Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 282-283)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في وجوه الإتّصال بين هاتين الآيتين وما قبلهما صفوة ما قال المفسّرون موضحاّ ونذكر صفوة ما قاله كذلك : الكلام في الأموال بدأ بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله وذلك محض الرحمة وثنّى بالنهي عن الربا الذي هو محض القساوة ثمّ جاء بأحكام الدين والتجارة والرهن أقول : وهي محض العدالة فقد أمرنا الله ببذل المال حيث ينبغي البذل وهو الصدقة والإنفاق في سبيله ، وبتركه حيث ينبغي الترك وهو الربا ، وبتأخيره حيث ينبغي التأخير وهو إنظار المعسر وبحفظه حيث ينبغي الحفظ وهو كتابة الدَّين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات وأخذ الرهن إذا لم يتيسّر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد . ذلك بأنّ من يضيع ماله بإهمال المحافظة عليه لا يكون محموداً عند الناس ولا مأجوراً عند الله ، كما قال الحسن عليه الرضوان في المغبون بالبيع . قال الأستاذ الإمام : ولمّا كانت سلطة صاحب الربا قد زالت بتحريمه ولم يبق له إلاّ رأس المال وقد أمر بإنظار المعسر فيه ، وكان لا بدّ لحفظه من كتابته إذ ربّما يخشى ضياعه بالإنظار إلى الأجل - جاء بعد أحكام الربا بأحكام الدَّين ونحوه ويقول بعض المفسرين : وله الحقّ ، إنّه تقدّم في الآيات طلب الإنفاق والتصدّق ثمّ حكم الربا الذي يناقض الصدقة ثمّ جاء هنا بما يحفظ المال الحلال لأنّ الذي يؤمر بالإنفاق والصدقة ، ويترك الربا لا بدّ له من كسب ينمي ماله ويحفظه من الضياع ليتسنّى له القيام بالإنفاق في سبيل الله ولا يضطرّ بالفاقة إلى الوقوع فيما حرّم الله . وهذا يدلّ على أنّ المال ليس مذموماً لذاته في دين الله ولا مبغضاً عنده تعالى على الإطلاق كيف وقد شرّع لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه بأن نستعمل عقولنا في تعرّفها ونوجّه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها . ففي آية الدَين بعد ما تقدّم احتراس أو استدراك مزيل ما عساه يتوهّم من الكلام السابق وهو أنّ المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله والتشديد في تحريم الربا يدلاّن على أنّ جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما هو ظاهر نصوص بعض الأديان السابقة . فكأنه يقول إنّا لا نأمركم بإضاعة المال وإهماله ، ولا بترك استثماره واستغلاله ، إنّما نأمركم بأن تكسبوه من طرق الحلّ ، وتنفقوا منه في طرق الخير والبرّ ، أقول ويؤيّد هذا المعنى قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً } [ النساء : 5 ] أي تقوم وتثبت بها منافعكم ومصالحكم وحديث " نعما المال الصالح للمرء الصالح " رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح وإنّما المذموم في الشرع أن يكون الإنسان عبداً للمال ، يبخل به ويجمعه من الحرام والحلال ، كما ورد في حديث أبي هريرة عند البخاري " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم " الحديث . ولولا أنّ إزالة هذا الوهم مقصودة لما جاءت آية الدَّين بما جاءت به من المبالغة والتأكيد في كتابة الدَّين والإشهاد عليه مع ما يعهد في أسلوب القرآن من الإيجاز لا سيّما في الأحكام العملية وقد عدّ القفّال هذه التأكيدات في الآية فبلغت تسعة . أقول وفي الآية الأولى خمسة عشر أمراً ونهياً . وذكر الرازي وجهاً آخر للإتّصال في النظم عزاه إلى قوم من المفسّرين " قالوا إنّ المراد بالمداينة السلم فالله سبحانه وتعالى لمّا منع الربا في الآية المتقدّمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أنّ جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء لا لذّة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلاّ وضع الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل تلك اللذّة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً " . اهـ . وأقول إنّ الفرق بين الربا القطعي المحرّم في القرآن وبين السلم أنّ الربح في السلم ليس من شأنه أن يكون أضعافاً مضاعفة كربا النسيئة ولولا ذلك لم يظهر لتحريم الربا مع إباحة السلم فائدة إذ ليس في أمور المكاسب والمعايش تعبّد لا يعقل . وإذ قد فهمت وجه اتّصال الآيتين بما قبلهما فهاك تفسيرهما وفيهما عدّة أحكام : 1 - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } تداينتم داين بعضكم بعضاً ، وهو يأتي بمعنى تعاملتم بالدَّين وبمعنى تجازيتم ولمّا قال بدَين تعيّن المعنى بالنصّ القطعي والمراد بالدَّين المال الذي يكون في الذمّة لا المصدر . وقد حمل المداينة بعضهم على السلف ( السلم ) وروي عن ابن عبّاس فقد أخرج البخاري وغيره عنه أنّه قال أشهد أنّ السلف المضمون إلى أجل مسمّى أنّ الله قد أحلّه وقرأ هذه الآية : وبعضهم على القرض وضعّفه الرازي بأنّ القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل ، وما في الآية قد اشترط فيه الأجل . وقوله هذا هو الضعيف وقال الجمهور إنّ الدَّين عام يشمل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى أجل وهو الصواب . والأجل الوقت المضروب لإنتهاء شيء والمسمّى المعيّن بالتسمية كشهر وسنة مثلاً . بعد أن أمر بالكتابة إجمالاً بين كيفيتها ومن يتولاّها فقال : 2 - { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } أي ليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته يساوي بين المتعاملين لا يميل إلى أحدهما فيجعل له من الحقّ ما ليس له ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقّه شيئاً . وقال الأستاذ الإمام إنّ قوله تعالى : { فَٱكْتُبُوهُ } أمر عام للمتعاملين ، وفيهم الأمّي الذي لا يكتب ولذلك احتيج إلى هذه الجملة : وقد ذكروا أنّ العدل في الكاتب يستلزم العلم بشروط المعاملات التي تحفظ الحقوق لأنّ الكاتب الجاهل قد يترك بعض الشروط أو يزيد فيها أو يبهم في الكتابة بجهله فيلتبس بذلك الحقّ بالباطل ويضيع حقّ أحد المتعاملين كما يضيع بتعمّد الترك أو الزيادة أو الإبهام إذا لم يكن عادلاً وافقهم الأستاذ الإمام على ذلك . أقول : وقد يغني عن أخذ ذلك بطريق اللزوم قوله : 3 - { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } فإنّ تعليم الله إيّاه ليس خاصّاً بصناعة الكتابة ، بل هو يعمّ ما وفّقه له من علم الأحكام والفقه فيها . فالكتابة لا تكون ضماناً تامّاً إلاّ إذا كان الكاتب عالماً بما يجب علمه في ذلك من الأحكام الشرعية والشروط المرعية والإصطلاحات العرفية ، وكان عادلاً مستقيماً لا غرض له إلاّ بيان الحقّ كما هو من غير محاباة ولا مراعاة . وإنّما قدّم صفة العدالة على صفة العلم بذلك لأنّ من كان عدلاً يسهل عليه أن يتعلّم ما ينبغي لكتابة الوثائق لأنّ العدالة تهديه إلى ذلك . ومن كان عالماً غير عدل فإنّ العلم بذلك لا يهديه إلى العدالة . قلّما يقع فساد من عدل ناقص العلم ، وإنّما أكثر الفساد من العلماء الفاقدين لملكة العدالة . وقال الأستاذ الإمام : إنّ كاتب العقود والوثائق بمنزلة المحكمة الفاصلة بين الناس وليس كلّ من يخطّ بالقلم أهلاً لذلك وإنّما أهله من يصحّ أن يكون قاضي العدل والإنصاف . وقال إنّ ما ذكر في وصف الكاتب إرشاد من الله تعالى لتلك الأمّة الأمية إلى نظام معروف وهو أن يكون كاتب الديون عادلاً عارفاً بالحقوق والأحكام فيها حتّى لا يقع التنازع بعد ذلك فيما يكتبه . وإرشاد للمسلمين إلى أنّه ينبغي أن يكون فيهم هذا الصنف من الكتاب فهذه قاعدة شرعية لإيجاد المقتدرين على كتابة العقود وهو ما يسمّونه اليوم العقود الرسمية ويتحتّم ذلك على القول بأنّ الكتابة واجبة . قال وفيه أيضاً أن الكاتب ينبغي أن يكون غير المتعاقدين وإن كانا يحسنان الكتابة لئلاّ يغالط أحدهما الآخر أو يغشّه وكأن هذا أمر حتم وعليه العمل الآن فإنّ للعقود الرسمية كتاباً يختصون بها . أقول : وفي قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } إلخ دليل على أنّ العالم بما فيه مصلحة الناس يجب عليه إذا دعي إلى القيام بها أن يجيب الدعوة ولذلك لم يكتف بالنهي عن الإباء عن الكتابة بل أمر بها أمراً صريحاً فقال { فَلْيَكْتُبْ } وهذا ظاهر لا سيّما على قول من قال من أهل الأصول إنّ النهي عن الشيء ليس أمراً بضدّه . وقال الأستاذ الإمام : إنّه تأكيد لأنّ الموضوع غريب في نظر الأميين الذين خوطبوا به أوّلاً . 4 - { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } أي وليلق على الكاتب ما يكتبه من عليه الحقّ من المتعاملين ، ليكون إملاله حجّة عليه تبيّنها الكتابة وتحفظها . والإملال والإملاء واحد ، يقال أمل على الكاتب وأملى عليه إذا ألقى عليه ما يكتبه والأصل فيه اللام . { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } في إملاله بأن يبيّن الحقّ الذي عليه كاملاً { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } أي لا ينقص منه شيئاً ما ، وإن قلّ . أمر الذي عليه الحقّ بتقوى الله في إملاله على الكاتب وذكره بأنّ الله ربّه الذي غذّاه بنعمه وسخّر له قلب الدائن فبذل له ماله ليحمله بالتذكير بجلال الذات الإلهية وهو من قبيل الترهيب وبجمال نعم الربوبية وهو من قبيل الترغيب - على شكر الله بالاستقامة وشكر الدائن بالإعتراف بحقّه على وجه الكمال لأنّه لا يشكر الله من لا يشكر الناس كما ورد في الحديث ثمّ نهاه بعد هذا الأمر المؤكدّ أن يبخس من الحقّ شيئاً لأنّ الإنسان عرضة للطمع فربّما يستخفّه طمعه إلى نقص شيء من الحقّ أو الإبهام في الإقرار الذي يملي على الكاتب تمهيداً للمحاولة والمماطلة ونحو ذلك . فهذا التأكيد بالنهي بعد الأمر لمقاومة هذا الأمر . 5 - { فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } ذكر الذي عليه الحقّ مظهراً في موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان كما قالوا وفسّر السفيه بضعيف الرأي أي من لا يحسن التصرّف في المال لضعف عقله واختاره الأستاذ الإمام وقيل هو العاجز الأحمق وقيل الجاهل بالإملال وقال الإمام الشافعي هو المبذّر لماله المفسد لدينه وهو بمعنى الأول . والضعيف الصبي والشيخ الهرم . ومن لا يستطيع الإملال هو الجاهل والألكن والأخرس . وولي الإنسان من يتولّى أموره ويقوم بها عنه وقد إكتفى في أمر الولي بالعدل كالكاتب ولم يؤمر وليّه بمثل ما أمر ونهي به من عليه الحقّ لأنّ من يبيع دينه بدنيا غيره قليل بالنسبة إلى من يبيع دينه بدنيا نفسه . 