Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 4-4)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أقول : روي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنّ المراد بالمؤمنين هنا مَنْ يؤمن بالنبيّ والقرآن من أهل الكتاب ، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب . واختاره ابن جرير وآخرون . وعن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة : أنّ المؤمنين في الآيتين قسم واحد ، وهو كلّ مؤمن وإنّما تعدّد ما يؤمنون به . فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين . وثَمّ قول ثالث شاذّ ، وهو : أنّ الآيتين في مؤمني أهل الكتاب . وقد بيّنا قول شيخنا وسيأتي شرحه . والمراد على كلّ رأي من قوله تعالى : { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } : الإيمان التفصيليّ بكلّ ما أنزله الله تعالى في القرآن . وأمّا قوله : { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } : فيكفي فيه الإيمان الإجماليّ . وقال شيخنا ما مثاله : هذه هي الطبقة الثانية من المتّقين ، وأعيد لفظ ( الذين ) لتحقيق التمايز بين الطبقتين . وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى ؛ لأنّ أوصافها تقتضي الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة ، فالقرآن يكون هدىً لها بالأولى ، ومعنى كونه هدىً لها : إنّه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها ، لا تحيد عن النهج الذي نهجه لها ، كما ذكرنا . ما كلّ من أظهر الإيمان بما ذكر مهتد بالقرآن . فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتّى ، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سُئل عن القرآن قال : هو كلام الله ولا شكّ ، ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن نراها مباينةً له كلّ المباينة . القرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب ، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثّم من الكذب . القرآن يأمر بالفكر والتدبّر ، وهو كما وصف القرآن المكذّبين بقوله تعالى فيهم : { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } [ الذاريات : 11 ] لا يفكّر في أمر آخرته ، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمّته ، ولا يتدبّر الآيات والنذر ، ولا الحوادث والعبر . إنّ المؤمن الموقن المذكور في الآية الكريمة هو الذي يزيّن أعماله وأخلاقه باستكمال ما هدي إليه من القرآن دائماً ، ويجعله معياراً يعرض عليه تلك الأعمال والأخلاق ، ليتبيّن : هل هو مهتد به أم لا ؟ مثال ذلك : الصلاة . يصفها القرآن بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقال في المصلّين : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19 - 22 ] فبيّن أنّ الصلاة تقتلع الصفات الذميمة الراسخة التي تكاد تكون فطريّة . فمَنْ لم تنهَه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، ولم تقتلع من نفسه جذور الجبن والهلع . وتصطلم جراثيم البخل والطمع ، فليعلم أنّه ليس مصلّياً في عرف القرآن ، ولا مستحقّاً لما وعد عباده الرحمن . أما لفظ " الإنزال " فالمراد به : ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى ، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهيّ الاسميّ ، وسمّي إنزالا لما في جانب الألوهيّة من ذلك العلوّ . علوّ الربّ على المربوب ، والخالق على المخلوقين ، الذين لا يخرجون بالتكريم والإصطفاء عن كونهم عبيداً خاضعين . وقد سمّي القرآن غير الوحي من إسداء النعم الإلهية : إنزالا ، فقال : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] فنكتفي بهذا من معنى الإنزال ، وهو ما يفهمه كلّ عربيّ ، من