Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 285-286)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قيل : إنّ الآيتين متعلّقتان بما قبلهما لما فيه من ذكر كمال الألوهية الذي يقابله من كمال الإيمان والدعاء ما يناسبه أو لما فيه من ذكر الحساب والعلم بالخفايا المقتضي للإيمان والدعاء . وقيل إنّه لمّا افتتحت هذه السورة ببيان كون القرآن لا ريب فيه وكونه هدىً للمتّقين وذكر صفات هؤلاء المتّقين وأصول الإيمان التي أخذوا بها وخبر سائر الناس من الكافرين والمرتابين ، ثمّ ذكر فيها كثير من الأحكام ومحاجّة من لم يهتد به من بعض الأمم ناسب بعد هذا كلّه ختم السورة بالشهادة للمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان وهم المهتدون تمام الإهتداء ، ولقّنهم من الدعاء ما ستعلم حكمته . وهذا الوجه الذي اختاره الأستاذ الإمام قال تعالى : { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي صدق الرسول بما أُنزل إليه في هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام والسنن والبيّنات والهدى تصديق إذعان واطمئنان وكذلك المؤمنون من أصحابه ( عليهم الرضوان ) وقد شهد لهم بهذا الإيمان أثره في نفوسهم الزكية وهممهم العليّة ، وأعمالهم المرضية والله أكبر شهادة . وقد اعترف كثير من علماء الإفرنج الباحثين في شؤون المسلمين وعلومهم وسائر شؤون أمم الشرق بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان على اعتقاد جازم بأنّه مرسل من الله وموحى إليه ، وكانوا من قبل متّفقين على أنّه ادّعى الوحي لأنه رآه أقرب الطرق لنشر حكمته والإقناع بفلسفته أو لنيل السلطة وهو غير معتقد به { كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } وقرأ حمزة ( وكتابه ) أي كلّ منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتنزيهه وكمال صفاته وحكمته وسننه في خلقه ، وبوجود الملائكة الذين هم السفراء بين الله وبين الرسل من البشر ينزلون بالوحي على قلوب الأنبياء . قال المفسّرون ليس المراد بالإيمان بالملائكة الإيمان بذواتهم بل الإيمان بسفارتهم في الوحي ، كما يفهم من النظم والترتيب ، ولذلك عطف عليهم الإيمان بحقية كتبه وصدق رسله . لكن ما يفيده الترتيب والنظم من إرادة الإيمان بالملائكة من حيث هم حملة الوحي إلى الرسل لا ينافي ملاحظة الإيمان بهم من حيث هم من عالم الغيب بل يستلزمه . وأمّا البحث عن ذواتهم ما هي وعن صفاتهم وأعمالهم كيف هي ؟ فهو ممّا لم يأذن به الله في دينه . والمراد بالإيمان بالكتب والرسل جنسها أي يؤمنون بذلك إيماناً إجمالياً فيما أجمله القرآن وتفصيلياً فيما فصّله لا يزيدون على ذلك شيئاً ويقولون { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } قرأ يعقوب وأبو عمرو في رواية عنه " لا يفرّق " وهو يعود على لفظ كلّ . وذكر المقول مع حذف القول كثير في الكلام البليغ وله مواضع في الكتاب لا يقف الفهم في شيء منها . قال الأستاذ الإمام : والمعنى أنّ من شأن المؤمنين أن يقولوا هذا معتقدين أنّهم في الرسالة والتشريع سواء ، كثر قوم الرسول منهم أم قلّوا وكثرت الأحكام المنزلة عليه أم قلّت ، وتقدّمت البعثة أم تأخّرت . وهذا لا ينافي قوله تعالى : { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] فإنّ التفضيل ليس في أصل الرسالة والوحي كما تقدّم في تفسير الآية . أقول : وفي هذا مزيّة للمؤمنين من هذه الأمّة على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرّقون بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض كأنّهم لم يعقلوا معنى الرسالة في نفسها إذ لو عقلوها لما فرّقوا بين من أوتوها . وقد رأيت غير واحد من أذكياء النصارى يدرك هذه المزيّة . آمنوا بما ذكر قائلين بعدم التفريق { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي بلغنا فسمعنا القول سماع وعي وفهم ، وأطعنا ما أمرنا به فيه إطاعة إذعان وإنقياد . قال الأستاذ الإمام في الدرس وقد بيّنا لكم مراراً أنّ فرقاً بين إيمان الإذعان وبين ما يسمّيه الإنسان إيماناً واعتقاداً ، لأنّه نشأ عليه وقبله بالتقليد ولم يسمع له ناقضاً . فمثل هذا ليس اعتقاداً حقيقيّاً ، وقلّما ينشأ عنه عمل لأنّه تقليد ، بقاؤه في الغفلة عن ناقضه . والإذعان ينبّه النفس دائماً إلى ما تذعن له ، ويبعثها دائماً إلى العمل به إلاّ إذا عرض ما لا يسلم منه المرء من الموانع ، ولهذا عطف " أطعنا " على " سمعنا " . ولمّا كان العامل المذعن المخلص يراقب قلبه ويحاسب نفسه على التقصير الذي تأتي به العوارض الطارئة ويلومها على ما دون الكمال من الأعمال كان من شأن المؤمنين أن يقولوا مع السمع والطاعة { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } أي يسألونه تعالى أن يغفر لهم ما عساه يطرأ على أنفسهم فيعوقها عن الرقي في معارج الكمال الذي دعاها إليه الإيمان . والغفران كالمغفرة الستر ، وستر الذنب يكون بعدم الفضيحة عليه في الدنيا وترك الجزاء عليه في الآخرة . وإنّما يطلب هذه بالتوبة وإتّباع السيّئة الحسنة مع الدعاء الذي يزيد في الإيمان ، وبذلك يمحى أثر الذنوب من النفس في الدنيا فيرجى أن تصير إليه تعالى في الآخرة نقيّة زكيّة . لأنّ هذا المصير إليه وحده هو الذي يكون وراءه الجزاء بحسب درجات النفوس في معارج الكمال . { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ولا يحاسبها إلاّ على ما كلّفها والتكليف هو الإلزام بما فيه كلفة ، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر ، وقال بعضهم هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها ، وهو ما دون مدى طاقته والمعنى أنّ شأنه تعالى وسنّته في شرع الدين أن لا يكلّف عباده ما لا يطيقون . قال المفسّرون : إنّ الآية تدلّ على عدم وقوع تكليف ما لا يطاق لا على عدم جوازه ولكن هذا لا يلتئم مع قولهم إنّ الكلام في شأنه وسنّته تعالى في التكليف ، وستأتي تتمّة هذا البحث قريباً . وإذا كان هذا التكليف لم يقع كما قالوا إمتنع أن تكون الآية ناسخة لما قبلها لأنّه لا يتضمّن تكليف ما ليس في الوسع كما تقدّم ، ولا لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] كما قيل . وفي الجملة وجهان قيل هي إبتداء خبر من الله تعالى كأنّه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير وتيسير ما قد يشتم من الآية السابقة من التعسير ، وقيل إنّها داخلة في قول المؤمنين ، فهم بعد سؤال الغفران قد أذنوا بأن يصفوا الله تعالى بهذا النوع من الرأفة بعباده والحكمة في سياستهم . { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } قيل