6 - { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي اطلبوا أن يشهد على ذلك رجلان ممّن حضر ذلك منكم أو أشهدوهما على ذلك . فالشهيد من شهد الشيء وحضره بإمعان كما يؤخذ من صيغة المبالغة ، واستشهده سأله أن يشهد أي أن يكون شاهداً بذلك عند الحاجة إليه . ويطلق الشهيد على الأمين في الشهادة كما في القاموس ولعلّ الوصف منتزع من صيغة المبالغة ولكن حمل هذا التفسير على الشهيد اسماً لله تعالى ولا دليل على التخصيص . والسياق يدلّ مع الصيغة على أنّ وصف الكمال معتبر فيمن يستشهد كما اعتبر مثله في الكاتب والولي . وما بيّناه في معنى الشهيد يردّ قول القائلين إنّ المراد بالشهيدين من سيكونان شاهدين بذلك الحقّ من باب مجاز الأول . وقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } والخطاب للمؤمنين يدلّ على أنّهم لا يستشهدون من لم يكن منهم . وكون استشهاد غيرهم ليس مشروعاً لهم أو ليس جائزاً عملاً بمفهوم الصفة لا يعد نصّاً على أنّ شهادته إذا هو شهد لا تصحّ أو لا تدلّ على شيء ولكن العلماء اتّفقوا على شروط في الشهادة الشرعية منها الإسلام والعدالة لهذه الآية ولقوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] وجعلوا قوله تعالى في آية الوصيّة : { ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } [ المائدة : 106 ] خاصّاً بمثل تلك الواقعة . وأوّلها بعضهم بغير ذلك كما يأتي في محلّه . ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام شيئاً في المسألة وقد حقّق العلاّمة ابن القيّم أنّ البيّنة في الشرع أعمّ من الشهادة فكلّ ما يتبيّن به الحقّ بيّنة كالقرائن القطعية ويمكن أن تدخل شهادة غير المسلم في البيّنة بهذا المعنى الذي استدلّ عليه بالكتاب والسنّة واللغة إذا تبيّن للحاكم بها الحقّ . 7و 8 - { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } أي من تستشهدونهما { رَجُلَيْنِ } وجعل المفسّرون الضمير للشاهدين بحسب الإرادة والقصد { فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } يستشهدان أو فليستشهد رجل وامرأتان . وتقديرنا أولى من تقدير الجمهور الإشهاد وإنّما وافقوا اصطلاح الفقهاء واتّبعنا نظم القرآن { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } قالوا أي ممّن ترضون دينهم وعدالتهم حال كونهم من الشهداء وإنّما وصف الرجل مع المرأتين بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلّة ثقة الناس بها . ولذلك وكّل الأمر فيه إلى رضى المستشهدين ثمّ بيّن علّة جعل المرأتين بمنزلة رجل واحد بقوله عزّ وجلّ : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } أي حذّر أن تضلّ إحداهما أي تخطئ لعدم ضبطها وقلّة عنايتها فتذكّر كلّ منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متمّمة لشهادتها . أي إنّ كلاً منهما عرضة للخطأ والضلال أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان وقع بالضبط فاحتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد لأنّهما بتذكير كلّ منهما للأخرى تقومان مقام الرجل . ولهذا أعاد لفظ { إِحْدَاهُمَا } مظهراً وليس المعنى لئلاّ تنسى واحدة فتذكّرها الثانية كما فهم كثير من المفسّرين . وقال بعضهم : ( وهو الحسين بن علي المغربي ) معناه أن تضلّ إحدى الشهادتين عن إحدى المرأتين فتذكّرها بها المرأة الأخرى ، فجعل إحدى الأولى للشهادة والثانية للمرأة وأيّده الطبرسي بأنّ نسيان الشهادة لا يسمّى ضلالاً ، لأنّ الضلال معناه الضياع والمرأة لا تضيع واستدلّ على التفرقة بين الضلال والنسيان بقوله تعالى : { ضَلُّواْ عَنَّا } [ الأعراف : 37 ] ومثله { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] وكأنّ الأستاذ الإمام أقرّه عندما ذكره وردّه بعضهم بما في من التفكيك وبأنّ تفسير الضلال بالنسيان مروي عن سعيد بن جبير والضحّاك وغيرهما ، ونقله ابن الأثير لغة . أقول : وما ذكرته يغني عن هذا . وذكر الألوسي في وجه العدول عن قوله : ( فتذكّرها ) إلى قوله : { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } أنّه رأى في طراز المجالس أنّ الخفاجي سأل قاضي للقضاة شهاب الدين الغزنوي عن سرّ تكرار " إحدى " معرضاً بما ذكره المغربي فقال : @ يا رأس أهل العلوم السادة البررة ومن نداه على كلّ الورى نشره ما سرّ تكرار ( إحدى ) دون ( تذكر ها ) في آية لذوي الإشهاد في البقره وظاهر الحال إيجاز الضمير على تكرار ( إحداهما ) لو أنّه ذكره وحمل الإحدى على نفس الشهادة في أولاهما ليس مرضيّاً لدى المهره فغص بفكرك لاستخراج جوهره من بحر علمك ثمّ ابعث لنا درره @@ فأجاب القاضي : @ يا من فوائده بالعلم منتشره ومن فضائله بالكون مشتهره يا من تفرّد في كشف العلو لقد وافى سؤالك والأسرار مستتره " تضلُ إحداهما " فالقول محتمل كليهما فهي للإظهار مفتقره ولو أتى بضمير كان مقتضياً تعيين واحدة للحكم معتبره ومن رددتم عليه الحلّ فهو كما أشرتم ليس مرضياً لمن سبره هذا الذي سمح الذهن الكليل به والله أعلم في الفحوى بما ذكره @@ وقد علّل بعضهم كون النساء عرضة للضلال أو النسيان بأنهنّ ناقصات عقل ودين ، وعلّله بعضهم بكثرة الرطوبة في أمزجتهنّ وقال الأستاذ الإمام تكلّم المفسّرون في هذا وجعلوا سببه المزاج ، فقالوا إنّ مزاج المرأة يعتريه البرد فيتّبعه النسيان وهذا غير متحقّق . والسبب الصحيح أنّ المرأة ليس من شأنها الإشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها فإنّها فيها أقوى ذاكرة من الرجل يعني أنّ من طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكّرهم