Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 275-281)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفاً في الجاهلية يأتيه اليهود والمشركون . وهي من آخر القرآن نزولاً كما سيأتي . وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامّة الأوقات والأحوال ، لما بينها من التناسب بالتضادّ . فالمتصدّق يعطي المال بغير عوض يقابله والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله . وإنّنا نذكر تفسير الآيات ثمّ نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه . لأنّ لهذه المسألة شأناً كبيراً في حياة الأمة السياسية والإجتماعية في هذا العصر ، ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أنّ تحريم الربا هو العقبة الكؤد في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزّة والقوّة . قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } تنفير من الربا وتبشيع لحال آكله . والمراد بالأكل الأخذ لأجل التصرّف ، وأكثر مكاسب الناس تنفق في الأكل ومن تصرّف في شيء من مال غيره يقال أكله وهضمه أي أنّه تصرّف فيه تمام التصرّف حتّى لا مطمع في ردّه . والربا في اللغة الزيادة ، يقال ربا الشيء يربو إذا زاد على ما كان عليه ، ومنه الرابية لما علا من الأرض فزاد على ما حوله . وتعريف الربا للعهد أي لا تأكلوا الربا الذي عهدتم في الجاهلية . وذكر ابن جرير في تفسير الآية وتفسير آية آل عمران كيفية ذلك قال : وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أنّ الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول له الذي عليه المال : أخّر عنّي دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة فنهاهم الله عزّ وجلّ في إسلامهم عنه . اهـ . وذكر وقائع للجاهلية في ذلك سننقلها عنه في موضعها . وأمّا قيام آكلي الربا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ ، فقد قال ابن عطيّة في تفسيره : المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة قد جنّ . أقول : وهذا هو المتبادر . ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا : إنّ المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث وأنّ الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنّهم يبعثون كالمصروعين . ورووا ذلك عن ابن عبّاس وابن مسعود بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعاً : " إيّاك والذنوب التي لا تغفر - الغلول فمن غلّ شيئاً أتى به يوم القيامة والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبّط " . أقول : والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطيّة لأنّه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال ، ولا قرينة تدلّ على أنّ المراد به البعث . وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده وهي لم تنزل مع القرآن ولا جاء المرفوع منها مفسّراً للآية . ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قاله ابن عطيّة إلاّ من لم يظهر له صحّته في الواقع . وكان الوضّاعون الذين يختلقون الروايات يتحرّون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون له رواية يفسّرونه بها وقلّما يصحّ في التفسير شيء كما قال الإمام أحمد . أمّا ما قاله ابن عطيّة ظاهر في نفسه فإنّ أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتّى ضريت نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصوداً لذاته وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الإعتدال الذي عليه أكثر الناس ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلّبهم في أعمالهم ، كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار يزيد فيهم النشاط والإنهماك في أعمالهم حتّى يكون خفّة تعقّبها حركات غير منتظمة وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبّط الممسوس فإنّ التخبّط من الخبط وهو ضرب غير منتظم ، وكخبط العشواء . وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطيّة وما قاله الجمهور . ذلك بأنّه إذا كان ما شنّع به على المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف هو أثر إضطراب نفوسهم وتغيّر أخلاقهم كان لا بدّ أن يبعثوا عليه . فإنّ المرء يبعث على ما مات عليه لأنّه يموت على ما عاش عليه ، وهناك تظهر صفات النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها ، كما تتجلّى صفات النفس الزكية في أبهى مجاليها . ثمّ إنّ التشبيه مبني على أنّ المصروع الذي يعبّر عنه بالممسوس ويتخبّطه الشيطان أي أنّه يصرع بمسّ الشيطان له ، وهو ما كان معروفاً عند العرب وجارياً في كلامهم مجرى المثل . قال البيضاوي في التشبيه " وهو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع والخبط ضرب على غير اتّساق كخبط العشواء " . اهـ . وتبعه أبو السعود كعادته فذكر عبارته بنصّها . فالآية على هذا لا تثبت أنّ الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقة ولا تنفي ذلك . وفي المسألة خلاف بين العلماء أنكر المعتزلة وبعض أهل السنّة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبّر عنه بالوسوسة . وقال بعضهم إنّ سبب الصرع مسّ الشيطان كما هو ظاهر التشبيه ، وإن لم يكن نصّاً فيه - وقد ثبت عند أطباء هذا العصر أنّ الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الحديثة . وقد يعالج بعضها بالأوهام وهذا ليس برهاناً قطعيّاً على أنّ هذه المخلوقات الخفيّة التي يعبّر عنها بالجنّ يستحيل أن يكون لها نوع اتّصال بالناس المستعدّين للصرع ، فتكون من أسبابه في بعض الأحوال والمتكلّمون يقولون إنّ الجنّ أجسام حيّة خفيّة لا ترى وقد قلنا في ( المنار ) غير مرّة : إنه يصحّ أن يقال إنّ الأجسام الحيّة الخفيّة التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة ، وتسمّى بالميكروبات يصحّ أن تكون نوعاّ من الجنّ وقد ثبت أنّها علل لأكثر الأمراض . قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أنّ الطاعون من وخز الجنّ . على أنّنا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرّره الأطباء ، أو إضافة شيء إليه ممّا لا دليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الأحادية فنحمد الله تعالى على أنّ القرآن أرفع من أن يعارضه العلم . قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ } أي ذلك الأكل للربا مسبّب عن استحلالهم له وجعله كالبيع وما هو كالبيع فإنّ البيع معاوضة بين شيئين ، وأمّا الربا الذي كانوا يأكلونه فهو زيادة عن دينهم يزيدونها عند تأخير الأجل لا يقابلها شيء وما يؤخذ بغير مقابل فهو من الباطل لذلك حرّم الله الربا دون البيع فقال : { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَٰواْ } ولو كانا متساويين لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين فكلّ ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا يقابله عوض فهي بيع حلال ، وإنمّا تحرم الزيادة التي يأخذها صاحب المال لأجل التأخير في الأجل وهي لا معاوضة فيها ولا مقابل لها فهي ظلم . وسيأتي في آية أخرى تعليل تحريم الربا بكونه ظلماً . هذا ما يظهر لنا في معنى هذه العبارة وترى مفسّرينا قد بنوا كلامهم فيها على تسليم كون البيع مثل الربا إذ جعلوا تحريم الربا بمعنى الأمر التعبّدي وقالوا إنّ معناه أنّ الله تعالى ردّ عليهم بأن أحلّ هذا وحرّم هذا فيجب أن يطاع . ويظهر من عبارة ابن جرير أنّ هذا القول الذي أسند إليهم على ظاهره قال : " هذا الذي ذكرنا أنّه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حلّ بهم من أجل أنّهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنّما البيع الذي أحلّه الله لعباده مثل الربا . وذلك أنّ الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حلّ مال أحدهم على غريمه يقول الغريم الحقّ زدني في الأجل وأزيدك في مالك فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحلّ فإذا قيل لهما ذلك قالا سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محلّ المال . فكذبهم الله تعالى في قيلهم فقال { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ } . ثمّ قال في تفسير هذا ما نصّه - يعني جلّ ثناؤه . وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع وحرّم الربا ، يعني الزيادة التي يزاد ربّ المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دَينه عليه . يقول عزّ وجلّ : وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء وذلك أنّي حرمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل ، وأحللت الأخرى منهما وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي إبتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها . فقال الله عزّ وجلّ ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا ، لأنّي أحللت البيع وحرّمت الربا والأمر أمري والخلق خلقي أقضي فيهم ما أشاء وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي " . اهـ . أقول : أمّا ما قاله في بيان الفرق بين الزيادتين فهو الصواب ، وما ذكره في معنى الربا هو الذي كان معهوداً عندهم ، وهو ما يسمّيه الفقهاء ربا النسيئة كما تقدّم . وأمّا قوله إنّهم كان يقال لهم هذا ربا محرّم وكانوا يجيبون بما حكى الله عنهم فليست الآية نصّاً فيه إذ الحكاية عن الأحوال بالأقوال من الأساليب المعروفة عند العرب ويتوقّف جعل القول على حقيقته على إثبات إعتقاد العرب بتحريم الربا أو على جعل الآية خاصّة باليهود . فإنّ الربا محرّم في شريعتهم وهم أشدّ الخلق مراباة وكانوا يستحلّون أكل أموال العرب بكلّ نوع من أنواع الباطل { قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] وإنّما حرّم علينا أكل أموال إخوتنا الإسرائيليين : ولا دليل على التخصيص ، بل الآيات نزلت في وقائع لغيرهم كما سيأتي . ثمّ إنّ ما علّل به كون إحدى الزيادتين ليست كالأخرى وهو أنّ الله حرّمها يقال فيه : إنها ليست مثلها في الواقع ونفس الأمر كما بيّن هو ، ولا في النفع والضرّ كما سنبيّن . ولذلك حرّمها الله تعالى فما حرّم الله تعالى شيئاً إلاّ لأنّه ضارّ في نفسه ، ولا أحلّ شيئاً إلاّ وهو نافع في نفسه . ثم قال تعالى : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ } تقدّم الكلام في معنى الوعظ وكون أحكام القرآن مقرونة بالمواعظ في تفسير آية 232 أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فوراً بلا تراخ ولا تردّد ، انتهاءً عمّا نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلّف ردّه إلى من أخذه منهم ، بل يكتفي منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئاً { وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ } يحكم فيه بعدله . ومن العدل أن لا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربّه ، ولكن العبارة تشعر بأنّ إباحة أكل ما سلف رخصة للضرورة وتومئ إلى أنّ رد ما أخذه من قبل النهي إلى أربابه الذين أخذ منهم من أفضل العزائم ألم تر أنّه عبّر عن إباحة ما سلف باللام ولم يقل كما قال بعد ذكر كفّارة صيد المحرم { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } [ المائدة : 95 ] وأنّه عقّب هذه الإباحة بإيهام الجزاء وجعله إلى الله والمعهود في أسلوبه أن يصل مثل ذلك بذكر المغفرة والرحمة ، كما قال في آخر آية محرّمات النساء { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 23 ] أباح أكل ما سلف قبل التحريم وأبهم جزاء آكله . لعلّه يغصّ بأكل ما في يده منه فيردّه إلى صاحبه ، ولكنّه صرّح بأشدّ الوعيد على من أكل شيئاً بعد النهي فقال { وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرّم بعد تحريمه فأولئك البعداء عن الإتّعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلاّ عمّا يضر بهم في أفرادهم أو جميعهم هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكونون خالدين فيها . وقد أوّل الخلود المفسّرون لتتفق الآية مع المقرّر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار . فقال أكثرهم إنّ المراد : ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته إعتقاداً : وردّه بعضهم بأنّ الكلام في أكل الربا وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم فهو ليس بمعنى استباحة المحرّم ، فإذا كان الوعيد قاصراً على الإعتقاد بحلّه لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل . والحقّ أن القرآن فوق ما كتب المتكلّمون والفقهاء يجب إرجاع كلّ قول في الدين إليه ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس . وما الوعيد بالخلود هنا إلاّ كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد ، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال . ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجّة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار ، إنتصاراً لأصحابه الأشاعرة . وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث . أمّا نحن فنقول : ما كلّ ما يسمّى إيماناّ يعصم صاحبه من الخلود في النار ، الإيمان إيمانان - إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه ، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه ، وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان ، متمكّنة في العقل بالبرهان ، مؤثّرة في النفس بمقتضى الإذعان ، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال ، بحيث يكون صاحبها خاضعاً لسلطانها في كلّ حال ، إلاّ ما لا يخلو عنه الإنسان ، من غلبة جهالة أو نسيان ، وليس الربا من المعاصي التي تنسى أو تغلب النفس عليها خفّة الجهالة والطيش ، كالحدّة وثورة الشهوة ، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة ، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله ، من الخلود في سخط الله ، ولكنّه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمداً ، إيثاراً لحبّ المال واللذّة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح . وأمّا الإيمان الأول فهو صوري فقط ، فلا قيمة له عند الله تعالى لأنّه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال ، كما ورد في الحديث . والشواهد على هذا الذي قرّرناه في كتاب الله تعالى كثيرة جدّاً وهو مذهب السلف الصالح ، وإن جهله كثير ممّن يدّعون أتباع السنّة حتّى جرّءوا الناس على هدم الدين ، بناءً على أنّ مدار السعادة على الإعتراف بالدين وإن لم يعمل به حتّى صار الناس يتبجّحون بارتكاب الموبقات مع الإعتراف بأنّها من كبائر ما حرّم كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنّه قال إنّني لا أنكر أنّني آكل الربا ولكنّني مسلم أعترف بأنّه حرام . وقد فاته أنّه يلزمه بهذا القول الإعتراف بأنّه من أهل هذا الوعيد وبأنّه يرضى أن يكون محارباً لله ولرسوله وظالماً لنفسه وللناس كما سيأتي في آية أخرى ، فهل يعترف بالملزوم أم ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ؟ نعوذ بالله من الخذلان . ثمّ بيّن الله تعالى الفرق بين الربا والصدقة ، إذ جاء الكلام عنه بعد الكلام عنها ببيان أثرهما فقال { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ } فسّروا محق الله الربا بإذهاب بركته وإهلاكه أو إهلاك المال الذي يدخل فيه وقد اشتهر هذا حتّى عرفه العامّة فهم يذكرون دائماً ما يحفظون من أخبار آكلي الربا الذين ذهبت أموالهم وخربت بيوتهم . وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه والحاكم وأخرجه ابن جرير في التفسير " إنّ الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل " . وقال الضحّاك إنّ هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه ممّا يتوقّع نفعه ، فلا يبقى لأهله منه شيء . وقال الأستاذ الإمام : ليس المراد بهذا المحق محق الزيادة في المال فإنّ هذا مكابرة للمشاهدة والإخبار ، وإنّما المراد به ما يلاقي المرابي من عداوة الناس وما يصاب به في نفسه من الوساوس وغيرها . أمّا عداوة الناس فمن حيث هو عدو المحتاجين وبغيض المعوزين ، وقد تفضي العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضرّات ، وإعتداء على الأموال والأنفس والثمرات ، وقد ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا إذ قام الفقراء فيها يعادون الأغنياء ويتألّب العمّال عليهم حتّى صارت هذه المسألة أعقد المسائل عندهم . وأمّا ما يصاب به في نفسه من الوساوس والأوهام فهو ما لا يعرفه إلاّ من راقب هؤلاء العابدين للمال وتلا أخبارهم . ولا أذكر عنه مثالاً على ذلك وما الأمثال فيه بقليلة . فمنهم من يشغله المال عن طعامه وشرابه وعن أهله وولده حتّى يقصر في حقّ نفسه وحقوقهم تقصيراً يفضي إلى الخسر أو المهانة والذلّ ، ومنهم من يركب لذلك الصعب ويقتحم الخطر حتّى يكون من الهالكين . وأقول : المحق في اللغة محو الشيء والذهاب به كمحاق القمر وكلّ ما لا يحسن المرء عمله فقد محقه كما في الأساس ، فلعلّ المراد بمحق الربا محو ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذّة وبسطة العيش والجاه والمكانة وزيادة الربا تذهب بذلك لإشتغال المرابي غالباً عن اللذّة وخفض المعيشة بولهه في ماله ولمقت الناس إيّاه وكراهتهم له كما علم ممّا تقدّم فهو لم يحسن التصرّف في التوصّل إلى ثمرة المال . وأمّا إرباء الصدقات فهو زيادة فائدتها وثمرتها في الدنيا وأجرها في الآخرة كما تقدّم في تفسير آيات الصدقة ومضاعفة الله إيّاها " فمعنى " يمحق الله الربا ويربي الصدقات . أنّ سنّته قضت في عابد المال الذي لا يرحم معوزاً ولا ينظر معسراً إلاّ بمال يأخذه ربا بدون مقابل أن يكون محروماً من الثمرة الشريفة للثروة وهي كون صاحبها ناعماً عزيزاً شريفاً عند الناس لكونه مصدراً لخيرهم والتفضّل عليهم وإعانتهم على زمنهم ، كما يكون محروماً في الآخرة من ثواب المال فهو في عدم إنتفاعه بماله هذا الضرب من الإنتفاع كمن محق ماله وهلك . وقضت سنّته في المتصدّق أن يكون إنتفاعه بماله أكبر من ماله ( وقد تقدّم شرح ذلك فلا نعيده ) وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين أنّه صلى الله عليه وسلم قال : " من تصدّق بعدل ثمرة من كسب طيّب - ولا يقبل الله إلاّ طيّباّ - فإنّ الله تعالى يقبلها بيمينه ثمّ يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه ، حتّى تكون مثل الجبل " والحديث من باب التمثيل كما هو ظاهر . قال تعالى : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } قالوا : لا يحبّ لا يرضى ، والكفّار المستحلّ للربا ، والأثيم المقيم على الإثم . وأقول : إنّ حبّ الله للعبد شأن من شؤونه يعرف باستعمال العبد إتمام حكم الله في صلاح عباده ونفي هذا الحبّ يعرف بضدّ ذلك . والكفّار هنا هو المتمادي على كفر إنعام الله عليه بالمال إذ لا ينفق منه في سبيله ولا يواسي به المحتاجين من عباده والأثيم هو الذي جعل المال آلة لجذب ما في أيدي الناس إلى يده فافترض إعسارهم ، لاستغلال إضطرارهم . ثمّ قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي صدّقوا تصديق إذعان بما جاء من عند الله في هذه المسألة كغيرها { وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } أي الأعمال التي تصلح بها نفوسهم وشأن من يعيش معهم ، ومنها مواساة المحتاجين ، والرحمة بالبائسين ، وإنظار المعسرين ، ومن سنّة القرآن أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح في مقام الوعد لأنّ الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان يتبعه العمل الصالح حتماً لا يتخلّف عنه وهذا برهان على ما قلناه في تفسير الآية السابقة { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } التي تذكر المؤمن بالله تعالى فتزيد في إيمانه وحبّه لربّه ومراقبته له حتّى تسهل عليه طاعته في كلّ شيء { وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } التي تزكّي النفس من رذيلة البخل والحرص وتمرنها على أعمال البرّ حتّى تسهل عليها ويكون ترك أكل أموال الناس بالربا أسهل . وذكر الصلاة والزكاة بعد الأعمال الصالحة التي تشملهما لأنّهما أعظم أركان العبادة النفسية والمالية ، فمن أتى بهما كاملتين سهل عليه كلّ عمل صالح { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدّم نظير هذا الجزاء قريباً فلا حاجة لإعادة التذكير بمعناه . وجملة الآية تعريض بآكل الربا - كأنّه يقول : لو كان من هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلخ ، لكفّ عنه ولكنّه كفّار أثيم - وتمهيد لما بعدها وهو { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ } وصفهم بالإيمان وذكرهم بالتقوى ثمّ انتقل إلى الأمر بترك ما بقي من الربا لمن كانوا يرابون منهم عند غرمائهم ، ثمّ وصل ذلك بقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } قال الأستاذ الإمام أي إن كان إيمانكم تامّاً شاملاً لجميع ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم من الأحكام فذروا بقايا الربا وقد عهد في الأسلوب العربي أن يقال : إن كنت متّصفاً بهذا الشيء فافعل كذا : ويذكر أمراً من شأنه أن يكون أثرا لذلك الوصف . أقول : ويؤخذ من هذا أنّ من لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله تعالى عنه وتوعده عليه فلا يعدّ من أهل هذا الإيمان التامّ الشامل ؛ الذي له السلطان الأعلى على إرادة العامل ، وهذا يؤيّد ما قلناه في مسألة خلود من عاد إلى الربا بعد تحريمه في النار . ومن الناس من يؤمن ببعض الكتاب إيماناً يبعث على العمل ويكفر ببعض فلا يذعن له ويعمل به ، فهو يجحده بفعله وإن أقر به بلسانه ، ولا يعتدّ الله بإيمانه إلاّ إذا صدق قلبه وعمله لسانه : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " . { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي فإن لم تتركوا ما بقي لكم من الربا كما أمرتم فاعلموا واستيقنوا بأنكم على حرب من الله ورسوله إذ نبذتم ما جاءكم به رسوله عنه . فقوله فأذنوا كقوله فاعلموا وزناً ومعنى وهي قراءة الجمهور ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عيّاش ( فآذنوا ) بمدّ الألف من الإيذان بمعنى الإعلام أي فأعلموا أنفسكم - أي ليعلم بعضكم بعضاً - أو المسلمين بأنّكم محاربون لله ورسوله بالخروج عن الشريعة وعدم الخضوع للحكم وهذا يستلزم أن يكونوا عالمين بذلك ، كأنّه يقول إنّ عدم الخضوع للأمر خروج عن الشريعة فهو إعلام للمسلمين بأنّكم خارجون عن حكم الله ورسوله محاربون لهما . فسّر الأستاذ الإمام حرب الله لهم بغضبه وإنتقامه . قال ونحن إن لم نر أثر هذا في الماضين فإنّنا نراه في الحاضرين ممّن أصبحوا بعد الغنى يتكفّفون ، ومن باتوا والمسألة الإجتماعية ( مناصبة العمال لأرباب الأموال ) تهدّدهم بالويل والثبور . وأمّا الحرب من رسوله لهم فهي مقاومتهم بالفعل في زمنه ، واعتبارهم أعداء له في هذا الزمن الذي لا يخلفه فيه أحد يقيم شرعه { وَإِنْ تُبْتُمْ } ورجعتم عن الربا امتثالاً وخضوعاً { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ } غرماءكم بأخذ الزيادة { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بنقص شيء من رأس المال بل تأخذونه كاملاً . " روى ابن جرير عن السدي أنّ الآيتين نزلتا في العبّاس بن عبد المطّلب - عمّ النبي صلى الله عليه وسلم - ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية أسلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله ذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا . وأخرج عن ابن جريج قال كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع فلمّا كان فتح مكّة استعمل عتّاب بن أسيد على مكّة وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبا بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . فكتب بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب ، وقال : " إن رضوا وإلاّ فآذنهم بحرب " . وأخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده من طريق الكلبي عن ابن صالح عن ابن عبّاس نحوه . وفي الآية أنّ الربا حرّم لأنّه ظلم ولكن بعض ما يعده الفقهاء منه لا ظلم فيه بل ربّما كان فيه فائدة للآخذ والمعطي . { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } أي وإن وجد غريم معسر من غرمائكم فأنظروه وأمهلوه إلى وقت يسار يتمكّن فيه من الأداء . وقرأ حمزة ونافع ميسرة بضم السين وهي لغة كالفتح الذي قرأ به الباقون . روي أنّ بني المغيرة قالوا لبني عمرو بن عمير في القصّة السابقة - نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصّتهم كالآيتين قبلها { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . أصل { تَصَدَّقُواْ } تتصدّقوا قرأ عاصم بتخفيف الصاد بحذف إحدى التاءين والباقون بتشديدها للإدغام أي وتصدّقكم على المعسر بوضع الدين عنه وإبرائه منه خير لكم من إنظاره فهو ندب إلى الصدقة والسماح للمدين المعسر لما فيه من التعاطف والتراحم بين الناس وبرّ بعضهم ببعض وذلك من أعظم أسباب هناء المعيشة وحسن حال الأمّة ولذلك نبّه إلى العلم بذلك فقال : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } لأنّ من لا يعلم وجه الخيرية في شيء لا يعمله ومن علم عمل حتماً أي إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم عملتم به وعاملتم إخوانكم بالمسامحة فعليكم بالعلم الذي يهديكم إلى خير العمل الذي يقرّب بعضكم من بعض ويجعلكم متحابين متوادّين . وقد استدلّ بعضهم بالآية على وجوب إنظار المعسر مطلقاً وبعضهم على وجوب ذلك في دين الربا خاصّة وقالوا إنّ هذا الواجب يفضله شيء مندوب وهو الإبراء والتصدّق على المعسر فإنّه ليس بواجب إتّفاقاً وقيل إنّ المراد بالتصدّق هنا الإنظار كأنّه يقول وهذا الإنظار الذي أمرتم به خير لكم وهو خلاف المتبادر . ثمّ ختم جلّ ثناؤه آيات الربا بهذه الموعظة العامّة التي تسهل على المؤمن إذا وعاها السماح بالمال بل وبالنفس رجاء أن يلقى الله تعالى على أحسن حال من الفضل والكمال فقال { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } قرأ أبو عمرو ويعقوب ( ترجعون ) بفتح الفاء وكسر الجيم من رجع والباقون ( ترجعون ) بضمّ التاء وفتح الجيم من أرجع بالبناء للمفعول . أي واحذروا يوماً عظيماً ترجعون فيه من غفلاتكم وشواغل الحياة الجسدية التي تشغلكم عن مراقبة الله فتصيرون إلى الله أي إلى الاستغراق في العلم والشعور بأنّه لا سلطان إلاّ سلطانه ولا ملك إلاّ له ذكر معنى ذلك الأستاذ الإمام وقال ما معناه مبسوطاً أمّا حقيقة الرجوع فلا تصحّ هنا لأنّنا ما غبنا عن الله طرفة عين ولا يمكن أن نغيب عنه فنرجع إليه ، ولكن الإنسان في غفلته وشغله بشؤونه الحيوانية يتوّهم أنّ له استقلالاً تامّاً بنفسه وأنّ له رؤساء وأُمراء يخافهم ويرجوهم ويرى أنّه تعرض له حاجات وضرورات يجب عليه أن يستعدّ لها بتكثير المال وجمعه من حرام وحلال . فأمثال هذه الخواطر تكون له شغلاً شاغلاً ربّما يستغرق وقته فيصرفه عن التفكر في منافع التسامح في معاملة الناس والتصدّق على المحتاج منهم فكان أنفع دواء لمرض إنصراف النفس عن التفكّر في سلطان الله وقدرته ، والتقرّب إليه بما فيه تمام حكمته ، التذكير بيوم القيامة الذي تبطل فيه هذه الشواغل ، وتتلاشى هذه الصوارف ؛ حتّى لا يشغل الإنسان فيه شيء ما عن الله تعالى وما أعدّه من الجزاء للعباد على قدر أعمالهم . ولذلك قال بعد التذكير بالرجوع إليه { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي تجازي على ما عملت في الدنيا جزاءً وافياً { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا ينقصون من أجورهم شيئاً ، بل قد يزاد المحسنون منهم فيعطون أكثر ممّا يستحقّون على إحسانهم كما ثبت في آيات أخرى أخرج