Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 50-53)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جاء في الآية السابقة ذكر تنجية بني إسرائيل من آل فرعون ، وهو على كونه تفصيلاً لما قبله من حيث التذكير بالنعم ، مجمل من حيث الإنجاء ، فإنه يشمل النجاة بجميع أنواعها من ذلك العذاب . وذكر في هذه الآية نعمته في طريق الإنجاء بالتفصيل بعد الإجمال ؛ لبيان عناية الله تعالى بهم فيها ، إذ جعل وسيلته من خوارق العادات ؛ وجعل في طريقه هلاك عدوهم . وقد يقال : إن هذه نعمة مستقلة من نعمه تعالى عليهم ، لا أنها بيان الإجمال في التي قبلها . لما أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه يدعوهم إلى توحيد الله ، وإلى أن يخلّي بينه وبين شعب إسرائيل بعد إطلاقهم من ذلك الإستعباد والتعذيب ، لم يزدهم فرعون إلاّ تعذيباً وتعبيداً . وفي سفر الخروج من تاريخ التوراة : إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه يقسّي قلب فرعون فلا يخفف العذاب عن بني إسرائيل ولا يرسلهم مع موسى ؛ حتى يريه آياته . وأنه بعد الدعوة زاد ظلماً وعتوّاً ، فأمر الذين كانوا يسخّرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة ، بأن يزيدوا في القسوة عليهم ، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إيّاه لعمل اللبن ( الطوب ) ويكلفوهم أن يجمعوا التبن ويعملوا كل ما كانوا يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء . فأعطى الله تعالى موسى وأخاه هارون الآيات البينات ، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة ، فلما آمن السحرة برب العالمين ، رب موسى وهارون ؛ لعلمهم أن ما جاء به ليس من السحر ، وإنما هو تأييد من الله تعالى . ورأى ما رأى بعد ذلك من آيات الله لموسى ؛ سمح بخروج بني إسرائيل ، بل طردهم طرداً ، وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب وكانت إقامتهم في مصر 430 سنة ، ثم أتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم ، وأنجى الله بني إسرائيل ، وأغرق فرعون ومن معه ، وذلك قوله عزّ وجل : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ } أي واذكروا من نعمنا عليكم إذ فرقنا بكم البحر ، فجعلنا لكم فيه طريقاً يبساً سلكتموه في هربكم من فرعون { فَأَنجَيْنَٰكُمْ } بعبوره من جانب إلى آخر { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } إذ عبروا وراءكم { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } ذلك بأعينكم ، ولولاه لعظم عليكم خبر غرقهم ولم تصدّقوه . قال الأستاذ الإمام : فلق البحر كان من معجزات موسى . وقد قلنا في رسالة التوحيد : إن الخوارق الجائزة عقلا - أي التي ليس فيها إجتماع النقيضين ، ولا إرتفاقهما - لا مانع من وقوعها بقدرة الله تعالى على يد نبي من الأنبياء ، ويجب أن نؤمن بها على ظاهرها ، ولا يمنعنا هذا الإيمان من الإهتداء بسنن الله تعالى في الخلق واعتقاد أنها لا تتبدل ولا تتحول ، كما قال الله في كتابه الذي ختم به الوحي ، على لسان نبيه الذي ختم به النبيين ، فانتهى بذلك زمن المعجزات . ودخل الإنسان بدين الإسلام في سنّ الرشد ، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان ، وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الإعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال ، كما كان في سن الطفولية ( النوعية ) بل أرشده تعالى بالوحي الأخير ( القرآن ) إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي ، ثم جعل له كل إرشادات الوحي ، مبينة معللة مدللة ، حتى في مقام الأدب ( كما أوضحنا ذلك في رسالة التوحيد ) . فإيماننا بما أيد الله تعالى به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان ، لا ينافي كون ديننا هو دين العقل والفطرة ، وكونه حتّم علينا الإيمان بما يشهد له العيان ، من أن سننه تعالى في الخلق لا تبديل لها ولا تحويل . أقول . وجملة القول أن الذي يمنعه العقل هو وقوع المحال ، فلا يمكن أن يؤيد نبي بما هو مستحيل عقلا ؛ لأن المستحيل هو الذي لا يمكن وقوعه ، وما وقع لا يكون مستحيلا ؛ ولذلك سمّى المتكلمون المعجزات " خوارق العادات " ومنهم من يقول : إن لها أسباباً خفية روحية ، لم يطلع الله الأمم عليها ، ولكنّه خص بها الأنبياء عليهم السلام . والمشهور : إن الله يخلقها بغير سبب لتدلّ على أن السنن والنواميس لا تحكم على واضعها ومدبرها ، وإنما هو الحاكم المتصرف بها ، وإنما كان هذا هو المشهور ؛ لأنه الظاهر ، وإلاّ فمن ذا الذي يستطيع أن ينفي ذلك النفي المطلق عن عالم الغيب ؟ وقد ذكر القولين الإمام الغزالي ، وأشار إليهما الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد . قال : وزعم الذين لا يحبّون المعجزات من المتهوّرين : إنّ عبور بني إسرائيل البحر كان في إبان الجزر ، فإن في البحر الأحمر رقارق ، إذا كان الجزر - الذي عهد هناك شديداً - يتيسر للإنسان أن يعبر ماشياً ، ولما اتبعهم فرعون بجنوده ورآهم قد عبروا البحر ، تأثّرهم وكان المدّ تفيض ثوائبه ( وهي المياه التي تجيء عقيب الجزر ) ، فلما نجا بنو إسرائيل ، كان المدّ قد طغى وعلا حتّى أغرق المصريين . تحقق إنعام الله على بني إسرائيل يتمّ بهذا التوفيق لهم ، والخذلان لعدوهم ، ولا ينافي الإمتنان به عليهم ، كونه ليس آية لموسى عليه السلام ، فإن نعم الله بغير طريق المعجزات أعم وأكثر - كذا قالوا . قال شيخنا : ولكن يدل على كونه آية له وصف كل فرق منه بالطود العظيم ، وإذا تيسر تأويل كل آيات القصة من القرآن ، فإنه يتعسر تأويل قوله تعالى في سورة الشعراء : { فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] وهو الموافق لما في التوراة . اهـ . ويقول المؤوّلون : إنهم لما عبروا انفرق بهم ، وكانوا لإستعجالهم واتصال بعضهم ببعض ، قد جعلوا ذلك الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدّين كالطودين ، وأن هذه الآية تشعر بذلك ، فإنه يقول : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ } [ البقرة : 50 ] ولم يقل : فرقنا لكم البحر . والظاهر : إنّ الباء هنا للآلة ، كما تقول قطعت بالسكين . وأما قوله تعالى : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } [ الشعراء : 63 ] فإنه لا ينافي أن الإنفلاق كان بهم - كما في آية البقرة - لا بالعصا ، وذلك أن الذي أوحاه الله تعالى إلى موسى هو أن يخوض البحر ببني إسرائيل ، وقد عهد أن من كان بيده عصا ، إذا أراد الخوض في ماء كترعة أو نهر ، فإنه يضرب الماء أوّلا بعصاه ، ثم يمشي ، فهذه الآية معبرة عن هذا المعنى ، أي ألهمه الله عندما وصل إلى البحر أن يضربه بعصاه ويمشي ، ففعل ومشى وراءه بنو إسرائيل بجمعهم الكبير ، فانفلق بهم البحر . وأما قوله تعالى : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] فهو تشبيه معهود مثله في مقام المبالغة ، كقوله تعالى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } [ هود : 42 ] وقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [ الشورى : 32 ] فالأمواج والسفن والجواري لا تكون كالجبال الشاهقة ، والأعلام الباسقة ، وإنما تقضي البلاغة بمثل هذا التعبير ، لكمال التصوير وإرادة التأثير . هذا ما ينتهي إليه تأويل المؤولين