للأمور التي تهمّهم ويكثر اشتغالهم بها . ولا ينافي ذلك إشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال المالية فإنّه قليل لا يعوّل عليه . والأحكام العامّة إنّما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها . وقال الأستاذ الإمام : إنّ الله تعالى جعل شهادة المرأتين شهادة واحدة فإذا تركت إحداهما شيئاً من الشهادة كأن نسيته أو ضلّ عنها تذكّرها الأخرى وتتمّ شهادتها ، وللقاضي بل عليه أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى ويعتدّ بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى . قال هذا هو الواجب وإن كان القضاة لا يعملون به جهلاً منهم - وأمّا الرجال فلا يجوز له أن يعاملهم بذلك بل عليه أن يفرّق بينهم فإن قصر أحد الشاهدين أو نسى فليس للآخر أن يذكّره وإذا ترك شيئاً تكون الشهادة باطلة يعني إذا ترك شيئاً ممّا يبيّن الحقّ فكانت شهادته وحده غير كافية لبيانه فإنّها لا يعتدّ بها ولا بشهادة الآخر وحدها وإن بيّنت . 9 - { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } إلى تحمّل الشهادة كما روي عن البيع أنّها نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يجيبه أحد . فالشهداء على هذا مجاز وربّما قّواه ما يأتي من النهي عن كتمان الشهادة أو إلى أداء الشهادة وهو الظاهر الذي لا تجوز فيه وقال بعضهم بالإطلاق الشامل للتحمّل والأداء وعزاه الأستاذ الإمام إلى الجمهور واختاره . وظاهر النهي أنّ الإمتناع عن الشهادة تحملاً وأداءً محرّم وأنّ الإجابة واجبة . وقد صرّح من قال بذلك بأنّه فرض كفاية لا يجبّ على من دعى إليه إلاّ إذا لم يوجد غيره يقوم به . 10 - { وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ } أي لا تملوا أو تضجروا أو لا تكسلوا من كتابة الدَّين أو الحقّ سواء كان صغيراً أو كبيراً مبيّناً ثبوته في الذمّة إلى أجله المسمّى . قال الأستاذ الإمام : وهذا دليل على أنّ الكتابة يعمل بها ، وأنّها من الأدّلة التي تعتبر عند استيفاء شرطها . أقول : وهو دليل أيضاً على أنّ الكتابة واجبة في القليل والكثير . ولذلك قدّم ذكر الصغير الذي يتهاون فيه الناس لعدم مبالاتهم بضياعه ومن لا يحرص على الصغير والقليل أن يضيع فقلّما يتقن حفظ الكبير والكثير ففي الآية إرشاد إلى عدم التهاون بشيء من الحقوق أن يذهب سدى وهي قاعدة عظيمة من قواعد الاقتصاد والعمل بها آية الكياسة والعقل وكم من حريص على الدرهم والدانق يجود بالدنانير والبدر . ثمّ قال تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } الخطاب للمؤمنين والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأحكام لا لواحد منها وتلك سنّة القرآن في بيان حكمة الحكم وعلّة الأمر والنهي بعد ذكرهما وقيل إنّ الإشارة للإشهاد وقيل للكتاب أي الكتابة لأنّه الأقرب في الذكر وعزاه الأستاذ إلى الجمهور ، وقال إنّه من دلائل العمل بالكتابة . ومعنى كونه أقسط عند الله أنّه أعدل في حكمه أي أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين . ومعنى كونه أقوم للشهادة أنّه أعون على إقامتها على وجهها قال الأستاذ الإمام وفي هذا دليل على أنّ للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكّر ما كان على وجهه ، وقد يقال إنّ كون المشار إليه أقوم للشهادة دليل على أنّ المراد به الكتابة التي تعين على الشهادة فتكون الإشارة إلى الكتابة حتماً . ويجاب عنه بأنّ ما ذكر من أحكام الشهادة ممّا يعين على إقامتها على وجهها أيضاً : وكذلك ما ذكر من أحكام الإملاء . فالمختار عندي أنّ الإشارة إلى جميع ما ذكر كما تقدّم . وقوله : { وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } معناه وأقرب إلى إنتفاء إرتياب بعضكم ببعض فإنّ هذا الإحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها وتقوى الله والعدل من المتعاملين والكتاب والشهداء يمنع كلّ ريبة وكلّ ما يترتب على الإرتياب من المفاسد والعداوات والمخاصمات . وقال ابن جرير : المراد إنتفاء الريب في الشهادة وقال غيره : في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك . والأول هو ما تبادر إلى فهمنا ، ولعلّه الصواب إن شاء الله . قال الأستاذ الإمام وهذه مزيّة ثالثة للكتابة تؤكّد القول بالأخذ بها والإعتماد عليها وجعلها مذكّرة للشهود والإحتجاج بها إذا استوفيت شروطها . 11 - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } قرأ عاصم ( تجارة ) بالنصب والباقون بالضمّ والإعراب ظاهر على الحالين والاستثناء من الكتابة وهو المختار ، وقيل الإشهاد . وقيل هما . والمعنى أنّ ذلك مطلوب واجب إلاّ أن تكون المعاملة تجارة حاضرة أو إلاّ أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطي بأن يأخذ المشتري المبيع أو البائع الثمن فلا حرج في ترك كتابتها ولا إثم ، إذ لا يترتّب عليه شيء من الإرتياب الذي يجرّ إلى التنازع والتخاصم وما وراء ذلك من المفاسد . أقول : وفي نفي الجناح إشارة إلى أنّ كتابة ذلك أولى وهو إرشاد إلى استحباب ضبط الإنسان لماله وإحصائه لما يرد عليه وما يصدر عنه . وذلك من الكمال المدني ومن أسباب إرتقاء أمور الكسب ولم يجعل هذا حتماً لأنّه مما يشقّ على غير المرتقين في المدنية والترخيص فيه دليل على وجوب كتابة الديون المؤجّلة كما هو ظاهر مما تقدّم . 12 - { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قيل معناه هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة وقيل مطلقاً . واختار الأستاذ الإمام الأول قال لأنّ البيع بالكالئ يستلزم الدَّين وهو الذي أمر بكتابته والاستشهاد عليه والإشهاد لازم لما يحصل من المجاحدين في بعض العقود الحاضرة بعد العقد من التنازع والخلاف وكأنّه يعني أن من شأن هذه المجاحدة أن تحصل عن قريب . ولذلك إكتفى بالإشهاد لتلافي ما عساه يقع منها . وأمّا الديون المؤجّلة فربّما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود ، لأنّها ممّا يطول زمنها لا سيّما إذا كان الأجل بعيداً . فلهذا وجبت كتابتها وشرع الإحتجاج عليها بالكتابة . 13 - { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } لفظ يضارّ يحتمل البناء للفاعل وللمفعول ويروى أنّ بعض الصحابة قد قرءوا بفكّ الإدغام . فعمر وابن عبّاس على الأول وابن مسعود على الثاني . ولعلّ ذلك كان تفسيراً لا قراءة والمعنى على الأول نهي الكاتب والشهيد أن يضرّا أحد المتعاملين بعدم الإجابة أو بالتحريف والتغيير ونحو ذلك . ومعنى الثاني نهي المتعاملين عن ضرّ الكاتب أو الشهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما فيكلّفان تركه . وروى ابن جرير ما يؤيّد هذا وهو أنّ الرجل كان يجيء الكاتب فيقول اكتب لي ، فيعتذر بعذره ويدّل على غيره ، فلا يقبل منه ، ويقال له إنّك قد أمرت أن تكتب فيلزم بذلك ويضارّ فنزلت . وهذه الرواية لا تصلح سبباً إلاّ إذا كان نزول هذا النهي متراخياً عن نزول الأمر بالكتابة وهما في آية واحدة نزلت دفعة واحدة . وأقوى منها في تأييده : ما قد اشترط في الكاتب والشهداء من الشروط التي تستلزم نفي المضارّة فبقي أن يؤمر المتعاملون بعدم مضارّة الكتاب والشهداء بإلزامهم بترك منافعهم لأجل الكتابة والشهادة أو بتحميلهم المشقّة في ذلك بلا عوض . فالمتبادر من النهي أنّه عن مضارّة المتعاملين للكاتب والشهيد . وإذا قيل بأنّها ترشد إلى إعطائهما أجرة ما يحملان من الكلفة لم يكن ببعيد ، ومقتضى مذهب الشافعية في جواز استعمال المشترك في معنييه واللفظ في حقيقته ومجازه : أنّه يجوز أن يراد بيضار البناء للفاعل وللمفعول معاً لأنّه من قبيل الأول ، واستعمل يضار الدال على المشاركة للإشارة إلى أن ضرّ الإنسان لغيره ضرّ لنفسه والله أعلم { وَإِن تَفْعَلُواْ } ما نهيتم عنه من إضرار الكاتب والشهيد { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } ، أي فإنّ هذا الفعل خروج بكم عن حدود طاعة الله تعالى إلى معصيته وأشير بقوله : " وإن " إلى أنّ مثل هذا الفعل الذي يتحقّق به الفسق لا يكاد يقع من المخاطبين ، وهم الذين آمنوا . لأنّ من شأن الإيمان أن يمنع منه . ثمّ ختم الآية بالموعظة العامة التي تعين النفس على الإمتثال في جميع الأعمال وذلك قوله عزّ وجلّ : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي اتّقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ أموالكم وتقوية رابطتكم فإنّكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك . وهو سبحانه العليم بكلّ شيء فإذا شرّع شيئاً فإنّما يشرّعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه . وكرّر لفظ الجلالة لكمال التذكير وقوّة التأثير . وقال البيضاوي كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإنّ الأولى حثّ على التقوى والثانية وعد بإنعامه والثالثة تعظيم بشأنه ولأنّه أدخل في التعظيم من الكناية : وهذا مبني على أنّ الثانية جملة مستأنفة وقيل هي جملة حالية . قال الأستاذ الإمام : اشتهر على ألسنة المدّعين للتصوف في معنى هاتين الجملتين { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ } أنّ التقوى تكون سبباً للعلم وبنوا على ذلك أنّ سلوك طريقتهم وما يأتونه فيها من الرياضة وتلاوة الأوراد والأحزاب تثمر لهم العلوم الإلهية وعلم النفس وغير ذلك من العلوم بدون تعلّم . وهذا الزعم فتح للجاهلين الذين يلبسون لباس الصلاح دعوى العلم بالله وفهم القرآن والحديث ومعرفة أسرار الشريعة من غير أن يكونوا قد تعلّموا من ذلك شيئاً ، والعامّة تسلّم لهم بهذه الدعوى وتصدّق قولهم إنّ الله هوَ الذي تولّى تعليمهم ويسمّون علمهم هذا بالعلم اللدني . ويردّ استدلالهم بالآية على ذلك من وجهين . أحدهما : إنّه لا يرضى به سيبويه وله الحقّ في ذلك لأنّ عطف " يعلمكم " على " اتّقوا الله " ينافي أن يكون جزاء له ومرتباً عليه لأنّ العطف يقتضي المغايرة . ولو قال " يعلمكم " بالجزم لكان مفيداً لما قالوه وكذلك لو كان العطف بالفاء أو اتّصل بالفعل لام التعليل . والثاني : أنّ قولهم هذا عبارة عن جعل المسبّب سبباً والفرع أصلاً والنتيجة مقدّمة . فإنّ المعروف المعقول أنّ العلم هو الذي يثمر التقوى فلا تقوى بلا علم فالعلم هو الأصل الأول ، وعليه المعوّل . وبعد أن أطال بعض الإطالة في بيان تأثير العلم في الإرادة بتوجيهها إلى العمل الصالح وصرفها عن العمل القبيح - وتلك هي التقوى - قال : إنّنا لا ننكر العلم الذي يسمّونه لدينا وإنّما ننكر أن يكون غاية لذلك الطريق الجائر الذي يشترط فيه الجهل ونقول إنّ العلم بالله تعالى والعلم بالشرع والعمل به مع الإخلاص قد يصرف العالم العامل المخلص إلى الله تعالى حتّى يكون كالمنفصل