Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 5-5)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هاهنا إشارتان ، والمشار إليه عند الجمهور واحد : وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم ، وكرّر الإشارة للإعلام بأنّه لا بدّ من تحقّق الوصفين لتحقّق الحكم بأنّهم على هدىً وأنّهم هم المفلحون . كذا قال بعضهم - وهو تكلّف ظاهر ، وكذا قولهم : إنّ تنكير هدىً هنا للتعظيم . وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللفّ والنشر المرتّب . قال : إنّ الإشارة الأولى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] في هذه الآية للفرقة الأولى : وهم الذين ينتظرون الحقّ لأنّهم على شيء منه - كما يدلّ عليه تنكير " هدىً " الدالّ على النوع - وينتظرون بياناً من الله تعالى ليأخذوا به ، ولذلك تقبّلوه عندما جاءهم . فقد أشعر الله قلوبهم الهداية ، بما آمنوا به من الغيب ، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق ، وأنفقوا ممّا رزقهم الله . وأمّا الفرقة الثانية وهم المؤمنون بما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم فعلى هدىً تشرك فيه تلك الفرقة الأولى ؛ لكن على وجه أكمل ؛ لأنّها مؤمنة بالقرآن وعاملة به . وقوله : " على هدىً " تعبير يفيد التمكّن من الشيء كتمكّن المستقرّ عليه ، كقولهم : " ركب هواه " ولقد كان أفراد تلك الفرقة ( أي الأولى ) على بصيرة وتمكّن من نوع الهدى الذي كانوا عليه ، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم ، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيليّ المنزّل ، ولذلك قبلوه عندما بلغتهم دعوته . وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة الثانية { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } كما هو ظاهر ، وهم المفلحون بالفعل لاتّصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن ، وبما تقدّمه من الكتب السماويّة ، واليقين بالآخرة - لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا . ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل " هم " في الأولى وذكره في الثانية ، ولو كان المشار إليه واحداً لذكر الفصل في الأولى ؛ لأنّ المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التامّ ، فهو خاصّ بهم دون سواهم ، لكنّه اكتفى عن التنصيص على تمكّنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم . ومادّة الفلح تفيد في الأصل معنى الشقّ والقطع ، ومثلها مادّة الفلج بالجيم ، والفلخ بالخاء ، والفلذ والفلع والفلغ والفلق ، والفلّ والفلم ، ويطلق الفلاح والفلج على الفوز بالمطلوب ، ولكن لا يقال : أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفواً من غير تعب ولا معاناة ، بل لا بدَّ في تحقيق المعنى اللغويّ لهذه المادّة من السعي إلى الرغيبة ، والاجتهاد لإدراكها . فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلاّ بالإيمان بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله ، وباتّباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم ، مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة . ويدخل في هذا كلّه ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل ، كالشره والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة ، وارتكاب الفواحش والمنكرات ، والانغماس في ضروب اللذّات . كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة وجميع ما سمّاه القرآن عملا صالحاً من العبادات وحسن المعاملة مع الناس [ والسعي في توفير منافعهم العامة والخاصّة ، مع التزام العدل والوقوف عند ما حدّه الشرع القويم ، والإستقامة على صراطه المستقيم ] . وجملة القول : إنّ الإيمان بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بالدين الإسلاميّ جملةً وتفصيلا ، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتدّ به ، فلا يسع أحداً جهله ، فالإيمان به إيمان ، والإسلام لله به إسلام ، وإنكاره خروج من الإسلام . وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلاميّ وواسطة الوحدة الإسلاميّة ، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم ، فموكول إلى اجتهاد المجتهدين ، ولا يصحّ أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين . زاد الأستاذ هنا بخطّه عند قولنا : اجتهاد المجتهدين ما نصّه : [ أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحرّي والتمحيص ، وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم ؛ فإنّ ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال ، مثل ما للناقل معه ، فلا بدّ أن يكون عارفاً بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه ، ونحو ذلك ما يطول شرحه ويحصل الثقة للنفس بما يقول القائل ] . وأقول : معنى هذا أنّ بعض أحاديث الآحاد تكون حجّة على من ثبتت عنده واطمأنّ قلبه بها ، ولا تكون حجّة على غيره ، يلزم العمل بها ، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها ، مع دعوتهم إلى اتّباع القرآن والعمل به ، وبالسنّة العمليّة المتّبعة ، المبيّنة له ، إلاّ قليلاً من بيان السنّة ، كصحيفة عليّ - كرّم الله وجهه - المشتملة على بعض الأحكام ، كالديّة ، وفكاك الأسير ، وتحريم المدينة كمكّة . ولم يرضَ الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتّى الموطّأ . وإنّما يجب العمل بأحاديث الآحاد على مَنْ وثق بها روايةً ودلالة . وعلى مَنْ وثق برواية أحد ، وفهمه لشيء منها : أن يأخذه عنه ، ولكن لا يجعل ذلك تشريعاً عاماً . وأمّا ذوق العارفين ، فلا يدخل شيء منه في الدين ، ولا يعدّ حجّة شرعيّة بالإجماع ، إلاّ ما كان من استفتاء القلب في الشبهات ، والإحتياط في تعارض البيّنات .