Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 54-57)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه ، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تالياً له ومتأخراً عنه . مهّد أولا للتذكير تمهيداً يسترعي السمع ، ويوجّه الفكر ، ويستميل القلب ، وهو : الإبتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين - ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم - ثم طفق يفصّل النعمة ويشرحها ، فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم ، وهو : تنجيتهم من ظلم آل فرعون ، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم ، وهو قتل الأبناء - يخفض من عتوّ تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسوّد عليهم شعباً آخر ، وهو مع هذا لا ينفر بها عن الإصغاء والتدبر ؛ لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها . ثم ثنّى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها ، إذ لا يشوب الفخر بها تنغيص من تذكّر غضاضة تتصل بواقعتها ، وهي فرق البحر بهم ، وإنجاؤهم ، وإغراق عدوهم . لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتزّ وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم ، ولا سيّما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة ، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها ، وتتمادى في إبائها وزهوها ، بل عقّب عليها ، فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم ، هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم ، وكفروا نعمة ربهم ، وهي : اتخاذ العجل إلهاً . وقدّم على ذكرها خبر مواعدة موسى - وهي من النعم ، وختمها بذكر العفو ، ثم قفّى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان . وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين ، قلقة يتنازعها شعور إعتراف المذكّر الواعظ لها بالشرف ، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف . بعد هذا كلّه استعدّت تلك النفوس لأن تسمع آيات مبدوءة بذكر سيئاتها من غير تمهيد ولا توطئة ، فانتقل الكلام إلى هذا الضرب من التذكير مبدوءً بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } أي واذكر أيّها الرسول - فيما تلقيه على بني إسرائيل وغيرهم - إذ قال موسى لقومه الذين اتخذوا من حليّهم عجلا عبدوه إذ كان يناجي ربّه في الميقاتين الزماني والمكاني : { يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } إلهاً عبدتموه . والقصة مفصلة في سورتي الأعراف وطه المكيّتين ؛ لأن قصة موسى فيهما مقصودة بالذات ، وأما ما هنا فهو تذكير لبني إسرائيل بما تقدّم وجهه في سياق دعوتهم إلى الإسلام { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي فتوبوا إلى خالقكم الذي لا يجوز أن تعبدوا معه إلهاً آخر هو أدنى منكم ، وهو من خلقكم ، أي تقديركم وصنعكم ، وذلك بأن يقتل بعضكم بعضاً ، فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه . ويحتمل اللفظ أن يكون معناه : ليبخع كل من عبد العجل نفسه انتحاراً . تكلم الأستاذ الإمام في التوبة وقال : إنها محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب ، والباعث عليها هو شعور التائب بعظمة من عصاه وما له من السلطان عليه في الحال ، وكون مصيره إليه في المآل ، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي بعد مقارفة الذنب ، يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية ويحدث في روحه إنفعالاً مما فعل ، وندماً على صدوره عنه ، ويزيد هذا الحال في النفس تذكّر الوعيد على ذلك الذنب ، وما رتّبه الله عليه من العقوبة في الدنيا والآخرة . هذا أثر التوبة في النفس ، وهذا الأثر يزعج التائب إلى القيام بأعمال تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه وتمحو أثره السيء { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] . فمن علامة التوبة النصوح : الإتيان بأعمال تشقّ على النفس ، وما كانت لتأتيها لولا ذلك الشعور الذي يحدثه الذنب . وهذه العلامة لا تتخلف عن التوبة ، سواء كان الذنب مع الله تعالى أو مع الناس ، ألا ترى أن أهون ما يكون من إنسان يذنب مع آخر يباهي به ، أن يجيء معترفاً بالذنب معتذراً عنه ؟ وهذا ذلّ يشقّ على النفس لا محالة ، وقد أمر بنو إسرائيل بأشق الأعمال في تحقيق التوبة من أكبر الذنوب ، وهو الرغبة عن عبادة من خلقهم وبرأهم إلى عبادة ما عملوا بأيديهم وقد قال : { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } لينبههم إلى أن الإله الحقيقي هو الخالق البارىء ؛ ليتضمن الأمر الإحتجاج عليهم والبرهان على جهلهم . ذلك العمل الذي أمرهم به موسى هو قتل أنفسهم . والقصة في التوراة التي بين أيديهم إلى اليوم : دعا موسى إليه من يرجع إلى الرب ، فأجابه بنو لاوي فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضاً ففعلوا ، وقتل في ذلك اليوم " نحو ثلاثة آلاف " وقال مفسرنا ( الجلال ) كغيره : إن الذين قتلوا سبعون ألفا . والقرآن لم يعيّن العدد ، والعبرة المقصودة من القصة لا تتوقف على تعيينه فنمسك عنه . كذا قال الأستاذ الإمام ، وهذا مذهبه في جميع مبهمات القرآن يقف عند النص القطعي لا يتعدّاه ، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه . قال تعالى : { ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } لأنه يطهركم من رجس الشرك الذي دنستم به أنفسكم ، ويجعلكم أهلا لما وعدكم به في الدنيا ولمثوبته في الآخرة . وقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } من كلام الله تعالى لا تتمة لكلام موسى عليه السلام في الظاهر ، وهو معطوف على محذوف تقديره ففعلتم ما أمركم موسى به فتاب عليكم { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي إنه هو وحده الكثير التوبة على عباده بتوفيقهم لها وقبولها منهم - وإن تعددت قبلها جرائمهم - الرحيم بهم ، ولولا رحمته لعجّل بإهلاكهم ببعض ذنوبهم الكبرى ولا سيما الشرك به . { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } أي واذكروا إذ قلتم لنبيّكم يا موسى لن نصدق بما جئت به تصديق إذعان واتباع حتى نرى الله عياناً جهرة فيأمرنا بالإيمان لك { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أي فأخذت القائلين ذلك منكم الصاعقة وأنتم تنظرون ذلك بأعينكم . وسيأتي بيان هذا بالتفصيل في سورة الأعراف ، فالقصة هنالك مقصودة بكل ما فيها من فائدة وعبرة ، وإنما المراد بها هنا التذكير كما تقدم . قال الأستاذ الإمام : سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى واقعة مستقلة ، لا تتصل بمسألة عبادة العجل ، وهي معروفة عند بني إسرائيل ومنصوصة في كتابهم ، وذلك أن طائفة منهم قالوا : لماذا اختصّ موسى وهارون بكلام الله تعالى من دوننا . وانتشر هذا القول في بني إسرائيل ، وتجرّأ جماعة منهم بعد موت هارون وهاجوا على موسى وبني هارون ، وقالوا لهم : إن نعمة الله على شعب إسرائيل هي لأجل إبراهيم وإسحاق ، فتشمل جميع الشعب ، وقالوا لموسى : لست أفضل منا فلا يحق لك أن تترفع وتسود علينا بلا مزيّة ، وإننا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم ، وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين ، وهذه النار هي المعبّر عنها هنا بالصاعقة ، وهل ثمة من نار غير الإشتعال بالكهرباء وهو ما تحدثه الصاعقة التي تحدث الإنشقاق في الأرض أيضاً ؟ وقد أخذ هذا العذاب تلك الطائفة والآخرون ينظرون ، وهكذا كان بنو إسرائيل يتمردون ويعاندون موسى عليه السلام ، وكان سوط عذاب الله يصب عليهم ؛ فرموا بالأمراض والأوبئة ، وسلطت عليهم الهوام وغيرها حتى أماتت منهم خلقاً كثيراً . فمجاحدتهم ومعاندتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بدعاً من أعمالهم . قال تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ذهب الأستاذ الإمام إلى أن المراد بالبعث هو كثرة النسل ، أي أنه بعدما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظُنَّ أن سينقرضون ، بارك الله في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء ، الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها . والعبرة الإجتماعية في الآيات : إنّ الخطاب في كل ما تقدم كان موجهاً إلى الذين كانوا في عصر التنزيل ، وأن الكلام عن الأبناء والآباء واحد لم تختلف فيه الضمائر ، حتى كأن الذين قتلوا أنفسهم بالتوبة والذين صعقوا بعد ذلك ، هم المطالبون بالإعتبار وبالشكر ، وما جاء الخطاب بهذا الأسلوب ، إلاّ لبيان معنى وحدة الأمة وإعتبار أن كل ما يبلوها الله به من الحسنات والسيئات ، وما يجازيها به من النعم والنقم : إنما يكون لمعنى موجود فيها ، يصحح أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق ، كأنه وقع به ؛ ليعلم الناس أن سنة الله تعالى في الإجتماع الإنساني أن تكون الأمم متكافلة ، يعتبر كل فرد منها سعادته بسعادة سائر الأفراد ، وشقاءه بشقائهم ، ويتوقع نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يواقعها هو { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] وهذا التكافل في الأمم هو المعراج الأعظم لرقيّها ؛ لأنه يحمل الأمة التي تعرفه على التعاون على الخير والمقاومة للشرّ فتكون من المفلحين . بعد هذا ذكر الله تعالى نعمة أخرى ، بل نعمتين من النعم التي منَّ بها على بني إسرائيل فكفروا بها ، ولكنّه لم يذكر ما كان به الكفران ، بل طواه وأشار إليه بما ختم به الآية من أنهم لم يظلموا الله تعالى بذلك الذنب المطوي ، وإنما ظلموا أنفسهم ، وهذا أسلوب آخر من أساليب البيان في التذكير وضرب من ضروب الإيجاز ، التي هي أقوى دعائم الإعجاز . أما النعمة الأولى فقوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ } قال الأستاذ الإمام : هذه نعمة مستقلة متصلة بما قبلها في سياق الذكرى ، منفصلة عنها في الوقوع ، فإن التظليل استمرّ إلى دخولهم أرض الميعاد ، ولولا أن ساق الله إليهم الغمام يظلّلهم في التيه ، لسفعتهم الشمس ولفحت وجوههم . وقال : لا معنى لوصف الغمام بالرقيق ، كما قال المفسر ( الجلال ) وغيره ، بل السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل ، إلاّ بسحاب كثيف يمنع حرّ الشمس ووهجها . وكذلك لا تتمّ النعمة التي بها المنّة إلاّ بالكثيف ، وهو المنقول المعروف عند الإسرائيليين أنفسهم . وأما النعمة الثانية ففي قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } ما منح من الله تعالى يسمى إيجاده إنزالا ، ومنه { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [ الحديد : 25 ] على أن المنّ ينزل كالندى ، وهو مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر مائعة ، ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس ، ومنها الترنجبين وبه فسّر المنّ مفسّرنا وغيره . وأما السلوى فقد فسّروها بالسماني ، وهو الطائر المعروف ، فمعنى النزول يصح فيه على حقيقته أيضاً . وظاهر أن قوله تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ } مقدر فيه القول . وفي ( سفر الخروج ) أن بني إسرائيل أكلوا المنّ أربعين سنة ، وأن طعمه كالرقاق بالعسل ، وكان لهم بدلاً من الخبز ، وليس المراد أنه لم يكن لهم أكل سواه ، إلاّ السلوى ، فقد كان معهم المواشي ، ولكنّهم كانوا محرومين من النبات والبقول ، كما يعلم مما يأتي . وفي قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } تقرير لقاعدة مهمة ، وهي : إنّ كل ما يطلبه الدين من العبد فهو لمنفعته ، وكل ما ينهاه عنه فإنما يقصد به دفع الضرر عنه ، ولن يبلغ أحد نفع الله فينفعه ، ولن يبلغ أحد ضرّه فيضرّه كما ثبت في الحديث القدسي . فكل عمل ابن آدم له أو عليه { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ]