Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 15-17)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

القراءات : للعرب في مثل همزتي " أؤنبئكم " أي ما كانت أولاهما مفتوحة والثانية مضمومة أربع لغات ، قرئ بها القرآن بإذن الله على لسان رسوله تسهيلاً عليهم هنا . وفي قوله تعالى : " أأنزل " في سورة " ص " وقوله : " أألقي " في سورة القمر وليس في القرآن سواها . إحداها : تحقيق الهمزتين من غير مدّ بينهما وعليه القرّاء الكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر وهشام في رواية عنه في السور الثلاث . الثانية : تحقيق الهمزتين مع المدّ بينهما وهي رواية عن هشام في السور الثلاث . الثالثة : تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع المدّ بينهما - والتسهيل قراءة الهمزة بين نفسها وبين حرف حركتها ، وهو أن تجعل هنا بين الهمزة والواو - ويعبر بعضهم عن المدّ بإدخال ألف بين الهمزتين والمعنى واحد ، وهي قراءة قالون . الرابعة : تحقيق الأولى وتسهيل الثانية من غير مدّ ، وهي قراءة ورش وابن كثير . وهناك قراءة مركّبة من لغتين وهي المدّ وعدمه مع التسهيل ، وهي قراءة أبي عمرو وعن هشام تفريق بين ما هنا وما في " القمر " و " ص " وهو أنّه المدّ هنا مع التحقيق والقصر هناك معه . وفي قوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ } لغتان ضمّ الراء وهي قراءة عاصم فيما عدا قوله تعالى : { مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [ المائدة : 16 ] وكسرها وهي قراءة الباقين في جميع القرآن . قوله تعالى : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } الآية بيان وتفصيل لقوله تعالى : { وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [ آل عمران : 14 ] وبدأه بالاستفهام لأجل توجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه والتنبئة بالشيء : التخبير به كالإنباء بمعنى الإخبار . وقال في الكليّات " النبأ والأنباء لم يردا في القرآن إلاّ لما له وقع وشأن عظيم " وعلى هذا يكون التعبير بمادّة النبأ تشويقاً آخر . وقوله : " لكم " إشارة إلى ما تقدّم ذكره من النساء والبنين وسائر الشهوات المذكورة في الآية السابقة . وكون ما سيأتي في جواب الاستفهام خيراً من تلك الشهوات يشعر بأنّ تلك الشهوات خير في نفسها أو ليست بشرّ . والصواب أنّها خير ومن أجل نعم الله تعالى على الناس وإنّما يعرض الشرّ فيها كما يعرض في سائر نعمه تعالى على الناس في أنفسهم ، كحواسهم وعقولهم وفي غيرها حتّى في الشريعة . فالذي يسرف في حبّ النساء حتّى يعطي امرأة أو ولدها حقّ غيرهما أو يهمل لأجلها تربية ولده من غيرها . أو يترك حقّ الله وطاعته تقرباً إليها أو يعتدي في ذلك بأن يحبّ امرأة غيره ، هو كمن يستعمل عقله في استنباط الحيل لهضم حقوق الناس وإيذائهم ، أو يحتال في نصوص الشريعة ويؤولها حتّى يفوت الغرض من الأحكام وتترك الفرائض وتهدم الأركان فسوء سلوك الناس في الإنتفاع بالنعم لا يدلّ على أنّ النعم شرّ في ذاتها ولا كون حبّها شرّاً مع القصد والوقوف عند حدود الشريعة والفطرة في ذلك . أمّا الجواب عن الاستفهام : فهو قوله : { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } جعل ما أعدّه للمتقين من الجزاء على التقوى