Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 74-74)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أقول : وصفهم الله تعالى بأنّه قد طرأ عليهم بعد رؤية تلك الآيات ما أزال أثرها من قلوبهم ، وذهب بعبرتها من عقولهم ، فقال : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فالعطف بـ ( ثمّ ) يفيد أنّ الأوّلين منهم قد خشعت قلوبهم لمّا رأوا في زمن موسى عليه السلام ما رأوا ، ثمّ خلف من بعدهم خلف كان أمر قسوتها ما وصفه عزّ وجلّ . والقسوة : الصلابة ، وهي من صفات الأجسام . ووصف القلوب بالقسوة مجاز تشبيه ، ممّا يسمونه الإستعارة بالكناية ، ويصحّ في " أو " الترديد والتشكيك ، وهو بالنسبة إلى المخاطبين لا إلى المتكلّم بإعتبار ما يعهد في التخاطب العربيّ ، كأنّ عربيّاً يحدّث آخر ويقول له : إنّ هذه القلوب في قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها . ويصحّ فيها التقسيم ، أي إنّ القسوة عمّت قلوبكم فأقلّها قسوة يشبه الحجر الصلد ، ومنها ما هو أشدّ منه قسوة . وأظهر منهما أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة ، أي : بل هي أشدّ قسوة من الحجارة ، إذ لا شعور فيها يأتي بخير ، ولا عاطفة تفيض منها بعبرة ، والحجارة ليست كذلك ؛ لأنّ منها ما يفيض بالخيرات ، ومنها ما يكون موضع ظهور آثار القدرة الإلهية في الجمادات . وصف الحجارة بالثلاث الصفات الآتية ، بعد أن شبّه القلوب بها في الصلابة المطلقة ، وفرّق بين القلوب وبينها بالإضراب والإنتقال إلى أنّ القلوب أشدّ صلابة ، وأراد أن يبيّن بهذه الصفات وجه ضعف الصلابة في الحجارة وشدّتها في القلوب . مكان الكلام يشبه أن يكون عذراً عن الحجارة دون القلوب ، والمراد بالقلوب ما اعتبرت عنواناً له وهو الوجدان والعقل ، وأكثر ما تستعمل في الأوّل لأنّه سائق الإقناع والإذعان ، ويطلق لفظ القلب على النفس الناطقة ؛ لأنّ من شأن القلب أن يتأثّر ممّا يتأثّر منه الوجدان أو العقل أو الروح مطلقاً . وفي الكلام من المبالغة أنّ هذه القلوب فقدت خاصّة التأثر والإنفعال بما يرد عليها من المواعظ والآيات ، التي هي من خواصّ الروح الإنسانيّ حتّى كأنّ أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى درجة الجماد كالحجارة ، بل نزلوا عن دركة الحجارة أيضاً ، وذلك ما أفاده قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 74 ] . التفجّر : تفعّل من الفجر ، وهو الشقّ الواسع يكون للمطاوعة ، كفجّرته فتفجّر ( بالتشديد فيهما ) ويكون لتكرّر الفعل وحصوله مرّة بعد أخرى ، ومثله التشقّق ، إلاّ أنّه أعمّ ، ولِما في التفجّر من معنى السعة عبّر به عن خروج الأنهار من الصخور الكبار ، وهو معهود في الجبال ، وعبّر بالتشقّق لخروج الماء الذي يصدق بالقليل منه . والمعنى : أنّ هذه الحجارة على صلابتها وقسوتها تتأثّر بالماء الرقيق اللطيف ، فيشقّها وينفذ منها بقلّة أو كثرة فيحيي الأرض وينفع النبات والحيوان . وأمّا هذه القلوب فلم تعد تتأثّر بالحكم والنذر ولا بالعظات والعبر ، فالحكم لا تقوى على شقّها والنفوذ منها إلى أعماق الوجدان ، وأنوار الفطرة قد انطفأت فيها فلا يظهر شعاعها على إنسان ، ومن الحجارة ما يشقّه الماء القليل كماء العيون والينابيع الحجريّة ، ومنها ما لا يفجّره إلاّ الماء القويّ الغمر ، الذي يسمّى نهراً { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } وهو ما ينحطّ من أعلى الجبل ومن أثنائه بسبب أثر من آثار القهر الإلهيّ ، كالبراكين والصواعق التي تهبط بها الصخور وتندكّ الجبال . وقد جعل هذا شبهاً للآيات الإلهية التي أظهرها على يد عبده ونبيّه موسى عليه السلام ، فهي حوادث عظيمة في الكون تفزع بها نفوس المؤمنين إلى الله ، وتخشع لأمره ونهيه ، لعظمتها وخفاء سرّ إيجادها ، كما تفزع النفوس من حوادث البراكين والصواعق التي تدكّ الصخور وتدمّر الحصون ، وقد أصبحت تلك القلوب بعد مشاهدة الآيات لا تتأثّر ولا تزداد إيماناً . فملخّص التشبيه : إنّ قلوبكم تشبه الحجارة في القسوة ، بل قد تزيد في القساوة عنها ، فإنّ الحجارة الصمّ تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع ، بعضها بالقويّ منه وبعضها بالضعيف ، ولكنّ قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شأنها التأثير في الوجدان ، والنفوذ إلى الجنان ، والحجارة تتأثّر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل ، ولكنّ قلوبكم لم تتأثّر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها ، فلا أفادت فيها المؤثرات الداخليّة ، ولا المؤثرات الخارجيّة كما أفادت في الأحجار ، فبذلك كانت قلوبكم أشدّ قسوة ، ثمّ هدّدهم بقوله : { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي فهو سيريبكم بضروب النقم ، إذا لم تتربّوا بصنوف النعم .