حاضر وبدويّ . وأقول الآن : إنّني كنت اكتفيت بهذا القدر في تفسير الإنزال ، تحامياً لما في المسألة من خلاف وجدال ، ولكنّني عدت في التفسير إلى فصل المقال في مسائل النزاع ، فأزيد عليه : إنّ إنزال الحديد فيه أقوال أُخرى للسلف والخلف ، كقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] أوضّحها : إنّ المراد إنزال الأحكام المتعلّقة بها . وقيل : إنّ الحديد نزل من الجنّة مع آدم . ومن المعلوم أن الإنزال في أصل اللغة : وهو نقل الشيء من مكان عالي إلى ما دونه ، ويطلق العلوّ مجازاً في الأمور المعنويّة ، فهو علوّ مكان وعلوّ مكانة . ومن الثاني { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ } [ يونس : 83 ] . والتحقيق : إنّ علوّ المكان الحسّيّ أمر نسبيّ يختلف باختلاف موقع الناس من الأشياء ، والجهات كلّها أمور نسبيّة لا حقيقيّة ، وأنّ الله سبحانه وتعالى فوق جميع خلقه بائن منهم ، بلا تشبيه ولا تمثيل ، لا متّصل بشيء ولا حالّ فيه ، مستو على عرشه بالمعنى الذي أراده ، وهذا وجه تسمية ما يأتي من لدنه : إنزالا ، فملك الوحي كان يتلقّى الوحي منه عزّ وجلّ وينزل به من السماء إلى الأرض فيتلقّاه منه النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا نعلم صفة تلقّي المَلَك عن الله تعالى ؛ لأنّه من الغيب الذي نؤمن به مجملا كما بُلِّغناه ، ولا صفة تلقّي النبيّ صلى الله عليه وسلم من جبريل ؛ لأنّه من شأن النبوّة ولسنا بأنبياء ، وهو من الصلة بين عالم الغيب والشهادة . ولكنّ الله وصف لنا تكليمه للبشر بقوله : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } [ الشورى : 51 ] الآية - وقوله : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 193 - 195 ] ووصفه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في جوابه لمن سأله عنه . وهو الحارث بن هاشم المخزوميّ فقال : " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس - وهو أشدّه عليّ - فيفصم عنّي وقد وعيت ما قال . وأحياناً يتمثّل لي المَلَك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول " رواه الشيخان من حديث عائشة ، رضي الله عنها ثمّ قال تعالى : { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] أمّا لفظ ( الآخرة ) فقد ورد في القرآن كثيراً والمراد به : الحياة الآخرة أو الدار الآخرة حيث الجزاء على الأعمال ، ويتضمّن كلّ ما وردت به النصوص القطعيّة من الحساب والجزاء على الأعمال . وأمّا اليقين : فهو الإعتقاد المطابق للواقع الذي لا يقبل الشكّ ولا الزوال ، فهو اعتقادان : اعتقاد أنّ الشيء كذا ، واعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون إلاَّ كذا . وأقول الآن : هذا ما قاله شيخنا في الدرس ، وهو عرف علماء المعقول من المنطقيّين والمتكلّمين وقد جاريناه عليه في مواضع ، وأمّا اليقين في اللغة فهو : الإعتقاد الجازم في غير الحسّيّات والضروريّات - كما صرّحوا به ، فالجزم بخبر الصادق والإعتقاد المبنيّ على الأدلّة والأمارات يسمّى يقيناً إذا كان ثابتاً لا شكّ فيه . وفي لسان العرب : إنّ اليقين العلم وإزاحة الشكّ وتحقيق الأمر ، وهو نقيض الشكّ ، والعلم نقيض الجهل . اهـ فالإيمان الشرعيّ يشترط فيه اليقين اللغويّ فقط وهو : التصديق الجازم الذي لا شكّ فيه ولا تردّد ، ولا ملاحظة طرف راجح على طرف مرجوح فإنّ هذا هو الظنّ . واليقين المنطقيّ أكمل . وهو ما بنى عليه شيخنا ما يأتي مبسوطاً لا ملخّصاً ، قال ما معناه : وصفهم بأنّهم موقنون بالآخرة ؛ لأنّهم مؤمنون بالقرآن ، ولم يصف بهذا الوصف الطائفة الأولى ؛ لأنّها وإن كانت تؤمن بالغيب وتتوجّه إلى الله تعالى بالصلاة المخصوصة بها وتنفق ممّا رزقها الله ، فذلك لا ينافي أنّها في حيرة من أمر البعث والجزاء ، وكذلك كانت قبل الإيمان بالقرآن . وكان من هداية القرآن لها : أن خرج بها من غمرات تلك الحيرة . لا يعتدّ بما دون اليقين في الإيمان . وقد قال الله تعالى في اعتقاد قوم : { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ النجم : 28 ] وإذا لم يكن الظانّ موقناً وعلى نور من ربّه في اعتقاده ، فما حال من هو دونه من الشاكّين والمرتابين ؟ ويعرف اليقين في الإيمان بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال . إنّنا نرى الرجل يأتي إلى المحكمة بدعوى زور يريد أن يأكل بها حقّ أخيه بالباطل ، أو يجامل آخر بشهادة زور ، أو ينتقم بها من ثالث ، وهو يعلم أنه مزوّر ومبطل ، فيقال له : اتّق الله إنّ أمامك يوماً { يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } [ الفرقان : 27 ] فيقول أعوذ بالله أنا أعلم أنّ أمامي يوماً ، وأنّ أمامي شبراً من الأرض - يعني القبر - والدنيا لا تغني عن الآخرة . ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى أنّه محقّ في دعواه أو في شهادته ، ثمّ يظهر التحقيق أنّه مزوّر ، ويضطّره إلى الإعتراف والإقرار بذلك ، فكأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوّح في ذهنه عندما يريد الخلابة والخداع لأجل أكل الحقوق أو إرضاء الهوى ، ولا يظهر له أثر في أعماله وأحواله كأثر الإعتقاد ببعض المشايخ الميّتين ، كما بيّنا ذلك من قبل . [ فمثل هذا الإيمان - وإن تعارف الناس على تسميته تلك - ليس من الإيمان الذي يقوم على ذلك المعنى من الإيقان ، ويظهر أثره في الجوارح والأركان ] . ثمّ قال بعد كلام في آثار اليقين : اليقين إيمانك بالشيء ، والإحساس به من طريق وجدانك كأنّك تراه بأن يكون قد بلغ بك العلم به أن صار مالكاً لنفسك ، مصرِّفاً لها في أعمالها ، ولا يكون العلم محقّقاً للإيمان على هذا الوجه ، حتّى تكون قد أصبته من إحدى طريقتين : الأولى : النظر الصحيح فيما يحتاج فيه إلى النظر ، كالإيقان بوجود الله ورسالة الرسل ، وذلك بتخليص المقدمات ، والوصول بها إلى حدّ الضروريّات ، فأنت بعد الوصول إلى ما وصلت إليه كأنّك راء ما استقرّ رأيك عليه . والطريق الأخرى : خبر الصادق المعصوم بعد أن قامت الدلائل على صدقه وعصمته عندك ، ولا يكون الخبر طريقاً لليقين ، حتى تكون سمعت الخبر من نفس المعصوم صلى الله عليه وسلم أو جاءك عنه من طريق لا تحتمل الريب : وهي طريق التواتر دون سواها . فلا ينبوع لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوّة إلاَّ سبيل المتواترات التي لم يختلف أحد في وقوعها ، فالإيقان بالمغيّبات كالآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وأوصافه ، وصفات الله التي لا يهتدي إليها النظر ، لا يمكن تحصيله إلاَّ من الكتاب العزيز ، وهو الحقّ الذي جاءنا من الله لا ريب فيه ؛ فعلينا أن نقف عند ما أنبأ به من غير خلط ولا زيادة ولا قياس . وأكّد الإيقان بالآخرة بقوله : { هُمْ } اهتماماً بشأنه ، وليبيّن أنّ الإيقان بالآخرة خاصّة من خواصّ الذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل قبله من الكتب ، لا يشركهم فيه سواهم ، وقد علمت أنّه لا بدّ أن يكون الموقَن به من أحوال الآخرة قطعيّاً . فهذه الإضافات التي أضافوها على أخبار الغيب وخلقوا لها الأحاديث بل أضافوا إليها أيضاً أقوال أهل الكتاب وأشياء أُخرى نسبوها إلى السلف ، وبعض غرائب جاءت على لسان المنتسبين للتصوّف لا تدخل فيما يتعلّق به اليقين ، بل الجهل بالكثير منها خير من العلم به ، فإنّما الوصف الذي يمتاز به أهل القرآن هو اليقين ، ولا يكون اليقين إلاَّ حيث يكون القطع . وأمّا الظنّ فهو وصف مَنْ عابَهم القرآن وأزرى بهم ، فلا علاقة له بأحوالهم .