نوعين : نوعاً جسمانياً نفسياً وهو الجنّات وما فيها من الخيرات والأزواج المطهّرات ممّا يعهد في نساء الدنيا من الشوائب ، ونوعاً روحانياً عقلياً وهو رضوان الله تعالى . وقد تقدّم تفسير التقوى والجنّات والأزواج المطهّرة في سورة البقرة ولا يخفى ما في إضافة لفظ ربّ إلى ضمير المتّقين من الإشعار بفضلهم وعناية من ربّاهم بعنايته وتوفيقه بشأنهم . وأمّا الرضوان فهو مصدر بمعنى الرضا مع ما في زيادة المبنى من المبالغة في المعنى فكأنّه قال ورضوان عظيم من الله لا يشوبه ولا يعقبه سخط { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [ التوبة : 72 ] وفي هذا من تفضيل الرضوان على نعيم الجنّات وما فيها ما لا غاية وراءه : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ } [ الحديد : 20 ] وهذه الآية أوجز من الآية التي نفسّرها على أنّها في موضوعها ، وفيها من زيادة الفائدة بيان جزاء المسرفين والمعتدين في هذه الشهوات الدنيوية التي تشغلهم عن حقوق الله وتحمّلهم على هضم حقوق خلقه ، وجزاء المقتصدين الذين يتّقون الله في تمتّعهم ولا ينسون الله ولا الدار الآخرة . ولعلّنا إذا أمهل الزمان وبلغنا سورة الحديد نبيّن ما في الآية . وقال الأستاذ الإمام : في تفسير الرضوان في الآية : وأكبر من هذه اللذّات كلّها رضوان الله تعالى ، وهذا يدلّنا على أنّ أهل الجنّة طبقات ومراتب كما نراهم في الدنيا فمن الناس من لا يفهم معنى رضوان الله تعالى ولا يكون باعثاً له على ترك الشرّ ولا على فعل الخير ، وإنّما يفهمون معنى اللذّات الحسيّة التي جرّبوها فكانت أحسن الأشياء موقعاً من نفوسهم ، فهم فيها يرغبون ولأجلها يعملون ، ولكن جميع المتّقين يعرفون في الآخرة هذه اللذّة التي لم يكونوا يعقلون لها معنى في الدنيا . { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } قال الأستاذ الإمام رحمه الله : ختم الآية بهذه الجملة للإشعار بأنّه ليس كلّ من ادّعى التقوى في نفسه أو بلسانه يكون متّقياً . وإنّما المتّقي عند الله هو من يعلم الله منه التقوى ، وفي هذا تنبيه للناس وإيقاظ لمحاسبة نفوسهم على التقوى لئلاّ يغشّهم العجب بأنفسهم فيحسبوها متّقية وما هي بمتّقية . { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا } . قال الأستاذ الإمام : وصف أهل التقوى بشأن من شؤونهم ، وهو أنّهم لتأثّر قلوبهم بالتقوى التي هي ثمرة الإيمان تفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان في مقام الإبتهال والدعاء : وهذا اختيار منه للقول بأنّ الكلام وصف للذين اتّقوا ، ولا يضرّه الفصل بين الصفة والموصوف وإن كان طويلاً لظهور المراد وعدم الإلتباس . ويجوز أن يكون مراده الوصف في المعنى لا في عرف النحاة وهو يصدق على قول بعضهم : إن الكلام مدح أو استئناف بياني ، كأنّه قيل : من أولئك المتّقون الذين لهم هذا الجزاء الحسن ؟ فقيل هم الذين يقولون إلخ . وقالوا في قوله تعالى : { فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } أنّهم رتّبوا طلب المغفرة والوقاية من النار على الإيمان فدلّ ذلك على أنّ الإيمان وحده غير كافٍ في استحقاقهما من غير توقّف على العمل الصالح . وأقول : قد يصحّ هذا إذا أريد مغفرة الشرك السابق على الإيمان وما تبعه من الذنوب والوقاية من الخلود في النار بذلك . فإنّ الإسلام يجب ما قبله كما ورد . ولا يمكن أن يصحّ إذا أريد به أنّ الإنسان قد يكون مؤمناً ولا يعمل صالحاً بل يكون منغمساً في المعاصي والخطايا ثمّ يكون مستحقّاً للمغفرة والوقاية من العذاب . فإنّ العقل والنقل يحيلان هذا الفرض ذلك أنّ المعروف من سنّة الله تعالى في الإنسان أنّ عقائده الراسخة اليقينية لها السلطان الأعلى على أعماله البدنية . وما الإيمان إلاّ الاعتقاد اليقيني الراسخ في العقل المهيمن على القلب . ولا عمل إلاّ عن فكر من العقل أو وجدان من القلب ، فأعمال المؤمن يجب أن تكون تابعة لإيمانه لا تستبدّ دونه ولا تتحوّل عن طاعته إلاّ لنسيان أو جهالة ، كغلبة انفعال يعرض ولا يلبث أن يزول وتقفي التوبة على أثره فتمحوه { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } [ النساء : 17 ] فهذا دليل العقل . وأمّا النقل فالآيات التي يعسر إحصاؤها . ومنها في المغفرة قوله تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [ غافر : 7 ] إلى قوله : { وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ } [ غافر : 9 ] والفرق بين وعده بالمغفرة وبين حكايته دعاء المستغفرين لا يحتاج إلى بيان ، على أنّ الآية التي نفسّرها لا تعارض هذه الآيات وما في معناها بل تؤيّدها لأنّ الدعاء فيها لم يرد به أنّ كلّ متّق ينطق به نطقاً بلسانه وإنّما هو بيان لشأن المتّقين الموصوفين بما يأتي في الآية التالية من أكمل صفات المؤمنين . على أنّه لو لم يكن الكلام في المؤمنين المتّقين ولو لم يوصفوا بعد الدعاء بما يأتي من الصفات بأن قيل : للذين آمنوا عند ربّهم إلى آخر الدعاء فقط . لكان لنا أن نقول : إنّ المراد بالإيمان الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وعمل الصالحات لتتفق الآية مع سائر آيات القرآن الموافقة للعقل والعلم بطبيعة البشر ولإجماع والسلف على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل . ولكن القوم غفلوا عن هذا وحجبوا عنه بالتماس ما يؤيدون به مذاهبهم ويفندون به ما خالفها وقد قررنا هذه الحقيقة في الإيمان والعمل من قبل ولا نزال نبدئ القول فيها ونعيده لعل التكرار في المقامات المختلفة يؤثر في صخرة التقليد الصماء فيفتتها أو ينسفها نسفاً ، فيعود المسلمون إلى إيمان القرآن الذي كان عليه السلف وصفوة علماء الخلف كحجة الإسلام الغزالي في المشرق وشيخ الإسلام ابن تيمية في الوسط والعلامة الشاطبي صاحب الموافقات في المغرب - كل هؤلاء من القرون الوسطى وحسبك بالأستاذ الإمام من المتأخرين . { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } . قال الأستاذ الإمام : وصف الله المتقين بهذه الصفات التي استحقوا بها تلك الدرجات وهو الظاهر على القول بأن قوله " الذين يقولون " وصف للذين اتقوا ، وكذا على القول بأنه منصوب على المدح . أما على القول بأنه استئناف بياني فالمراد بالوصف الوصف بالمعنى " والصابرين " منصوب على المدح ، والمنصوب على المدح أو الاختصاص ليس كلاماً مقطوعاً مفصولاً مما قبله كما يوهمه تقدير الفعل له . وإنما هو أسلوب بليغ في إيراد الصفة معربة بغير إعراب الموصوف ووجه البلاغة فيه من ثلاثة أوجه أحدها لفظي والآخران معنويان : أما اللفظي فهو أن اختلاف الإعراب يحدث في الذهن حركة جديدة فينتبه فضل