إنّ الكسب والإكتساب واحد في اللغة نقل عن الواحدي . وقيل إنّ الإكتساب أخصّ واختلفوا في توجيهه واختار الأستاذ الإمام في الدرس ما قاله الزمخشري ، وقال إنّه الصواب ، وهو أنّ الفرق بينهما كالفرق بين عمل واعتمل ، فكلّ من اكتسب واعتمل يفيد الاختراع والتكلّف فالآية تشير أو تدلّ على أنّ فطرة الإنسان مجبولة على الخير وأنّه يتعوّد الشرّ بالتكلّف والتأسّي . والمعنى أنّ لها ثواب ما كسبت من الخير وعليها عقاب ما إكتسبت من الشرّ . وقد اختلف الناس في الإنسان هل هو خير بالطبع أو شرير بالطبع وإلى أي الأمرين يكون أميل بفطرته مع صرف النظر عمّا يتّفق له في تربيته . المسألة مشهورة وقد قال الأستاذ الإمام : لا شكّ أنّ الميل إلى الخير ممّا أودع في طبع الإنسان والخير كلّ ما فيه نفع نفسك ونفع الناس . وجماع ذلك كلّه أن تحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك كما ورد في الحديث والإنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذّته ويميل إلى عبادة الله تعالى لأنّ شكر المنعم مغروس في الطبع ويظهر أثره في كلّ إنسان وأقلّه البشاشة والإرتياح للمنعم ولا يحتاج الإنسان إلى تكلّف في فعل الخير لأنّه يعلم أن كلّ أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضى ، وأمّا الشرّ فإنّه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا مقتضى فطرتها ومهما كان الإنسان شريراً فإنّه لا يخفى عليه أنّ الشرّ ممقوت في نظر الناس وصاحبه مهين عندهم فإنّ الطفل ينشأ على الصدق حتّى يسمع الكذب من الناس فيتعلّمه وإذا رأى إعجاب الناس بكلام من يصف شيئاً يزيد فيه ويبالغ كاذباً استحبّ الكذب وافتراه لينال الحظوة عند الناس ويحظى بإعجابهم وهو مع ذلك لا ينفكّ يشعر بقبحه حتّى إذا نبز أمامه أحد بلقب الكاذب أو الكذّاب أحسّ بمهانة نفسه وخزيها . وهكذا شأن الإنسان عند اقتراف كلّ شرّ يشعر في نفسه بقبحه ويجد من أعماق سريرته هاتفاً يقول له لا تفعل ويحاسبه بعد الفعل ويوبّخه إلاّ في النادر ، ومن النادر أن يصير الإنسان شرّاً محضاً - يريد أنّه قلّما يألف أحد الشرّ وينطبع به حتّى يكون طبعاً له لا تشعر نفسه بقبحه عند الشروع فيه ولا في أثنائه ولا بعد الفراغ منه حتّى إنّه قال - إنّه لا يوجد في المليون من الناس شرّير واحد يفعل الشرّ وهو لا يشعر بأنّه شرّ قبيح في نفسه والذين ذهبوا إلى أنّ الإنسان شرّير بالطبع أرادوا من الطبع ما يرون عليه غالب الناس ولم يلاحظوا فيه معنى الغريزة ومناشئ العمل من الفطرة . ذلك أنّ الإنسان ينشأ بين منازعات الكون وفواعل الطبيعة وأحيائها ومغالبة أبناء جنسه على المنافع والمرافق وقد يدفعه هذا الجهاد إلى الأثرة وتوفير الخير لنفسه خاصة ويلجئه الظلم إلى الظلم فيأتيه متعلّماً إيّاه تعلّماً متكلّفاً له تكلّفاً وفي نفسه ذلك الهاتف الفطري يقول له لا تفعل وهو النبراس الإلهي الذي لا ينطفئ . فإذا رجع الإنسان إلى أصل فطرته لا يرى إلاّ الخير ، ولا يميل إلاّ إليه وإذا تأمّل في الشرّ الذي يعرض له لم يخف عليه أنّه ليس من أصل الفطرة وإنّما هو من الطوارئ التي تعرض عليها لا سيّما من ينشأ بين قوم فسدت فطرتهم وأشدّ ما يضرّ الإنسان في ذلك نظره إلى حال غيره ولذلك أمرنا في الحديث أن ننظر في شؤون الدنيا إلى من هو دوننا