البخاري عن ابن عبّاس أنّ آخر آية نزلت آية الربا . وأخرج البيهقي عن عمر مثله . قال في الإتقان والمراد بها { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ } وعند أحمد وابن ماجه عن عمر . من آخر ما نزل آية الربا : وعند ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر فقال : إنّ من آخر القرآن نزولاً آية الربا . وأخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عبّاس قال آخر شيء نزل من القرآن { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } الآية . وأخرج ابن مردويه نحوه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس بلفظ : آخر آية نزلت . وأخرجه ابن جرير من طريق العوفي والضحّاك عن ابن عبّاس . وقال الفريابي في تفسيره حدّثنا سفيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال آخر آية نزلت { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } الآية وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يوماً . ثمّ ذكر في الإتقان مثله عن سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم إلاّ أنّه قال عاش بعد نزول هذه الآية تسع ليال ومثله عن ابن جريج عند ابن جرير . وعن ابن شهاب عند أبي عبيد أنّ آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين . وعن سعيد بن المسيب عند ابن جرير مثل هذا اللفظ في آية الدين فقط . قال السيوطي بعد ذلك ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا وآية { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } وآية الدين لأنّ الظاهر أنّها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ، ولأنّها في قصّة واحدة ، فأخبر كلّ عن بعض ما نزل بأنّه آخر وذلك صحيح . اهـ . أي إنّ كلّ مخبر ذكر ذلك في سياق يقتضيه . وقيل غير ما ذكر في آخر القرآن نزولاً وفي مدّة بقائه صلى الله عليه وسلم بعد نزول { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } الآية . وورد أنّه قال : " اجعلوها بين آية الربا وآية الدين " وفي رواية أخرى " جاءني جبريل فقال اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة " وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم في ترتيب الآيات . فصل في حكمة تحريم الربا قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلّموا وتربّوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس بل ومن هم أكبر من هؤلاء إنّ المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوّة بسبب تحريم الربا فإنّهم لإحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ومن كان غنيّاً منهم لا يعطي بالربا . فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو . ويجعلون هذه المسألة أهمّ المسائل الإجتماعية والعمرانية عند المسلمين يعنون أنّه ما جنى على المسلمين إلاّ دينهم . قال : وهذه أوهام لم تقل عن اختبار فإنّ المسلمين في هذه الأيّام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم . فإن سلّمنا أنّهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنّهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوّض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرّم علينا ، وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كلّ شيء ؟ الحقّ أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهرياً فلم يبق عندهم منه إلاّ تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم فمن يدّعي أنّ الدين عائق لهم عن الترقّي فقد عكس القضيّة وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرّاً منها وإنّما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمّل في حالة الأمّة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ولو عرفت الأمّة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت . أقول : يعني أنّها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علّة الرقي والإرتفاع ، هي عين العلّة للسقوط والإنحطاط ، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا فإنّها أضاعت ثروتنا وملكنا وكان الدين لو اتّبعناه عاصماً منها فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ونذكر من سيّئات الدين أنّه حرم الربا ولو لم يحرّمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر ممّا يكسبون الآن . وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إنّ أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ولو أنّنا حافظنا على أمر الدين فيه لكنّا بقينا لأنفسنا : فتأمّل قوله : بقينا لأنفسنا . وقال في تفسير : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ } إلخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتّفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم ، فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضاً ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمناً طويلاً ثمّ قلّدوا غيرهم . ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمّونها شرعية ، وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع ، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتّفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مئة إلى سنة بمئة وعشرة مثلاً فيعطيه المئة نقداً ويبيعه سبحة بعشرة في الذمّة فيشتريها ثمّ يهديها إليه على أنّ الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدّاً ولكن الذين يأكلونه غيرهم كثيرون جدّاً حتى لا تكاد تجد متموّلاً في هذه البلاد سالماً من الاستدانة بالربا إلاّ قليلاً والسبب في ذلك تقليد حكّامهم في هذه السنة بل كثيراً ما كان حكّام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاماً لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات ومن هنا نرى أنّ الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا . حتّى كأنّه ضرورة يضطرون إليها . ومن حجّتهم عليها أنّ البيع مثل الربا ، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقداً بعشرين درهماً نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة الدراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهماً لأنّ السبب في كلّ من الزيادتين الأجل . هكذا يحتجّ الناس في أنفسهم كما تحتجّ الحكومات بأنّها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها . والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثّرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين ، ولكنّه على سنّة هداية الدين وهو أنّ الله أحلّ البيع وحرّم الربا . وقد جعل أكثر المفسّرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنصّ ، أي إنّكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجّة بالحجّة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجّة في ردّ القرآن لذلك القول إذ لم يكن عندهم من الإصطلاحات الفقهية المسلّمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلاّ به ولا ينظرون إليها إلاّ لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه . والمعنى الصحيح أنّ زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنّما يصحّ إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كلّ واحد ينتظر الفرصة التي تمكّنه من إفتراس الآخر وأكله ، ولكن هاهنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كلّ منهم عوناً للآخر لا سيّما عند شدّة الحاجة إليه ولذلك حرّم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم وأحلّ البيع الذي لا يختصّ الربح فيه بأكل الغني الواحد مال الفقير الفاقد . فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس . وهناك وجه آخر وهو أنّ الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كلّ واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقّاً على آخر بغير عمل لأنّه باطل لا مقابل له وبهذه السنّة أحل البيع لأنّ فيه عوضاً يقابل عوضاً ، وحرّم الربا لأنّه زيادة لا مقابل لها . والمعنى أنّ قياسكم فاسد لأنّ في البيع من الفائدة ما يقتضي حلّه ، وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه . ذلك أنّ البيع يلاحظ فيه دائماً انتفاع المشتري بالسلعة إنتفاعاً حقيقيّاً لأنّ من يشتري قمحاً مثلاّ فإنّما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كلّ ذلك ينتفع به إنتفاعاّ حقيقيّاً ( وأقول والثمن في هذا مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأمّا الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول وهي لا تعطى بالرضى والاختيار بل بالكره والاضطرار ) . وثمّ وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أنّ النقدين إنّما وضعا ليكونا ميزاناً لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم . فإذا تحوّل هذا وصار النقد مقصوداً بالاستغلال فإنّ هذا يؤدّي إلى إنتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال ، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك ، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأنّ الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء . ولو وقف الناس في استغلال المال عند حدّ الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرّات . ولكن أهواء الناس ليس لها حدّ تقف عنده بنفسها ( أي فلا بدّ لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرّم الله الربا وهو لا يشرّع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين ، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامّة الشاملة . وأمّا واضعو القوانين فإنّهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمّونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإنّنا نرى البلاد التي أحلّت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقلّ فيها التعاطف والتراحم ، وحلّت القسوة محلّ الرحمة حتّى إنّ الفقير فيها يموت جوعاً ولا يجد من يجود عليه بما يسدّ رمقه فمنيت من جرّاء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمّونه المسألة الإجتماعية وهي مسألة تألّب الفعلة والعمّال على أصحاب الأموال وإعتصابهم المرّة بعد المرّة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع ، لأنّ أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقلّ ممّا يستحقّونه ، وهم يتوقّعون من عاقبة ذلك إنقلاباً كبيراً في العالم . ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شرّ هذه المسألة وقد صرّح كثير منهم بأنّه لا علاج لهذا الداء إلاّ رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين . وقد ألّف تولستوي الفيلسوف الروسي كتاباً سمّاه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره : إنّ أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرقّ ولكنّها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربّما استعبدهم المال يوماً ما . قال الأستاذ رحمه الله تعالى : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقلّ الإسعاد والتعاون مذ فشا فيها الربا وإنّني لأعي وأدرك ما مرّ بي منذ أربعين سنة . كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضاً فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين إنّه لا يحدّث الناس بأنّه اقترض منه لأنّه يستحي أن يكون في نظرهم متفضّلاً عليه . قال : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعدّدة ورأيت من وفاء من يقترض أنّه يغني المقرض عن المطالبة بله المحاكمة . ثمّ بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضاً طلبه إلاّ بسند وشهود . فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل ، وتقسم عليهم أو تحلفهم ألا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم . قلت فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلاّ بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلاّ أنّني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي . قلت : وقد أخبرني أنّ هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده رحمهما الله تعالى . هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمة تحريم الربا وما قاله في مضرّة استغلال النقد مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر . وإنّني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من الأحياء لما فيها من الحسن والفوائد قال رحمه الله تعالى : " من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطرّ الخلق إليهما من حيث إنّ كلّ إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عمّا يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه ، كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربّما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بدّ بينهما من معاوضة ولا بدّ في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكلّ مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتّى يقال يعطي منه مثله في الوزن أو الصورة . وكذا من يشتري داراً بثياب أو عبداً بخفّ أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدري إنّ الجمل كم يساوي بالزعفران فتتعذّر المعاملات جدّاً فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كلّ واحد رتبته ومنزلته حتّى إذا تقرّرت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتّى تقدّر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة فهما من حيث إنّهما متساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنّما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربّما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حقّ صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حقّ من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذا خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل . ولحكمة أخرى وهي التوسّل بهما إلى سائر الأشياء لأنّهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنّه ملك كلّ شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلاّ الثوب فلو احتاج إلى طعام ربّما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأنّ غرضه في دابة مثلاً فاحتيج إلى شيء آخر في صورته كأنّه ليس بشيء وهو في معناه كأنّه كلّ الأشياء والشيء إنّما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصّة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي كلّ لون . فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كلّ غرض وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره . فهذه هي الحكمة الثانية . وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها . فكلّ من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما فإذا من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما ، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنّه إذا كنز فقد ضيّع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصّة ولا لعمرو خاصّة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنّهما حجران وإنّما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس . وعلامة معرفة المقادير مقوّمة للمراتب فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحات الموجودات بخطّ إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة أخبر هؤلاء العاجزين بكلام سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذي عجزوا عن إدراكه فقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] وكلّ من اتّخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالاّ ممّن كنز ، لأنّ مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخسّاء الناس والحبس أهون منه . وذلك أنّ الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضّة في حفظ المائعات عن أن تتبدّد وإنّما الأواني لحفظ المائعات ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود . فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية . وقيل له : " من شرب في آنية من ذهب أو فضّة فكأنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم " . وكلّ من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنّهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتّجر في عينهما فقد اتّخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة . إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاماً ودابة ، إذ ربّما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصّل به إلى مقصوده فإنّهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما . وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام ، كما قال النحويون إنّ الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره . وكموقع المرآة من الألوان فأمّا من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتّخذ التعامل على النقد غاية عمله لبقي النقد متقيّداً عنده وينزل منزلة المكنوز . وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم ، كما أنّ حبسه ظلم . فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلاّ اتخاذ النقد مقصوداً للإدّخار وهو ظلم " . اهـ . المراد من كلام الغزالي ويليه حكم تحريم أنواع الربا كلّها . من تدبّر ما قاله الإمامان علم أنّ تحريم الربا هو عين الحكمة والرحمة ، الموافق لمصلحة البشر المنطبق على قواعد الفلسفة ، وأنّ إباحته مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشؤون الإجتماع ، زادت في أطماع الناس وجعلتهم مادّيين ، لا هم لهم إلاّ الاستكثار من المال وكادت تحصر ثروة البشر في أفراد منهم وتجعل بقية الناس عالة عليهم . فإذا كان المفتونون من المسلمين بهذه المدنية ينكرون من دينهم تحريم الربا بغير فهم ولا عقل فسيجيء يوم يقرّ فيه المفتونون بأنّ ما جاء به الإسلام هو النظام الذي لا تتمّ سعادة البشر في دنياهم ، فضلاً عن آخرتهم إلاّ به ، يوم يفوز الإشتراكيون في الممالك الأوروبية ويهدمون أكثر دعائم هذه الأثرة المادية ، ويرغمون أنوف المحتكرين للأموال ويلزمونهم برعاية حقوق المساكين والعمّال . الربا المحرّم بنص القرآن والربا المحرّم بأحاديث الآحاد والقياس التفرقة بين ما ثبت بنصّ القرآن من الأحكام وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورية فإنّ من يجحد ما جاء في القرآن يحكم بكفره ومن يجحد غيره ينظر في عذره . فما من إمام مجتهد إلاّ وقد قال أقوالاً مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة لأسباب يعذر بها وتبعه الناس على ذلك . ولا يعدّ ذلك أحد عليهم خروجاً عن الدين حتّى من لا عذر له في التقليد ، فما بالك بمخالفة بعضهم بعضاّ في الأقوال الإجتهادية التي تختلف فيها أقيستهم . وقد فشا بين المسلمين أكل الربا مع ذلك الوعيد الذي نطق به القرآن وأكثرهم يعتقدون أنّ لفظ الربا فيه يتناول جميع ما قال فقهاء مذاهبهم أنّه منه حتّى بيع الحلي من الذهب بجنيهات يزيد وزنها على وزنه لمكان الصنعة في الحلي . وبعض العقود التي يعدها الفقهاء فاسدة أو باطلة . وإنّا نعلم أنّه لا يكاد يوجد في عشرات الألوف من المسلمين رجل واحد يتحامى كلّ ما عدّه الفقهاء من الربا ولعلّه يندر في الفقهاء أنفسهم من يطبّق شراء الحلي للنساء على قواعد الفقه ، كأن يشتري ما كان من الذهب بفضّة ، وما كان من الفضّة بذهب يداً بيد فيهما ، أو يتّخذ لذلك حيلة فقهية . فالناس في أشدّ الحاجة إلى التمييز بين الربا القطعي المتوعّد عليه في القرآن بالخلود في النار وبين غيره ممّا اختلف فيه أو كان وعيده دون وعيده لأنّ ضرره دون ضرره وإليك البيان . قد علم ممّا تقدّم في تفسير الآيات أنّها نزلت في وقائع كانت للمرابين من المسلمين قبل التحريم . فالمراد بالربا فيها ما كان معروفاً في الجاهلية من ربا النسيئة أي ما يؤخذ من المال لأجل الإنساء أي التأخير في أجل الدين . فكان يكون للرجل على آخر دين مؤجّل يختلف سببه بين أن يكون ثمن شيء اشتراه منه أو قرضاً اقترضه فإذا جاء الأجل ولم يكن للمدين مال يفي به طلب من صاحب المال أن ينسئ له في الأجل ويزيد في المال وكان يتكرّر ذلك حتّى يكون أضعافاً مضاعفة . فهذا ما ورد القرآن بتحريمه لم يحرّم فيه سواه وقد وصفه في آية آل عمران التي جاءت دون غيرها بصيغة النهي وهي قوله عزّ وجلّ : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً } [ آل عمران : 130 ] وهذه أوّل آية نزلت في تحريم الربا فهو تحريم لربا مخصوص بهذا القيد وهو المشهور عندهم . فقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ } الآيات يحمل الربا فيها على ما سبق ذكره في النهي الأول عملاً بقاعدة إعادة المعرفة ووفاقاً لقاعدة حمل المطلق على المقيّد ويدعم ذلك مقابلته بالصدقة حيث ذكر وتسميته ظلماً . وقد أورد ابن جرير وهو إمام المفسّرين وأعلمهم بالرواية . روايات كثيرة في ذلك أشرنا إليها في تفسير الآيات . وهذا النوع من الربا هو أشدّها ضرراً وهو مذموم عند كلّ عاقل بل هو ممنوع في قوانين الأمم التي تبيح غيره من أنواع الربا . قال ابن القيّم في ( إعلام الموقعين ) الربا نوعان جلي وخفي ، فالجلي حرّم لما فيه من الضرر العظيم ، والخفي حرّم لأنّه ذريعة إلى الجلي . فتحريم الأول قصداً وتحريم الثاني وسيلة . فأمّا الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخّر دَينه ويزيده في المال وكلّما أخّره زاد في المال حتّى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة . وفي الغالب لا يفعل ذلك إلاّ معدم محتاج فإذا رأى المستحقّ يؤخّر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلّف بذلها ليفتدى من أسر المطالبة والحبس ويدافع من وقت إلى وقت ، فيشتدّ ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدَّين حتّى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر . فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الربا ولعن آكله ومؤكّله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله . ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة وغيره ولهذا كان أكبر الكبائر ، وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا يشكّ فيه ؟ فقال : هو أن يكون له دّين فيقول له أتقضي أم تربي ؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل . وقد جعل الله سبحانه وتعالى الربا ضدّ الصدقة ، فالمرابي ضدّ المتصدّق قال الله تعالى : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ } وقال : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ } [ الروم : 39 ] وقال : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 130 - 131 ] ثمّ ذكر الجنّة التي أعدّت للمتّقين { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ } [ آل عمران : 134 ] وهؤلاء ضدّ المرابين . فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم الناس وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليهم . وفي الصحيحين من حديث ابن عبّاس عن أسامة بن زيد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنّما الربا في النسيئة " ومثل هذا يراد به حصر الكمال ، وأنّ الربا الكامل إنّما هو في النسيئة كما قال : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] إلى قوله : { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 4 ] وكقول ابن مسعود : " وإنّما العالم الذي يخشى الله " . اهـ . كلام ابن القيّم في الربا الجلي الذي لا شكّ فيه . وأورد بعد ذلك فصلاّ في ربا الفضل الذي حرّم من باب سدّ الذرائع وهو أن يبيع الدرهم بالدرهمين وذكر خلاف الفقهاء فيه . أقول : فهذا الربا الذي سمّاه العلاّمة ابن القيّم بالربا الجلي . وقال الإمام أحمد : إنّه الربا الذي لا يشكّ فيه المحرّم بنصّ القرآن وحده : هو هو ربا النسيئة الذي كانوا يضاعفونه على الفقير الذي لا يجد وفاءً بتوالي الأيّام والسنين ، هو هو مخرّب البيوت ، ومزيل الرحمة من القلوب ، ومولّدة العداوة بين الأغنياء والفقراء . وما معنى حصر النبي صلى الله عليه وسلم الربا فيه إلاّ بيان ما أراد الله تعالى من الربا الذي توعّد عليه بأشدّ الوعيد الذي توعّد به على الكفر ، فهل يسمح لعاقل عقله أن يقول : إنّ تحريم هذا الربا ضارّ بالناس أو عائق لهم عن إنماء ثروتهم ؟ إذا كانت الثروة لا تنمو إلاّ بتخريب بيوت المعوزين لإرضاء نهمة الطامعين ، فلا كان بشر يستحسن إنماء هذه الثروة . وقد علمت أنّه لا يدخل في هذا الربا الذي لا يشكّ فيه كما قال الإمام أحمد شراء أسورة من الذهب بجنيهات تزيد عليها وزناً ، لأنّ هذه الزيادة في مقابلة صنعة الصانع وقد تكون قيمة الصنعة أعظم من قيمة مادة المصنوع . فإنّه لا نسيئة في هذا البيع ، بل ولا رباّ مقابل له ليكون باطلاً ولا ضرر فيه على المشتري ولا ظلم ولا يدخل فيه أيضاً من يعطي آخر ما لا يستغلّه ويجعل له من كسبه حظّاً معيّناً لأنّ مخالفة قواعد الفقهاء في جعل الحظّ معيّناً قلّ الربح أو كثر لا يدخل ذلك في الربا الجلي المركّب المخرّب للبيوت لأنّ هذه المعاملة نافعة للعامل ولصاحب المال معاً وذلك الربا ضارّ بواحد بلا ذنب غير الإضطرار ونافع لآخر بلا عمل سوى القسوة والطمع . فلا يمكن أن يكون حكمهما في عدل الله واحداً بل لا يقول عادل ولا عاقل من البشر إنّ النافع يقاس على الضارّ ويكون حكمهما واحداً . إن كان شراء ذلك الحلي وهذا التعامل من الربا الخفي الذي يمكن إدخاله في عموم روايات الآحاد في بيع أحد النقدين بالآخر ونحو ذلك فهو محرّم لسدّ الذرائع ، كما قال ابن القيّم لا لذاته وهو من الربا المشكوك فيه لا من المنصوص عليه في القرآن الذي لا شكّ فيه فليس لنا أن نكفّر منكر حرمته ونحكم بفسخ نكاحه ونحرّم دفنه بين المسلمين وليتأمّل الذين لا يفرّقون بين الربا المحرّم في القرآن وبين غيره مقدار الحرج إذا حكموا بأنّ كلّ من إشترى حلية من الذهب بنقد منه وحلية من الفضّة بنقد منها ، وكان النقد غير مساوٍ للحلي في الوزن أو أجل شيئاً من ثمنه فهو كافر إن استحلّ ذلك ومرتكب أكبر الكبائر محارب لله ولرسوله إن كان فعله مع إعتقاد حرمته . ولو كان مثل ذلك من المنصوص الذي لا شكّ فيه لما وقع فيه خلاف وقد اختلف الصحابة والأئمّة ومن بعدهم من الفقهاء في كثير من مسائل الربا . ومن ذلك بيع الحلية فقد أوضح ابن القيّم الحجّة على جواز بيعها بجنسها من غير إشتراط المساواة في الوزن وممّا قال في ذلك : إنّ ربا الفضل إنّما حرّمه الله لسدّ الذريعة . لا لذاته وما حرّم سدّاً للذريعة أُبيح للمصلحة . وممّن جوّز من الصحابة والتابعين ربا الفضل مطلقاً عبد الله بن عمر ولكن رووا عنه أنّه رجع عن ذلك وابن عبّاس ، واختلف في رجوعه ، وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير واستدلّوا بحديث الصحيحين المتقدّم " إنّما الربا في النسيئة " فلو كان ربا الفضل كربا النسيئة لم يقع هذا الخلاف بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين . والغرض ممّا تقدّم كلّه أن نفهم في تفسير القرآن ما حرّم القرآن من الربا وتوعد عليه بأشدّ الوعيد وأن نفهم حكمته وانطباقه على مصلحة البشر وموافقته لرحمة الله تعالى بهم ، وكونه لا حرج فيه ولا ضرر . وأمّا ما ورد في روايات الآحاد وما قاله العلماء والفقهاء ممّا ليس في القرآن فليس التفسير بموضع لبيانه وقد تقدّم في كلام الأستاذ وكلام حجّة الإسلام وكلام العلاّمة ابن القيّم نتف تشعر بحكمة بعضه وليطلب تعليل باقيه من كلام الأخيرين من شاء والله أعلم وأحكم .