Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 61-61)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا ضرب آخر مما ذكّر الله تعالى به بني إسرائيل في سياق دعوتهم إلى الإسلام . قال صاحب الكشاف : كانوا قوماً فلاّحة فنزعوا إلى عكرهم ، فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء ، اهـ . وقال الأستاذ الإمام في تفسيره ونقده وردّه ما نصّه : فلاّحة بتشديد اللام جمع فلاّح بمعنى الزرّاع ، وعكرهم بكسر العين أصلهم ، وأجم الطعام من باب ضرب وعلم كرهه من المداومة عليه . وهو بيان لما بعثهم على أن يسألوا موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم تلك الأشياء التي طلبوها ، والسبب في جهرهم بذلك وثورتهم عليه ، كأنه يقول : إن الحامل لهم على ذلك هو تمكّن العادة من نفوسهم ، فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونوا يألفون ، نزعوا إلى ما كانوا قد عوّدوه من قبل . ولو كان الأمر كما قال ، لكان في ذلك التماس عذر لهم ، ولما عدّ الله هذا القول في خطاياهم ، بل إن السآمة من تناول طعام واحد ، قد يكون من لوازم الطباع البشرية ، إلاّ ما شذّ منها لعادة أو ضرورة ، ولا يعدّ ما هو من منازع الطباع جرماً إذا لم يسقط ذلك في محظور . وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } [ البقرة : 63 ] ، إلخ . كل ذلك يدل على أن ما عدّد من أفاعيلهم ، مع تضافر الآيات بين أيديهم وتوارد نعم الله عليهم : كلّه من خطاياهم ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة ، واستحقاق غضب الله تعالى عقب مقالهم هذا . والذي يقع عليه الفهم من الآية : إنّ النزق قد استولى على طباعهم وملك البطر أهواءهم ، حتى كانوا يستخفّون بذلك الأمر العظيم ، الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة والخروج من الخسف الذي كانوا فيه . ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق وعده لهم ، لم تستيقنه أنفسهم ، بل كانوا على ريب منه ، وكانوا يظنون أن موسى عليه السلام خدعهم بإخراجهم من مصر وجاء بهم في البرّية ليهلكهم ؛ فلذلك دأبوا على إعناته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع ، حتّى ييأس منهم فيرتدّ بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلّة ، ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة ، فما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] . ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم : لن نصبر على طعام واحد . فقد عبّر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأتي لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده ، فكأنهم قالوا : اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد ، فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم ، فادعُه يخرج لنا ما يمكن معه أن نبقى معك ، إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا ، وهم يعلمون أنهم كانوا في برّية غير منبتة ، وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام ، ولكنه نزق وبطر - كما بيّنا - وطلب للخلاص مما يخشون على أنفسهم ، ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخبارهم . ووصفوا الطعام بالواحد مع أنه نوعان - المنّ والسلوى - لأنهما طعام كل يوم ، والعرب تقول لمن يأكل كل يوم عدّة ألوان لا تتغير : إنه يأكل من طعام واحد . كأنهم ينظرون إلى أن مجموع الألوان هي غذاؤه الذي لا يتغير ، فهي غذاء واحد ، فإذا تغيرت الألوان تغير نوع الغذاء فكان طعاماً متعدّداً . والبقل من النبات ما ليس بشجر دقَّ ولا جلّ كما ذكره ابن سيده . وقال أبو حنيفة : ما ينبت في بذرة ولا ينبت في أرومة ثابتة ، وفرّق ما بين البقل ودقّ الشجر : إنّ البقل إذا رعى لم يبق له ساق ، والشجر تبقى له سوق وإن دقّت . وأرادوا من البقل ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنعناع ونحوهما مما يغري بالقضم ، ويعين على الهضم . والقثاء هي أخت الخيار تسمّيها العامة " القتة " . والعدس والبصل معروفان ، والفوم هو الحنطة . وقال الكسائي وجماعة : هو الثوم أبدلت الثاء فاء كما في جدث وجدف . وطلبهم للحنطة هو طلبهم للخبز الذي يصنع منها . قال موسى عليه السلام تقريعاً لهم على أشرهم وإنكاراً لتبرّمهم : { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } أي أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المّن والسلوى ؟ والمن فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعها غذاء تقوم به البنية وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة وتغذية . أقول : والأدنى في اللغة الأقرب ، واستعير للأخس والأدون كما استعير البعد للرفعة . والإستبدال طلب شيء بدلاً من آخر ، والباء تدخل المبدل منه المراد تركه . ثم قال : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } من الأمصار { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي فإنكم إن هبطتموه ونزلتموه وجدتم فيه ما سألتم ، أمّا هذه الأرض التي قضى الله أن تقيموا فيها إلى أجل محدود ، فليس من شأنها أن تنبت هذه البقول ، وإن الله جل شأنه لم يقض عليكم بالتيه في هذه البرية ، إلاّ لجبنكم وضعف عزائمكم عن مغالبة من دونكم من أهل الأمصار ، فلو صح ما تزعمون من كراهتكم للطعام الواحد فأنتم الذين قضيتم به على أنفسكم بما فرط منكم . فإن أردتم الخلاص مما كرهتم فأقدموا على محاربة من يليكم من سكان الأرض الموعودة ، فإن الله كافل لكم النصر عليهم ، وعند ذلك تجدون طلبتكم فالتمسوا الخير في أنفسكم وفي أفعالكم ، فإن الله لا يضيع أجر العاملين . قال تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } الذلة والذل : خلق خبيث من أخلاق نفس الإنسان يضادّ الإباء والعزة ، وأصل المادّة فيه معنى اللين . فالذل بالكسر اللين ، وبالضم والكسر ضد الصعوبة ، وإذا تتبعت المادة وجدتها لا تخلو من هذا المعنى . صاحب هذا الخلق ليّن ينفعل لكل فاعل ، ولا يأبى ضيم ضائم . غير أن هذا الخلق الذي يهون على النفس قبول كل شيء لا يظهر أثره غالباً على البدن وفي القول ، إلاّ عند الاستذلال والقهر ، وكثيراً ما ترى الأذلاء تحسبهم أعزاء ، يختالون في مشيّتهم من الكبرياء ، ويباهون بما لهم من سلف وآباء ، وربما فاخروا من لا يخشون سطوته من الكبراء . @ وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا @@ ولكن متى شعر الذليل بنيّة من نفس القاهر ، أو طاف بذهنه خيال يد تمتدّ إليه استخذى واستكان ، وظهر السكون على بدنه ، واشتمل الخشوع على قوله وفعله ، وهذا الأثر الذي يسطع من النفس على البدن ، هو الذي يسمى المسكنة . وإنما سمي الفقر مسكنة ؛ لأن العائل المحتاج تضعف حركته ويذهب نشاطه فهو بعدم ما يسدّ عوزه كأنه يقرب من عالم الجماد ، فلا تظهر فيه حاجة الاحياء فيسكن والمشاهدة ترشدنا إلى تحقيق ما عليه أهل المسكنة في أوضاع أعضائهم ، وما يبدوا على وجوههم ، وما طبع في أقوالهم وأعمالهم . فضرب الذلة والمسكنة على اليهود هو جعل الذل وضعف العزيمة محيطين بهم كما تحيط القبة المضروبة بمن فيها ، أو إلصاقهما بطباعهم ، كما تطبع الطغرى على السكة { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي رجعوا به ، كما يقال رجع أو عاد بصفقة المغبون - إذا كان ذلك آخر شوطه ومنتهى سعيه . وكذلك كان آخر أطوار اليهود في بغيهم أيام ملكهم . والمراد به فقد الملك وما يتبعه . وقال شيخنا : استحقوا غضبه ، ومن استحقه فقد أصابه ، فقد غضب الله عليهم . وتنكير الغضب دلالة على أنه نوع عظيم من سخطه جل شأنه { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } . أقول : أي ذلك العقاب بضرب الذلة والمسكنة وبالغضب الإلهي ، بسبب ما جروا عليه من الكفر بآيات الله ، إلخ . فإنهم بإحراجهم لموسى عليه السلام ، وإعناتهم له في المطالب ، مع كثرة ما شاهدوا من العجائب ، وما أظهر الله لهم من الغرائب ، قد دلّوا على أن لا أثر للآيات في نفوسهم ، فهم بها كافرون في الحقيقة . ونسيان الآيات ، وعدّها كأن لم تكن ، يعدّه الكتاب العزيز كفراً ، كما قال شيخنا : { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } مع أن الكتاب يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء ، فضلاً عنهم ، إلاّ بحقّه المبيّن فيه ، كل ذلك دل فيهم على طباع بعيدة عن الكرم ، وقلوب غلف دون الفهم ، ومن كان هذا شأنه فالأجدر به أن يكون ذليلا مقهوراً ، ثم هو مهبط غضب الله ومحط نقمه ؛ لأنه أشد الناس كفراً لنعمه . وقوله : { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } مع أن قتل النبيين لا يكون إلاّ كذلك ، يزيد في شناعة حالهم ، ويصرّح بأنهم لم يكونوا مخطئين في الفهم ، ولا متأولين للحكم ، بل ارتكبوا هذا الجرم العظيم عامدين ، وهم يعلمون أنهم بارتكابه مخالفون لما شرع الله تعالى لهم في كتاب دينهم { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . قال الأستاذ : ذلك الذل وتلك الخلافة بالغضب ، إنما لزماهم لأنهم عصوا الله فيما أمرهم أن يأخذوا به من الأحكام ، ولأنهم اعتدوا تلك الحدود التي حدّها الله لهم في شرائع أنبيائهم ، وقد كانت تلك الأحكام والحدود هي الوسيلة لإخراجهم من الذل ، وتمكين العز والسلطان لهم في الأرض الموعودة ؛ لأنها كانت الكافلة بنظامهم ، الحافظة لبناء جماعتهم ، فإذا أهملوها فسدت ألفتهم ، وانهدم بناؤهم ، وأسرعت إليهم الذلة التي لم تكن فارقتهم ، إلاّ منهزمة من يدي سلطان الشريعة ، ولم يكن يصدها عنهم ، إلاّ معاقل النظام تحت رعايته . ولزمتهم الذلة والمسكنة بعد هذا لزوم الطابع للمطبوع . والمتبادر ، وعدّه الأستاذ احتمالا أن ترجع الإشارة في ( ذلك ) إلى الثاني ، أي الكفر بآيات الله وقتل النبيين . أي إنّ كفرهم وجرأتهم على النبيّين بالقتل إنما منشؤهما عصيانهم واعتداؤهم حدود دينهم ؛ لأن الذي يدين بدين أو شريعة - أياً كانت - يتهيّب لأوّل الأمر مخالفتها ، فإذا خالفها لأوّل مرة تركت المخالفة أثراً في نفسه ، وضعفت هيبة الشريعة في نظره ، فإذا عاد زاد ضعف سلطة الشريعة على إرادته ، ولا يزال كذلك حتى تصير المخالفة طبعاً وريناً ، وينسى ما قام على الشريعة من دليل وما كان لها من سيطرة ، ويضري بالعدوان . كما يضري الحيوان بالإفتراس . وكل عمل يسترسل فيه العامل تقوى ملكته فيه خصوصاً ما اتبع فيه الهوى .