انتباه إلى الكلام الجديد . وأما المعنويان فأحدهما بيان مزية خاصة في المقام لما به المدح ، كأن يقال هنا في التقدير ، وأمدح من هؤلاء الذين يقولون ربنا إننا آمنا … الصابرين والصادقين إلخ كأنه يشهد لهم بأنهم بهذه الصفات امتازوا على سائر المؤمنين وصاروا أحق بذلك الوعد . وثانيها تقرير أن هذه الصفات ممدوحة في ذاتها . تقدم في تفسير سورة البقرة معنى الصبر وكيفية اكتسابه والاستعانة به . وقال الأستاذ الإمام : هنا مجموع الآيات الواردة في الصبر تدلنا على أن الصبر هو حبس النفس عند كل مكروه ويشق على النفس احتماله . وأكمل أنواعه الصبر على ملازمة الشريعة في المنشط والمكره . فعندما تهب زوابع الشهوات فتزلزل الاعتقاد بقبح المعاصي وسوء عاقبتها يكون الصبر هو الذي يثبت الإيمان ويقف بالنفس عند الحدود المشروعة لذلك قرن الأمر بالتواصي بالحقّ بالأمر بالتواصي بالصبر في سورة العصر ، والحقّ هو المقصود الأول من الدين ، وهو لا يقوم إلاّ بالصبر . وكما يحفظ النفس عند حدود الشرع يحفظ شرف الإنسان في الدنيا عند المكاره ويحفظ حقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع . وكتب في تفسير سورة العصر " الصبر ملكة في النفس يتيسّر معها إحتمال ما يشقّ إحتماله والرضا بما يكره في سبيل الحقّ ، وهو خلق يتعلّق به بل يتوقّف عليه كمال كلّ خلق وما أتى الناس من شيء مثل ما أتوا من فقد الصبر أو ضعفه كلّ أمّة ضعف الصبر في نفوس أفرادها ضعف فيها كلّ شيء وذهبت منها كلّ قوة " : وأتى بأمثلة متعدّدة على ذلك . ويعلم ممّا تقدّم أنّ تقديم ذكر الصابرين على ما بعده لأنه كالشرط إذ لا يتمّ بدونه الصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار في الأسحار ، وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام . قال الأستاذ الإمام : والصدق يكون في القول والعمل والوصف يقال فلان صادق في عمله صادق في جهاده وصادق في حبّه كما يقال صادق في قوله أقول : ويدخل في ذلك الإيمان والنيّة . والصدق منتهى الكمال في كلّ شيء ، وحسبك في بيان فضل الصدق وجزائه قوله عزّ وجلّ : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ * لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الزمر : 33 - 35 ] فقد جعل الصدق ملاك الدين كلّه وجامع حقيقته ، وجعل أسوأ الذنوب معه مستحقاً لأن يكفّر ويغفر وأي ذنب يدنّس نفس الصادق في إيمانه وأخلاقه وأقواله وأفعاله فيمنعها استحقاق المغفرة ؟ أليس أسوأ ما يمكن أن يلمّ به الصادق من الذنب بادرة غضب لا تلبث أن تفيء . أو نزوة شهوة لا تمكث أن تسكن ، فيكون مسّ طائف الشيطان ضعيفاً قصير الأمد لا يقوى على إضعاف فضيلة تلك النفس القويّة بالصدق ولا على إطفاء نورها . وقد فسّروا القانتين بالمطيعين وبالمداومين على الطاعة والعبادة وتقدّم في سورة البقرة أنّ القنوت هو المداومة على الخشوع والضراعة ، أي على روح العبادة ولبابها على صورها ورسومها فقط والمنفقون معروفون ولم يعيّن النفقة ولا المنفق عليه فعلم أنّ المراد بهم المنفقون للمال في جميع الطرق المشروعة من واجبة ومستحبّة ولا يمنعون حقّاً ولا يقبضون أيديهم عن شيء من أعمال البرّ . وفسّر مجاهد وغيره المستغفرين هنا بالمصلّين لأنّ أهل التهجّد في آخر الليل يطلبون بتهجّدهم مغفرة الله ورضوانه فهؤلاء