وهذا الأمر خاص بالأفراد بعضهم مع بعض ، فإنّ نظر الواحد إلى من دونه يجعله راضياً بما أوتيه من المنعم بعيداً عن الحسد الذي هو منبع الشرور وأمّا الأمم فينبغي أن ننظر في حال من فوقنا منها لأجل مباراتها ومساماتها . هذا ما قاله الإمام في هذه المسألة بإيضاح ، ومنه يعلم قوله تعالى في الخير كسبت وفي الشرّ اكتسبت ، وكان رحمه الله تعالى يرى أنّ أحقّ ما يتعجّب له من حال الإنسان كثرة عمل الشرّ وقلّة عمل الخير ويعلّل ذلك بأنّ عمل الخير سهل وعاقبته حميدة وعمل الشرّ عسر ومغبته ذميمة ولا عجب في تعجّبه فقد كان مجبولاً من طينة الخير سليم الفطرة من عوارض الشرّ حتّى لم تؤثّر في نفسه الزكية الشرور التي كانت تحيط به من أوّل نشأته إلى يوم وفاته قدّس الله روحه ورضي عنه . والمسألة تحتاج إلى زيادة في البسط لكثرة اشتباه الناس فيها ولشدّة ما عارضنا في تقريرها الطلاّب في الدرس والباحثون في المحاضرات ولئن سألتهم ما هو الشرّ الفطري في البشر ليقولنّ حبّ الشهوات والغضب وما ينشأ عنهما من الأعمال والأخلاق ولولا هاتان الغريزتان لما جلب أحد لنفسه ولا لغيره نفعاً ، ولما دفع ضرّاً ، ولما ظهر من أعمال الإنسان ما نرى من أسرار الطبيعة ومحاسن الخليقة بل لولاهما لبادت الأفراد وإنقرض النوع من الأرض . وفي الفطرة والدين والمرشد إلى كمالها ما يكفي لإقامة الميزان القسط فيهما غالباً حتّى لا يغلب في الأمّة تفريط ولا إفراط ويكون الخير أصلاً عامّاً والشرّ عرضاً مفارقاً . والأصل الذي لا ينازع فيه أحد أنّ الإنسان قد جبل على أن لا يعمل عملاً إلاّ إذا اعتقد أنّه نافع وأنّ فعله خير له من تركه وذلك شأنه في الترك أيضاً وأنّ هداياته الأربع الحسّ والوجدان والعقل والدين كافية لأن يعتقد أنّ كلّ خير نافع وكلّ شرّ ضار ، فإذا قصر في الإهتداء بهذه الهدايات فوقع في الشرّ كان وقوعه فيه أثراً لتنكّب طريق الفطرة لا للسير على جادّتها وأكثر أعمال الناس نافعة لهم غير ضارّة بغيرهم . ومن التفصيل في المسألة ما تقدّم من القول في كذب الأطفال ومنه ما سئلنا عنه في الدرس ومجالس البحث من الميل إلى الزنا مثلاً وأجبنا بأنّ الإنسان لا يميل بفطرته إلى الزنا وإنّما يميل إلى الوقاع وهذا من الخير وأصول الكمال في الفطرة وإنّما الزنا وضع له في غير موضعه وذلك من العوارض الطارئة التي تكثر بترك مقوّمات الفطرة وحوافظها من نذر الدين وقضايا العقل وآداب الإجتماع . ولقد كنت قبل الوقوف على أحوال الناس لا سيّما في بلاد مصر أظنّ أنّ الزنا لا يكاد يقع إلاّ نادراً من بعض أفراد الجاهلين وهذا ما يعتقده كلّ من ينشأ في بيئة تغلب فيها العفّة ولم يعرف حال غيرها ولا أخبار الشاذّين فيها ولو كان فطرياً لشعر كلّ أحد من نفسه بالحاجة إليه كما يشعر بأنّه في حاجة إلى زوج يتّحد به . ولعلّ ما أوردناه كافٍ للمتدبّر ولا يتّسع التفسير لأكثر منه . بيّن الله تعالى لنا شأن المؤمن في السمع والطاعة ثمّ طلب المغفرة لما يلمّ به أو يتّهم به نفسه من التقصير ، وفضله ومنّته في عدم تكليف النفس ما ليس في وسعها ثمّ علمنا هذا الدعاء لندعوه به وهو { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما يجب تركه أو جئنا بالشيء على غير وجهه . وهذا يدلّ على أنّ من شأن النسيان والخطأ أن يؤاخذ عليهما وسيأتي بيان الوجه فيه والمؤاخذة المعاقبة ، وهي من الأخذ لأنّ من يراد عقابه يؤخذ بيد القهر . قال الأستاذ الإمام : ومن الناس من قال إنّ الخطأ والنسيان لا مؤاخذة عليهما لأنّ الناسي والمخطئ لا إرادة لهما فيما فعلاه نسياناً أو خطأ . ومثل هذا الكلام يوجد في كتب الأصول والكلام ، ويتبعه من المناقشات ما يبعد به عن حدود الإفهام . وإذا رجع الإنسان إلى نفسه وتأمّل الأمر في ذاته علم أنّ الناسي يصحّ أن يؤاخذ فيقال له لِمَ نسيت ؟ فإنّ النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء وترك إجالة الفكر فيه وترديده في النفس ليستقرّ في الذاكرة فتبرزه عند الحاجة إليه . ولذلك ينسى الإنسان ما لا يهمّه ويحفظ ما يهمّه ، فإذا كان النسيان غير اختياري فسببه الذي بيّناه آنفاً اختياري ولذلك يؤاخذ الناس بعضهم بعضاً بالنسيان لا سيّما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى فإذا عهدت إلى من عليه سلطان أو فضل بأن يفعل كذا أو يجيئك في يوم كذا فنسى ولم يمتثل فإنّك تسأله وتؤاخذه بما ترميه به من الإهمال وعدم العناية بأمرك . وقد آخذ الله آدم على ذنبه ثمّ تاب عليه مع قوله فيه : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] وقال في جواب من يسأل يوم القيامة ربّه لِمَ حشره أعمى من هذه السورة : { كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [ طه : 126 ] وقال في أهل الكتاب : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 13 ] وقوله : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 14 ] وهناك آية أخرى وقد فسّر النسيان فيها بالترك الذي هو لازمه وذلك لا يمنع الاستدلال بها لأنّ المراد بالنسيان هنا أيضاً لازمه وهو ترك الإمتثال . وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الإحتياط والتروّي ولذلك أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الخطأ والديّة في جنايته فإذا أراد امرؤ أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً فقتله كان مؤاخذاً في الشريعة وكذا في القوانين الوضعية فثبت أنّ المؤاخذة على النسيان والخطأ ممّا جاءت به الشريعة وجرى عليه عرف الناس في معاملاتهم وقوانينهم ، ولو لم يكن كلّ من الناسي والمخطئ مقصّراً لما كان هذا . وكما جاز ذلك وحسن يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بكلّ ما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ ، ولكنّه تعالى علّمنا أن ندعوه بأن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، وذلك من فضله علينا وإحسانه في هدايتنا فإنّ هذا الدعاء يذكّرنا بما ينبغي من العناية والإحتياط والتفكّر والتذكّر لعلّنا نسلم من الخطأ والنسيان أو يقلّ وقوعهما منّا فيكون ذنباً جديراً بالعفو والمغفرة ، فهذا الدعاء لا يدلّ على أنّ حكم الله في النسيان والخطأ أن لا يؤاخذ عليهما بل قصارى ما يؤخذ منه أنّهما ممّا يرجى العفو عنهما إذا وقع العبد فيهما بعد بذل جهده والإحتياط والتحرّي والتفكّر والتذكّر وأخذ الدين بقوّة وشعر بتقصيره فلجأ إلى الدعاء الذي يقوى في النفس خشية الله تعالى والرجاء بفضله فيكون هذا الإقبال على الله تعالى نوراً تنقشع به ظلمة ذلك التقصير . ولعلّ إيراد الشرط بأنّ للإيذان بأنّ هذا خلاف ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن وأنّه لا يقع إلاّ قليلاً . وهذا وما قبله ممّا زدته على كلام الأستاذ الإمام في هذا المقام . وقد يرد على هذا التفسير حديث ابن عبّاس المرفوع عند ابن ماجه وابن المنذر وابن حبّان والدارقطني والبيهقي في السنن وهو : " إنّ الله تجاوز عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وهو ضعيف لا يسلم له إسناد ولكنّه لكثرة طرقه يعدّ عندهم من الحسن لغيره ( قاله في فتح البيان ) وقد يقال إنّ مخالفته لظاهر الآية تدلّ على وضعه لا ضعفه إلاّ أن يؤول بأنّ هذه الأمور أنفسها ممّا يتجاوز عنها في الآخرة ولما يترتّب عليها حكمه فإن كان صلاة أعيدت وإن كان ذنباً وجبت التوبة منه والتضرّع إلى الله بالدعاء وإلاّ أوخذ الناسي والمخطئ على ما يترتّب على النسيان والخطأ دونهما وقد أخطأ القرافي في فروقه بما كتب في هذا المقام خطأ ندعو الله أن يغفره له . { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } الإصر العبء الثقيل يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقلّ به لثقله ، وحمله أكثر المفسّرين على التكاليف الشاقّة لأنّ الآية نزلت في زمن التشريع ونزول الوحي ولذلك قال : { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } أي من الأمم التي بعث فيها الرسل كبني إسرائيل فقد كانت التكاليف شاقّة عليهم جدّاً ، وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنّه تعالى لا يكلّفنا ما يشقّ علينا كما صرّح بذلك بعد في قوله : { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] وهو يتضمّن الإمتنان علينا وإعلامنا بأنّه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر وأنّه يجب علينا شكره لذلك وحكمة الدعاء بذلك الآن استشعار النعمة والشكر عليها . وقال بعضهم : إنّ الإصر هو العقوبة على ترك الإمتثال وعدم حمل الشريعة على وجهها فطلب منّا أن ندعوه بأن لا تكون عقوبتنا على ذلك كعقوبة الأمم السابقة الذين نزلت بهم ألوان من العذاب ودمّرتهم تدميراً حتّى هلكوا هلاكاً حسيّاً . فلم يبق منهم أحد أو هلاكاً معنوياً بأن ضاعت أو تضعضعت شريعتهم ونسوا ما ذكّروا به حتّى عادوا إلى الوثنية والهمجية . { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من العقوبة أو من البلايا والفتن والمحن وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المراد به الشرائع والأحكام وجعلوه دليلاً على جواز تكليف ما لا يطاق كما تقدّم فهو عندهم بمعنى ما قبله . قال الأستاذ الإمام مسألة تكليف ما لا يطاق من الكلام الذي نعوذ بالله منه والخلاف فيها لا يترتّب عليه أثر ما في الشريعة ، وأصل المسألة هل يجوز على الله عقلاً أن يكلّف الناس ما لا يطيقون أم لا ؟ والمتقدّمون على أنّ ذلك لم يقع . وما لا يطاق هو ما لا يدخل في مكنة الإنسان وطوقه وما يطاق هو ما يمكن أن يأتيه ولو مع المشقّة . وقد جعلوا ما لا يطاق بمعنى المتعذّر الذي يعلو القدرة كالذي يستحيل فعله عقلاً أو عادة والواجب علينا أن نفهم القرآن بلغته التي أنزل بها لا بعرف أفلاطون وفلسفة أرسطو ، وقد رأينا العرب تعبّر بما لا يطاق عمّا فيه مشقّة شديدة كقول الشاعر : @ وليس يبيّن فضل المرء إلاّ إذا كلّفته ما لا يطيق @@ أقول : يريد رحمه الله تعالى أنّنا إذا