Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 258-258)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الأستاذ الإمام - وعزاه إلى المحقّقين - الكلام متصل بما قبله وشاهد عليه كأنّه يقول انظروا إلى إبراهيم كيف كان يهتدي بولاية الله له إلى الحجج القيّمة والخروج من الشبهات التي تعرض عليه فيظلّ على نور من ربّه وإلى الذي حاجّه كيف كان بولاية الطاغوت له يعمى عن نور الحجّة وينتقل من ظلمة من ظلمات الشبه والشكوك إلى أخرى قالوا الاستفهام في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } للتعجيب من هذه المحاجة وغرور صاحبها وغباوته مع الإنكار وقوله : { أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } معناه أنّ الذي حمله على هذه المحاجة هو إيتاء الله تعالى الملك له . فكان منشأ إسرافه في غروره وسبب كبريائه وإعجابه بقدرته { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } وكأنّه كان قد سأله عن ربّه الذي يدعو إلى عبادته وقد كسر الأصنام التي تعبد من دونه وسفه أحلام عابديها لأجله . فأجاب بهذا الجواب فأنكره الملك الطاغية الذي حكي عنه ادّعاء الألوهية لنفسه و { قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } أحي من أحكم عليه بالإعدام بالعفو عنه وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله . فدلّ جوابه هذا على أنّه لم يفهم قول إبراهيم عليه السلام قال الأستاذ الإمام لم يقل " فقال أنا أحيي وأميت " لأنّ جوابه منقطع عن الدليل لا يتصل به بالمرّة فإنّه أراد أن يكون سبباً للإحياء والإماتة والكلام في الإنشاء والتكوين لا في اتّخاذ الأسباب والتوسل في الشيء المكوّن . فالمراد الذي يحيي ويميت : الذي ينشئ الحياة في جميع العوالم الحيّة من نبات وحيوان وغيرها ويزيل الحياة بالموت وعبّر بالذي الدالّ على المعهود المعروفة صلته دون " من " التي فيها الإبهام وبالمضارع الدالّ على التجدّد والاستمرار لإفادة أنّ هذا شأنه دائماً كما هو معهود معروف لمن نظر في الأكوان نظر المفكّر المستدلّ . ولمّا رأى إبراهيم أنّه لم يفهم أنّ مراده بالذي يحيي ويميت مصدر التكوين الذي يحيا كلّ حي بإحيائه ويموت بقطع إمداده له بالحياة { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } فهذا إيضاح لقوله الأول وإزالة لشبهة الخصم لا أنّه جواب آخر كما فهم الجلال وغيره والمعنى إنّ ربي الذي يعطي الحياة ويسلبها بقدرته وحكمته هو الذي يطلع الشمس من المشرق أي هو المكوّن لهذه الكائنات بهذا النظام والسنن الحكيمة التي نشاهدها عليها . فإن كنت تفعل كما يفعل فغيّر لنا نظام طلوع الشمس وائت بها من الجهة المقابلة للجهة التي جرت سنّته تعالى بظهور منها { فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } أي أدركته الحيرة وأخذه الحصر من نصوع الحجّة وسطوعها فلم يحر جواباً { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } . قال الأستاذ الإمام : هذا ترشيح للكلام والمراد بالظلم في هذا المقام الإعراض عن النور الإلهي وهو نور العقل الذي يسير به المرء في طريق الدين فمن ظلم نفسه بإطفاء هذا المصباح فصار يتخبّط في الظلمات فإنّه لا يهتدي في سيره إلى الصراط المستقيم الموصل إلى السعادة بل يضلّ عنه حتّى يهلك دون الغاية . أقول : يريد بمطفئ المصباح من لم يجعل الحكم في أمر الدين لنظر العقل الصحيح البريء من الهوى ونزغات التقليد بل يحكم الطاغوت الذي استسلم له كتقليده للذين وثق بهم تاركاً ما أعطاه الله من الاستعداد للفهم اكتفاءً برأيهم أو اتّباعاً لهواه وشهواته التي تزيّن له ما هو فيه وتوهمه أنّ النظر في الدليل قد يقنعه بترك ما هو متمتع به فيفوته فخير له أن يعرض عن النظر والفكر ويسترسل فيما هو فيه . من فهم الآية على الوجه الذي قرّرناه يعلم أنّ لا محلّ للشبهة التي يوردها بعض الناس على حجّة إبراهيم عليه السلام وهي أنّه كان لنمروذ أن يقول له إذا كان ربّك هو الذي يأتي بالشمس من المشرق وهو قادر على ما طالبتني به من الإتيان بها من المغرب فليأت بها يوماً ما . قال بعض المقلّدين ولا يمكن أن يسأل إبراهيم ربّه ذلك لأنّ فيه خراب العالم وقال بعض المرتابين إنّه لو قال له نمروذ ذلك لألزمه . وقد فهم نمروذ على طغيانه وغروره من الحجّة ما لا يفهم هؤلاء القائلون ، فهم أنّ مراد إبراهيم أنّ هذا النظام في سير الشمس لا بدّ له من فاعل حكيم إذ لا يكون مثله بالمصادفة والاتّفاق وإنّ ربّي الذي أعبده هو ذلك الفاعل الحكيم الذي قضت حكمته بأن تكون الشمس على ما نرى . ومن فهم هذا لا يمكن أن يقول اطلب من هذا الحكيم أن يرجع عن حكمته ويبطل سنّته . كذلك لا محلّ لقول بعضهم لِمَ سكت إبراهيم عن كشف شبهته الأولى إذ زعم أنّ ترك القتل إحياء فقد علمت أنّ مسألة الشمس قد كشفت ذلك انكشافاً لا يخفى إلاّ على من تخفى عليه الشمس .