بقلبه وروحه عن العالم الطبيعي وقد يحصل له عند ذلك إشراف على ما لا يشرف عليه غيره يعني من أسرار الحكمة الإلهية والتحقّق ببعض المعارف الغيبية فيعلم ممّا قصّه الله علينا من خبر الآخرة والملائكة ما لا يعلمه كلّ ناظر في معاني الألفاظ والأساليب في الكتاب وأين هذا ممّا يدّعيه أعوان الجهل وأعداء العلم . وأقول : إنّهم يستدلّون على زعمهم ذلك بآية أخرى توهم بعض من كتب في التفسير أنّها بمعنى ما قالوه هنا وهي قوله تعالى : { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ الأنفال : 29 ] الآية وهو غلط . فسّر بعض أهل الأثر الفرقان هنا بالمخرج ، فالشرطية عنده كالشرطية في قوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] وبعضهم بالنجاة وبعضهم بالنصر . قال ابن جرير وكلّ ذلك متقارب المعنى وإن اختلفت العبارات : وهو كما قال فإنّ الآية في سورة الأنفال ومعظمها يتعلّق بحال المسلمين قبل واقعة بدر ، وكانوا في ضيق شديد كان الخروج منه بإنجائهم من عدوّهم ونصرهم عليه ، وما نصروا على قلّتهم إلاّ بتقوى الله التي جمعت كلمتهم وقوّت عزيمتهم . والتقوى تكون سبب الفرقان والمخرج في كلّ شيء بحسبه ، لأنّها عبارة عن اتقّاء أسباب الضرر والخذلان في النفس وفي الخارج ولذلك يفسّر المخرج في آية سورة الطلاق وهي في مقام الإنفاق على النساء بما لا يفسّر به في سورة الأنفال وهي في مقام المدافعة والقتال لحماية الدعوة وأهلها . هذا وإنّ الفرقان في اللغة هو الصبح الذي يفرق بين الليل والنهار ويسمّى القرآن فرقاناً لأنّه كالصبح يفرّق بين الحقّ والباطل وتقوى الله تعالى في الأمور كلّها تعطي صاحبها نوراً يفرّق به بين دقائق الشبهات التي لا يعلمهنّ كثير من الناس فهي تفيده علماً خاصّاً لم يكن ليهتدي إليه لولاها . وهذا العلم الذي هو غير العلم الذي يتوقّف على التلقين كالشرع أصوله وفروعه ، وهو ما لا تتحقّق التقوى بدونه لأنّها عبارة عن العمل فعلاً وتركاً بعلم . فالعلم الذي هو أصل التقوى وسببها لا يكون إلاّ بالتعلّم كما ورد في الحديث : " العلم بالتعلّم " . والعلم الذي هو فرعها وثمرتها هو ما تفطن له النفس بعد فيفيدها الرسوخ في العلم الأول بالعمل به ، فإنّ العلم يكون في النفس مجملاً مبهماً حتّى يعمل به فإذا عمل به صار مفصّلا جليّاً راسخاً تتبيّن به الدقائق والخفايا . وبذلك تفطن نفس العامل إلى مسائل أخرى تطلبها بالتجربة والبحث حتّى تصل إليها كما يعرف كلّ واقف على ترقّي العلوم الطبيعية في الأنفس والأشياء وهو المشار إليه بحديث : " ومن تعلّم فعمل علّمه الله ما لم يعلم " رواه أبو الشيخ عن ابن عبّاس وحديث " من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم " رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس . وإذا علمت أنّ التقوى عمل يتوقّف على العلم وأنّ هذا العلم لا بدّ أن يؤخذ بالتعليم والتلقّي وأنّ العمل بالعلم من أسباب المزيد فيه وخروجه من مضيق الإبهام والإجمال إلى فضاء الجلاء والتفصيل فهمت المراد بالفرقان على عمومه ، وعلمت أنّ أدعياء التصوّف الجاهلين لا حظ لهم من ذلك العلم الأول ، ولا من هذه التقوى التي هي أثره ولا من هذا العلم الأخير الذي هو أثر العلم والتقوى جميعاً . فبينهم وبين العلم اللدني مرحلتان بعيدتان - العلم الذي يؤخذ بالتلقّي والتقوى بالعمل به . 14 - { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن كسقف ( بضمّتين ) والباقون فرهان كحبال وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون . وليس تعليق مشروعية أخذ الرهن بالسفر وعدم وجود كاتب يكتب وثيقة بالدين لإشتراطهما معاً وإنّما المراد بيان الرخصة في ترك الكتابة لعذر وكون الرهن يقوم مقام الكتابة في الاستيثاق عند عدم تيسّرها كما يكون في حال السفر وإلاّ فقد رهنّ النبي صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة ليهودي ورواه الشيخان وقد خالف الجمهور في هذا مجاهد والضحّاك . وأقول : إنّ في جعل عدم وجدان الكاتب مقيّداً بحال السفر إشارة إلى أنّه ليس من شأن مواطن الإقامة أن تكون خلوا من الكتاب والكتابة مفروضة على المؤمنين والإيمان لا يتحقّق إلاّ بالإذعان والعمل وناهيك بالفريضة إذا أكّدت كالكتابة حينئذ يقطع بأنّ المؤمنين لا بدّ أن يأتوها ، بل لا يفرض أن يخالفوها وأن لا يوجد الكتاب عندهم إلاّ حيث يمكن أن يكونوا معذورين كما يكون في السفر وهذا مفهوم من العبارة بالإشارة وهو من أدق أساليب البلاغة . 15 - { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } قيّد الضحّاك جواز الإئتمان بالسفر ومنعه في الإقامة حيث يجب الاستيثاق بالكتاب والإشهاد وهو ضعيف ، وزعم بعضهم أنّ هذا ناسخ لما ذكر في الآية السابقة من الأمر بهما وهو ضعيف أيضاً . فإنّ الآيتين نزلتا معاً في أحكام الأموال فلا يعقل نسخ حكم فيهما قد أكّد بأشدّ المؤكّدات بحكم آخر ، ذكر معلّقاً بأداة الشرط التي لا تقتضي الوقوع وهي " إنّ " وعندي أنّ المؤتمن عليه هاهنا عام يشمل الوديعة وغيرها . فالمعنى إن اتّفق أنّ أحداً منكم ائتمن آخر على شيء فعلى المؤتمن أن يؤدّي الأمانة إلى من ائتمنه وليتّق الله ربّه فلا يتخوّن من الأمانة شيئاً أنّه لا حجّة عليه بها ولا شهيد فإنّ الله ربّه خير الشاهدين فهو أولى بأن يتّقى ويطاع . 