المفسّرون يرون إنّ الاستغفار هو طلب المغفرة بالفعل لا بمجرد حركة اللسان . ومن يقول إنّه الطلب باللسان فإنه يجعل من شروطه حضور القلب ولا يقول أحد يعتدّ بقوله إنّ استغفار اللسان وحده نافع بل قالوا إنّ المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربّه . وفي مثل هذا الاستغفار ، الذي يغترّ به الجهلة الأغرار ، قالت رابعة العدوية : استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير . وروي تفسير الاستغفار هنا بالصلاة في وقت السحر وبصلاة الصبح أي لأوّل وقتها وقيّده زيد بن أسلم بصلاة الجماعة ، وحكمة تخصيص وقت السحر : إنّ العبادة تكون حينئذ أشقّ على أهل البداية لأنّه الوقت الذي يطيب فيه النوم ويعزب الرياء ، وأروح لأهل النهاية لأنّ النفس تكون أصفى والقلب أفرغ من الشواغل . ومن مباحث اللفظ النكتة في نسق هذه الأوصاف بالعطف مع إنّ الأوصاف المعدودة تسرد غير معطوفة . ذكر الأستاذ الإمام عن الزمخشري أنّ العطف يفيد كمال الموصوفين بهذه الأوصاف . وقال غيره من المفسّرين إنّنا لا نعهد من معاني الواو الكمال في معطوفاتها ، ومن عنده ذوق في اللسان يجد في نفسه فرقاً بين المعطوف وغيره وذكر أمثلة منها قول الشاعر : @ ولو كان رمحاً واحداً لاتّقيته ولكنّه رمح وثان وثالث @@ وذكر الفرق بينه وبين ثلاثة رماح أو رمح إثنان ثلاثة وقال إنّ بيان الفرق ربّما لا تفي به العبارة إلاّ مع الاستعانة بالسليقة ويمكن تقريب ذلك بأن يقال إنّ الأوصاف المسرودة بغير عطف كالوصف الواحد وأمّا عطفها فيفيد أنّ كلّ واحد منها وصف مستقل . أقول : وعبارة البيضاوي " وتوسيط الواو بينها للدلالة على استقلال كلّ واحدة منها وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها " وهي مبهمة وإيضاح الاستقلال ما قرأت آنفاً . وأمّا تغاير الموصوفين بها فمعناه هنا إنّ الذين اتّقوا أصناف فمنهم الصابرون ومنهم الصادقون إلخ . والمراد الممتازون بالكمال في الصبر والصدق إلخ ، وذلك لا يقتضي أن يكون كلّ صنف عارياً من صفات الآخر . وهذا ما ذهب إليه الرازي إذ قال : " وأظن والعلم عند الله أنّ من كانت معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل " وعبارته لا تفيد اعتبار كمال كلّ صنف في وصفه وهو ما لا بدّ منه . والتحقيق أنّ الألفاظ المفردة يمتنع عطفها في مقام سردها مطلقاً لأنّها عند ذلك تكون بمثابة الإعداد التي تسرد : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة : إلخ . ولكنّها إذا لم يرد سردها كأن ذكرت للحكم على مدلولاتها ابتداء فلا بدّ أن تجمع بالعطف . مثال الأول : قوله تعالى : { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ } [ التوبة : 112 ] الآية وقوله تعالى : { أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } [ التحريم : 5 ] إلخ فإنّ هذه أوصاف سردت للتعريف بها بعد الحكم على الموصوف . ومثال الثاني : الآية التي نفسّرها والحكم فيها على الموصوفين ابتداء ويتعيّن إذن أن تكون منصوبة على الاختصاص ، ومثلها { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] إلخ . فإنّ المراد الحكم على مدلولات هذه الألفاظ ابتداءً . ومن الفرق بين هذا القول وما قبله : أنّه يمتنع على هذا أن تكون هذه الألفاظ نعوتاً ( نحوية ) للذين اتّقوا .