فسّرنا ما لا طاقة لنا به بالأحكام والتكاليف كان معناه ما فيه مشقّة شديدة ، ولا يصحّ ذلك إلاّ إذا فسّرنا الإصر بالعقوبة تفادياً من التكرار والأولى أن يفسّر الإصر بالتكاليف الشاقّة وما لا طاقة به بالعقوبة على التقصير فيها وهو يتضمّن الدعاء بنفي سبب العقوبة . فيكون المعنى : ربّنا لا تحمل علينا ما يشقّ علينا من الأحكام بل حمّلنا اليسير الذي يسهل علينا حمله ربّنا ووفّقنا لحمل ما حمّلتنا والنهوض به كما تحبّ وترضى لكيلا نستحقّ بمقتضى سنتك أن تحمّلنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرطين في دينهم المسرفين في أهوائهم . { وَٱعْفُ عَنَّا } بمحو أثر ما عسانا نلمّ به من أنفسنا وعدم العقوبة عليه { وَٱغْفِرْ لَنَا } أي لا تفضحنا بإظهاره بذاته ولا بالمؤاخذة عليه { وَٱرْحَمْنَآ } في كلّ حال بما توفّقنا له من إقامة دينك والسير على سننك التي جعلتها بحكمتك طرقاً للسعادة { أَنتَ مَوْلَٰـنَا } الذي منحتنا أنواع الهداية ، وأيّدتنا بالتوفيق والعناية ، فلا نعبد إلاّ إيّاك ، ولا نستعين بسواك ، { فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } الذين اتّخذوا من دونك أولياء ، وجهلوا سننك في أنفسهم وفي سائر الأشياء ، فأعرضوا عمّا مددت لهم من الأسباب ، وجعلوا الملائكة والنبيين ومن دونهم من الأرباب ، والذين حجبتهم سننك الكونية ، عن الإيمان بالألوهية والربوبية ، انصرنا على الجاحدين والمرتابين منهم بالحجّة والبرهان ، وعلى المعتدين بالسيف والسنان ، وغير ذلك من أسباب حماية الحقّ التي تختلف باختلاف الزمان . استحسن الأستاذ الإمام تفسير الجلال " النصر " بالغلبة بالحجّة وبالسيف وقال إنّ النصر بالحجّة هو أعلى النصر وأفضله لأنّه نصر على الروح والعقل والنصر بالسيف إنّما هو نصر على الجسد ولا نأثر عنه في تفسير هذه الجمل الأخيرة من الآية شيئاً إلاّ هذه العبارة ، ولكنّه قال في شأن هذا الدعاء كلّه ما مثاله : إنّ الله تعالى ما علّمنا هذا الدعاء لأجل أن نلوكه بألسنتنا ونحرّك به شفاهنا فقط كما يفعل أهل الأوراد والأحزاب بل علّمنا إيّاه لأجل أن ندعوه به مخلصين له لاجئين إليه بعد أخذ ما أنزله بقوّة والعمل به على قدر الطاقة واستعمال ما يصل إليه كسبنا من الوسائل والذرائع التي هي وسائل الاستجابة في الحقيقة فمن دعاه بلسان مقاله ولسان حاله معاً فإنّه يستجيب له بلا شكّ ، ومن لم يعرف من الدعاء إلاّ حركة اللسان مع مخالفة الأحكام وتنكّب السنن فهو بدعائه كالساخر من ربّه الذي لا يستحقّ إلاّ مقته وخذلانه . فإذا كان سبحانه قد بيّن لنا سبب المغفرة والعفو ، وهدانا إلى طرق الغلبة والنصر ، فأعرضنا عن هدايته ، وتنكّبنا سننه في خليقته ، ثمّ طلبنا منه ذلك بألسنتنا دون قلوبنا وجوارحنا ، أفلا نكون نحن الجانين على أنفسنا ؟ وتوقّف الدعاء على العمل يستلزم توقّفه على العلم ، فلا يكون الداعي داعياً حقيقة كما يحبّ الله ويرضى إلاّ إذا كان قد عرف ما يجب عليه من الشريعة وسنن الإجتماع واتّبعه بقدر استطاعته . فإذا اتّخذت الأمّة الوسائل التي أمرت بها ودعت الله تعالى أن يثبّتها ويتمّ لها ما ليس في وسعها من أسباب النصر فإنّ الله تعالى يستجيب لها حتماً كما ورد في الحديث أنّ هذه الأمّة لا تغلب من قلّة فنسأله تعالى التوفيق وهداية أقوم طريق .