16 - { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } النهي عن كتمان الشهادة بعد النهي عن إباء تحمّلها على أحد الوجوه في قوله : { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } تأكيد كتأكيد أمر الكاتب بأن يكتب بعد نهيه عن الإباء فقد أمر الله الكتاب والشهود بأن يعيّنوا الناس على حفظ أموالهم وحرّم عليهم أن يقصّروا في ذلك ، كما حرّم على أرباب الأموال أن يضاروهم فلا بدّ من الجمع بين مصلحة الجميع ولمّا كان الذي يدرك الوقائع التي شهد بها ويعيها هو القلب وهو لبّ الإنسان وآلة عقله وشعوره كان كتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه ولذلك جعله هو الآثم أي هو موضع الإثم في هذا الكتمان وحده وإلاّ فهو مصدر كلّ إثم . وهذا يدفع ما يزعمه الجاهلون من أنّ الإثم لا يكون إلاّ بعمل الجوارح وحركات الأعضاء الظاهرة . وما قال تعالى : { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ألا لأنّ للفؤاد أي القلب أو النفس أعمالاً خاصّة به وأعمالاً يزعج الجوارح إليها ، فأضيف إليه ما هو خاص به وأسند الباقي إلى مظهره من السمع والبصر في هذه الآية ، ومن الأيدي والأرجل في نصوص أخرى . ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النيّة وهي شرّ الذنوب والآثام . ودلّت الآية على أنّ الإنسان يؤاخذ على ترك المعروف كما يؤاخذ على فعل المنكر ، لأنّ الترك في الحقيقة فعل للنفس يعبّر عنه بالكتم والكتمان في مثل الشهادة ، وبالكفّ في غيرها ولكلّ مقام مقال فكلّ ذلك يعدّ في الحقيقة فعلاّ وعملاّ . ولذلك قال : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وفي هذا من الوعيد ما مرّ بيان مثله . هذا وإنّ الأحكام في الآيتين على كونها أظهر من الشمس معنى وعلّة وحكمة قد وقع فيهما خلاف أشرنا إلى بعضه وقد بسط الأستاذ الإمام القول في مسألة وجوب كتابة الدين ولم يكد يزد على ما قال المفسّرون في غير ذلك من مواقع الخلاف شيئاً فلا بدّ من بيان ما اختلف وتحقيق الحقّ فيه على النسق الذي أورده في الدرس مع بيان رأيه رحمه الله تعالى . ذهب الجمهور إلى أنّ الأمر بكتابة الدين للندب واستدلّوا بثلاثة أمور : أحدها : قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } فإنّه أجاز ذلك بإقرارهم عليه وهو يستلزم عدم الكتابة والاستشهاد . والثاني : كون المسلمين لم يلتزموا الكتابة والاستشهاد في العصر الأول ولا فيما بعده بل كانوا يأتونه تارةً ويتركونه تارةً ، ولو فهموا أنّه واجب لالتزموه . أقول : وجعل الرازي هذا الترك من المسلمين في جميع ديار الإسلام إجماعاً وما هو من الإجماع في شيء . والثالث : أنّ في الكتابة حرجاً وهو منفي بالنصّ . وذهب أقوام إلى أنّ الأمر للوجوب وبه قال عطاء والشعبي وابن جرير في تفسيره وهو الأصل في الأمر عند الجمهور . وقد تتابعت الأوامر في الآية وتأكّدت حتّى في حال السفه والضعف والعجز فقد أمر ولي من عليه الحقّ من هؤلاء بأن يملي عنه للكاتب ولم يعفهم من الكتابة . ومثل هذا التأكيد لا يكون في غير الواجب ويؤيّده التعليل بكون ذلك أقسط عند الله إلخ قالوا أمّا قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } إلخ فهو محمول على حال الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهود ، فإذا إحتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه في مثل هذه الحال فإنّ الله تعالى لا يحرم عليه قضاء حاجته وسدّ خلّته إذا هو ائتمنه أقول وتقدّم لنا أنّ الآية في الأمانة على الإطلاق فإذا دخل في عمومها ما ذكر من الإئتمان على الثمن عند فقد الكاتب فلا يجعل دليلاً على ترك الواجب - وهو الكتابة - في كلّ حال وقال ابن جرير بعد أن بيّن الرخصة في إقامة الرهن مقام الكتابة عند فقد الكاتب : لوجب أن يكون قوله : { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ } إلخ ناسخاً قوله : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } إلخ . لوجب أن يكون قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] ناسخاً للوضوء بالماء في الحضر والسفر إلخ . قالوا : وأمّا دعوى تعامل أهل الصدر الأول وغيرهم من المسلمين بغير كتابة ولا إشهاد فهي على إطلاقها باطلة فإنّه لم يؤثر عن الصحابة الذين يحتجّ بمعاملاتهم ولا عن التابعين شيء صحيح يؤيّد هذه الدعوى ، وإنّما اغترّ هؤلاء القائلون من الفقهاء بعدم وجوب الكتابة والإشهاد بمعاملات أهل عصرهم ، فجعلوا ذلك عاماً ولم يرووا عن الصحابة فيه شيئاً صحيحاً واقعاً بالفعل . وأمّا قولهم إنّ في ذلك ضيقاً وحرجاً فجوابه أنّ هذا الضيق والحرج في بادئ الرأي هو عين السهولة والسعة واليسر في حقيقة الأمر فإنّ التعامل الذي لا يكتب ولا يستشهد عليه يترتّب عليه مفاسد كثيرة منها ما يكون عن عمد إذا كان أحد المتداينين ضعيف الأمانة فيدّعي بعد طول الزمن خلاف الواقع ومنها ما يكون عن خطأ ونسيان فإذا ارتاب المتعاملان واختلفا ولا شيء يرجع إليه في إزالة الريبة ورفع الخلاف من كتابة أو شهود أساء كل منهما الظنّ بالآخر ولم يسهل عليه الرجوع عن إعتقاده إلى قول خصمه فلج في خصامه وعدائه وكان وراء ذلك من شرور المنازعات ما يرهقهما عسراً ويرميهما بأشدّ الحرج وربّما إرتكبا في ذلك محارم كثيرة . هكذا أوضح الأستاذ الإمام رأي القائلين بأنّ هذا الأمر للوجوب وهو المختار عنده . وممّا قال في ردّ قولهم : إنّ هذا من الحرج