآذان . أقول : ولعلّ وجهه أنّ السمع آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت . وهذا الموت أو الضرب على الآذان هو المراد بالشقّ الثاني من قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا } [ الزمر : 42 ] والبعث هو الإرسال . فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفّي النفس أي قبضها فزواله إنّما يكون بإرسالها وبعثها . وأقول : قد ثبت في هذا الزمان أنّ من الناس من تحفظ حياته زمناً طويلاً يكون فيه فاقد الحسّ والشعور ، ويعبّرون عن ذلك بالسبات وهو النوم المستغرق الذي سمّاه الله وفاة . وقد كتب إلى مجلة المقتطف سائل يقول إنّه قرأ في بعض التقاويم أنّ امرأة نامت 5500 يوم أي بلياليها من غير أن تستيقظ ساعة ما في خلال هذه المدّة . وسأل هل هذا صحيح ؟ فأجابه أصحاب المجلّة بأنّهم شاهدوا شاباً نام نحو شهر من الزمان ثمّ أصيب بدخل في عقله . وقرأوا عن أناس ناموا نوماً طويلاً أكثره أربعة أشهر ونصف واستبعدوا أن ينام إنسان مدّة 5500 أي أكثر من 15 سنة نوماً متوالياً . وقالوا إنّهم لا يكادون يصدّقون ذلك . نعم إنّ الأمر غير مألوف ولكن القادر على حفظ الإنسان أربعة أشهر ونصف و15 سنة قادر على حفظه مائة سنة وإن لم نهتد إلى سنته في ذلك . فلبث الرجل الذي ضرب على سمعه هنا مثلاً مائة سنة غير محال في نظر العقل ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النصّ من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلاّ أن تكون من الممكنات دون المستحيلات . وإنّما ذكرنا ما وصل إليه علم بعض الناس من هذا السبات الطويل الذي لم يعهده أكثرهم لأجل تقريب إمكان هذه الآية من أذهان الذين يعسر عليهم التمييز بين ما يستبعد لأنّه غير مألوف ، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته . { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يفسد بمرور السنين . أقول : لم يبيّن لنا تعالى نوع ذلك الطعام وذلك الشراب ولا بدّ أن يكون ممّا يعدّ بقاؤه مائة عام من الآيات التي تدلّ رائيها على ما لا يعلم من قدرة الله تعالى ، وإلاّ فإنّ من الطعام والشراب ما لا يفسد بطول السنين . وقد اختلفوا في المراد بقوله تعالى : { وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } فقيل معناه أنظر كيف مات وتفرّقت أو تفتتت عظامه فلولا طول المدّة لم يكن كذلك وقيل معناه انظر كيف بقي حيّاً طول هذه المدّة على عدم وجود من يعتني بشأنه . كذلك اختلفوا في قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } من حيث العطف ولا معطوف عليه في الكلام ، فقدّر بعضهم فعلاً محذوفاً أي ولنجعلك آية للناس فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء . وقال الأستاذ الإمام : لنزيل تعجّبك ونريك آياتنا في نفسك وطعامك وشرابك وحمارك ولنجعلك آية للناس فالعطف دلّنا على المحذوف المطوي دلالة ظاهرة وهذا من لطائف إيجاز القرآن . أمّا كون ما رأى آية له . فظاهر وأمّا كونه هو آية للناس فهو أنّ علمهم بموته مائة سنة ثمّ بحياته بعد ذلك من أكبر الآيات . وقد قال المفسّرون إنّه كان عند موته لا يزال شاباً وكان له أولاد قد شابوا وهرموا وقد عرفوه وعرفهم وبيان ذلك أنّ بدنه لم يعمل في هذه المدّة الأعمال التي تضنيه وتذهب بماء الشباب منه فتهرمه بل حفظت له حالته التي توفّيت نفسه وهو عليها . ثمّ قال : { وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ننشرها بالراء من الإنشار والباقون بالزاي من الإنشاز . قال من ذهب إلى أنّ الحمار مات : إنّ المراد بالعظام هنا عظامه ومعنى ننشزها نرفعها ونركّب بعضها ببعض . ومعنى ننشرها نحييها . ولا مندوحة لمن قال بأنّ الحمار كان لا يزال حيّاً من القول بأنّ المراد بالعظام جنسها . قال الأستاذ الإمام : إنّه بعد أن أراه الآية التي تكون حجّة خاصة لمن رآها نبّهه إلى الحجّة العامّة والدليل الثابت الذي يمكن أن تحتجّ به على البعث في كلّ زمان ومكان وهو سنّته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فالإنشاء معناه التقوية والانشاز معناه التنمية لأنّ الذي ينمو يعلو ويرتفع كأنه يقول كما أطلعناك على بعض الآيات الخاصّة التي تدلّك على قدرتنا على البعث نهديك إلى الآية الكبرى العامّة وهي كيفية التكوين وإنما كانت هي الآية العامّة لأنّ القرآن يحتجّ بها على جميع الخلق بمثل قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ الأعراف : 29 ] وقوله : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] وقوله في آيات تبيّن تفصيل كيفية البدء { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً } [ المؤمنون : 14 ] أقول : ويؤيّد هذا التفسير قراءة أبي رضي الله عنه " وانظر إلى العظام كيف ننشيها " من الإنشاء . وعظام الحمار كانت موجودة لم يتعلّق بها إنشاء جديد بل الحمار نفسه كان موجوداً على المختار وهو المتبادر من قوله : { وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } ثمّ من إعادة العامل ( انظر ) عند ذكر آية إنشاز العظام وإنشاء الحيوان مع الفصل بينهما بذكر جعله في نفسه آية . فهذا الفصل دليل على الإنتقال من الآية الخاصّة إلى الآية العامّة التي يغفل الناس عنها . ثمّ قال فهذه العظام توجد في أوّل الخلقة عارية من لباس الحياة ، بل قال فقيرة من مادّتها فالقادر على أن يكسوها لحماً يمدّها بالحياة ويجعلها أصلاً لجسم حي : قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية . كما أنّ القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى ألوفاّ من السنين . هكذا يشبه بعض أفعاله بعضاً . { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أي ظهر واتضح له ما ذكر { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } علماً يقينيّاً مؤيّداً بآيات الله في نفسي وفي الآفاق . وسأل الأستاذ الإمام سائل عن كيفية هذا التكلّم ؟ فقال : إنّ الله تعالى لم يبيّنه وهو ممّا لا يدركه كلّ سامع ، فكانت الحكمة في عدم بيانه ، أقول : إنّما سأل السائل لأنّ الأستاذ جرى على أنّ الذي مرّ على القرية صديق . أمّا على القول بأنّه كان نبيّاً فهذا التكليم كان من الوحي ، ولا يبعد أن يكون ما في القصّة لنبي قرّرت به الحجّة هكذا كما وقع لإبراهيم وقد يقع في نفوس الصدّيقين من المعاني والأفكار الصحيحة ما لا يقع في نفوس غيرهم فيعد من إلهام الله تعالى إيّاهم ذلك ، كإلهام أمّ موسى ما ألهمت به وقد يعبّر عنه بالوحي ويحكى عنه بمثل ما يحكى عن التكليم . ويحتمل أن تكون القصّة من قبيل التمثيل والله أعلم .