ولم يبسطه الأستاذ الإمام في الدرس ، وإنما قرر أن فرق البحر كان معجزة لموسى عليه السلام ، وحكى عن المتهورين من الذين لا يحبون المعجزات خلافه ، وهو أنهم يزعمون أن عبور البحر كان في وقت الجزر وإنما بسطنا تأويلهم ؛ لئلا يتوهموا أننا لم نقل به لأننا لم نهتد لتوجيهه مثلهم : ولا يهمنا أن ننازعهم في تأويل آية بخصوصها إذا علمنا أنهم يثبتون الآيات الكونية ، تأييداً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإذا كانوا ينفونها كلها ، فالأولى لهم ألا يتعبوا في تأويل جزئياتها ، فإن منها ما لا يقبل التأويل بحال من الأحوال ، وحينئذٍ يكون الكلام بيننا وبينهم لإثباتها أولاً في قدرة الله وإرادته ، ثم في إثبات أصل الوحي وإرسال الرسل . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . ولنا أن نقول هنا : إن الباء في قوله : " بكم " سببية أو للملابسة لا للآلة ، وقد أشار البيضاوي إلى ذلك كله بقوله : فقلناه وفصّلنا بين بعضه وبعض ، حتى حصلت فيه مسالك لسلوككم فيه ، أو بسبب إنجائكم ، أو متلبساً بكم . وأزيد الآن : أنني رأيت بعد كتابة ما تقدّم ببضع سنين ، جزءاً من تفسير الأصبهاني في خزانة كتب كوبريلي باشا في الآستانة ، فراجعت تفسير هذه الآية فيه ، فألفيته يذكر في الباء الوجهين ، أي : إن فرق البحر حصل بهم ، أي بنفس عبورهم أو بسببهم . ومثله قول البغوي : قيل معناه فرقناه لكم ، وقيل : فرقنا البحر بدخولكم إياه . قال الأستاذ الإمام : بعد أن قرر نعمة الإنجاء من إستبعاد الظالمين ، والبعد من فتنة القوم الضالين : ذكر النعمة التي وليتها ، وذكّرهم بما كان من كفرهم إياها ، فقال : { وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } وقد كانت هذه المواعدة لإعطائه التوراة . ولما ذهب لميقات ربه استبطئوه فإتخذوا عجلاً من ذهب فعبدوه كما هو مفصّل في غير هذه السورة ( وسيأتي هناك تفسيره إن شاء الله تعالى ) والمراد هنا التذكير بالنعمة وبيان كفرها ، ليظهر أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاندته ليس ببدع من أمرهم ، وإنما هو معهود منهم مع رؤية الآيات وبعد إغداق النعم عليهم ، ولذلك اكتفى بالإشارة إليه بقوله : { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ } أي إتخذتموه إلهاً ومعبوداً ، وبعد أن ذكّرهم بذلك الظلم ، ذكّرهم بتفضّله عليهم بالتوبة ، ثم بالعفو الذي هو جزاء التوبة فقال : { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعمة بدوام التوحيد والطاعة . ثم قفّى على هذا بذكر إيتائهم الكتاب وهو المنة الكبرى فقال : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } قال المفسر " الجلال " كغيره : إن الفرقان هو التوراة ، وقال بعض المفسرين : إن الفرقان هو ما أوتيه موسى من الآيات والمعجزات . وقال الأستاذ الإمام : بعد حكاية القولين : ولكن ذكره بعد الكتاب معطوفاً عليه ، دليل على أن المراد به ما في الكتاب من الشرائع والأحكام المفرّقة بين الحق والباطل والحلال والحرام ، ومعنى قوله ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } و { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي ليعدكم بهذا العفو للإستمرار على الشكر ، ويعدكم بهذه الأحكام والشرائع للإهتداء ، ويهيئكم للإسترشاد ، فلا تقعوا في وثنية أخرى . وإنّ من كمال الإستعداد للهداية بفهم الكتاب أن يعرفوا : إنّ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو هدى ونور يرجعهم إلى الأصل الذي تفرقوا عنه واختلفوا فيه ، وكذلك اهتدى به منهم المستبصرون ، وجاحده الرؤساء المستكبرون ، والمقلدون الذين لا يعقلون .