المرفوع : كيف يكون هذا حرجاً وهو ممّا لا يقع إلاّ قليلاً لبعض المكلّفين ، ولا يكون الوضوء حرجاً وهو ممّا يجب على كلّ مكلّف كلّ يوم يصلّي فيه خمس مرّات ، فما كلّ ما يتكرّر يكون حرجاً : يعني إنّه لا حرج في هذا ولا ذاك كما سيأتي عنه . وأقول : ليس المراد بالحرج والعسر المنفيين بالنصّ أنّه لا مشقّة ولا كلفة في شيء من التكاليف الشرعية بل المراد أنّه لا شيء منها للإعنات وتجشيم المشاقّ والإيقاع في العسر والحرج وإنّما لكلّ حكم منها فائدة أو فوائد ترفع الحرج والعسر ويصلح بها أمر الناس في أنفسهم وفي شؤونهم الإجتماعية فهي كسائر الأعمال التي عرف الناس فوائدها بالضرورة أو الاختبار والاستدلال فهم يعملونها وإن كان فيها مشقّة ما طلباً لفوائدها التي هي أرجح وأجدر بالإيثار . ثمّ إنّ وراء هذه المصلحة الخاصّة في كتابة الدين مصلحة عامّة وهي جعل المسلمين أمّة كتاب ونظام والإسلام بدأ بالعرب وهي أمّة أميّة وقد امتنّ عليها بالرسول الذي علّمها الكتاب والحكمة ففرض كتابة الدَّين عليهم هو من وسائل إخراجهم من الأمّية . وقال الأستاذ الإمام : هبوا أنّ هذه الأوامر المؤكّدة للندب فهل ينبغي أن يترك المسلمون جملة ما ندب إليه كتاب الله بحجّة أن فيه حرجاً أو بغير ذلك من الحجج حتّى صار من تراه من المسلمين يعنى بكتابة ديونه ، فإنّما يفعل ذلك لضعف ثقته بمدينه ، لا عملاً بهداية دينه ، ألاّ إنّ الحرج في هذا كالحرج في تحريم جميع أنواع الشرك والمعاصي فكما لا يجوز أن تكون مشركاً بنوع ما من أنواع الشرك ، لا يجوز أن تفرّط في شيء من الحقّ . والحقّ الذي لا مراء فيه إنّه لا شيء من الحرج في الكتابة فإنّ البلد قد يكفيه كاتب واحد للديون المؤجّلة وقد رخّص الله لنا في ترك كتابة التجارة الحاضرة . والحاصل أنّ ظاهر الآية وأسلوبها وطريقة تأديتها تدلّ على أنّ الأمر فيها للوجوب وإن كان الجمهور على خلافه . قال : وقد اختلف الفقهاء بعد هذا بالعمل بالخطّ ونحمد الله إن كان المفتى به هو العمل بالخطّ إذ لو كان المفتى به هو خلاف ما أمر به القرآن لكان المصاب عظيماً واستدلّ القائلون بعدم العمل بالخطّ بأنّه يحتمل فيه التزوير وزعموا أنّ فائدة الكتابة التذكار فقط ، كما أنّ الأمر بالإشهاد لأجل التذكار ومنشأ الشبهة في هذا قوله تعالى في المرأتين : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } والصواب إنّ كلاً من الكتابة والاستشهاد قد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين لا لأجل التذكّر بعد النسيان والكتابة أقوى من الشهادة فيه . وهي عون للشهادة فهي آلة الاستيثاق للمتعاملين فالدائن يستوثق بماله فيأمن من إنكاره كلّه أو بعضه والمدين يستوثق بما عليه فلا يخاف أن يزاد فيه والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شكّ أو نسى رجع إلى الكتاب فتذكر واطمأنّ قلبه ولذلك قال تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } ونفع الكتابة الأكبر يكون بعد موت الشهيدين أو أحدهما فلا يصحّ في هذه الحال أن تضيع الحقوق ولا حافظ لها حينئذ إلاّ الكتابة يرجع إليها فيعمل بها . قال : واحتجاجهم على أنّ الشهادة هي الأصل في إثبات الحقوق وأنّ الكتابة ليست إلاّ مذكّرة بها بأنّ الخطّ يحتمل فيه التزوير منقوض بأنّ إحتمال وقوع التزوير في الشهادة أشدّ بل حصوله فيها بالفعل أكثر حتّى إن النسبة بينهما تكاد تكون كنسبة الخمسة إلى الألف . ثمّ إنّ في الشهادة إحتمالات أخرى تسقطها عن مرتبة الكتابة كالنسيان والذهول . ومن محاسن الأجوبة في هذا المقام ما وقع لأحد القضاة في الوجه القبلي ( الصعيد ) إذ جاءه مدّع يطالب آخر بدَين له كتب في صكّ وختم بخاتم المدّعى عليه . فقال القاضي للمدّعي إنّ هذا الصكّ لا يعمل به لأنّ الختم ليس ببيّنة فلا بد من الشهود . قال المدّعي من قال بهذا ؟ قال القاضي الإمام أبو حنيفة . قال المدّعي هل عندك شهود سمعت منهم ذلك ؟ فبهت القاضي قال الأستاذ فالأشياء البديهية يلهم حكمها كلّ الناس . أقول : يعني بالناس أصحاب الفطرة السليمة ولا غرو فالإسلام دين الفطرة ولا يفسد الفطرة شيء كالتقليد . أقول : وممّا اختلفوا فيه من أحكام الآية شهادة الإرقاء فالظاهر دخولهم في عموم " رجالكم " وبذلك قال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وذهب الجمهور إلى عدم جواز شهادتهم لما يلحقهم من نقص الرقّ ولأنّ الخطاب في الآية للمتعاملين بالأموال وهم ليسوا من أربابها . وأنت ترى أنّ الدليلين ضعيفان . أمّا الأول : فإنّ الله تعالى إشترط في الشاهدين العدالة لا الحرية والرقّ لا ينافي العدالة . وأمّا الثاني : فالخطاب للمؤمنين عامّة ، يقول : من يتداين منكم فعليهم كذا من الكتابة والإشهاد . والكتاب والشهداء لا يلزم أن يكونوا من أرباب الأموال . ولو صحّ هذا لوجب أن يشترط في الكاتب لوثيقة الدين أن يكون حرّاً ولم يقل بذلك أحد منهم . وقال الشعبي والنخعي تصح شهادة العبد في القليل دون الكثير وهو تحكّم لا يقوم عليه دليل . واختلفوا أيضاً في الإشهاد على البيع هل هو واجب أم مندوب . ظاهر الأمر به أنّه واجب كما تقدّم وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري وعمر وبه قال الضحّاك وعطاء وسعيد بن المسيّب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري واختاره ابن جرير ، وينبغي أن يخصّ بما أجّل فيه الثمن .