Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 18-20)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ نافع والبصري ( اتّبعني ) بالياء في الوصل خاصّة والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً . بعد ما بيّن تعالى جزاء المتّقين وبيّن حالهم في إيمانهم ومدح أصنافهم الكاملين في أوصافهم بيّن أصل الإيمان وأساسه فقال : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } صرّح كثير من المفسّرين بأنّ شهادة الله هنا من باب الاستعارة ، لأنّ ما نصبه من الدلائل في الآفاق وفي الأنفس على توحيده وما أوحاه إلى أنبيائه في ذلك يشبه شهادة الشاهد بالشيء في إظهاره وإثباته . وكذلك شهادة الملائكة عبارة عن إقرارهم بذلك كما قال البيضاوي . زاد أبو السعود وإيمانهم به وجعلها من باب عموم المجاز وشهادة أولي العلم عبارة عن إيمانهم به وإحتجاجهم عليه . وقال بعضهم : إنّ الشهادة من كلّ بمعنى واحد لأنّها إمّا عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم وإمّا عبارة عن الإظهار والبيان ، وكلّ ذلك حاصل من الله والملائكة وأولي العلم - فالله تعالى أخبر بتوحيده ملائكته ورسله عن علم وبيّنه لهم أتمّ البيان والملائكة أخبروا الرسل وبيّنوا لهم ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه عالمين به ولا يزالون كذلك . وأقول : إنّ ما قاله الأوّلون ضعيف وأقرب التفسيرين للشهادة في القول الآخر أوّلهما . يقال : شهد الشيء إذا حضره وشاهده كقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ } [ البقرة : 185 ] وقوله : { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } [ النمل : 49 ] ويقال شهد به إذا أخبر به عن مشاهدة بالبصر ، وهو الأكثر والأصل أو عن مشاهدة بالبصيرة وهي الاعتقاد والعلم ، كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [ يوسف : 81 ] وذلك أنّهم أخبروا أباهم يعقوب بأنّ ابنه ( شقيق يوسف ) سرق عن اعتقاد لا عن مشاهدة بالبصر . وإنّما سمّوا اعتقادهم علمّا لأنّه لم يخطر في بالهم ما يعارض ما رأوه من إخراج صواع الملك من رحل شقيق يوسف بعد ما نودي فيهم بأنّ الصواع قد سرق . والحاصل أنّ الشهادة بالشيء هي الإخبار به عن علم بالمشاهدة الحسيّة أو المعنوية وهي الحجّة والدليل وهو المختار هنا . ولكن يرد عليه هنا أنّه إثبات للتوحيد بالنقل وهو فرع عنه . لأنّه إذا لم يثبت توحيد الله لا يثبت الوحي . ويجاب عنه بأنّ شهادة الله في كتابه مؤيّدة بالبراهين التي قرنها بها وبالآيات على صدق الرسل ، وشهادة الملائكة للأنبياء مقرونة بعلم ضروري هو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات البديهية . وبتلك الدلائل التي أمروا بأن يحتجّوا بها على الناس ، وشهادة أولي العلم تقرن عادةً بالدلائل والحجج لأنّ العالم بالشيء لا تعوزه الحجّة عليه . على أنّ الكلام في وحدانية الألوهية والمشرك بها لا يكون معطلاً حتّى يقال لا بدّ من إقناعه بوجود الله قبل إقناعه بشهادته ، بل يكون مقرّاً بوجود الله ، وإنّما شركه باتّخاذ الوسطاء يكونون بزعمه وسائل بينه وبين الله يقرّبونه إليه زلفى وبالشفعاء يكونون في وهمه سبباً لقضاء حاجاته وتكفير سيّئاته ، كما كانت تدين العرب في الجاهلية . وقد اختلفوا في أولي العلم . فقيل هم الصحابة وقيل علماء أهل الكتاب وذهب الزمخشري إلى أنّهم المعتزلة ، والرازي إلى أنّهم علماء الأصول . وهذا من عجيب الخلاف ، فإنّ أولي العلم لا يحتاجون إلى تعريف ولا تفسير ، فهم أصحاب العلم البرهاني القادرون على الإقناع وهم معروفون في هذه الأمّة وفي الأمم السابقة . أمّا قوله تعالى : { قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } فمعناه أنّه تعالى شهد هذه الشهادة قائماً بالقسط وهو العدل في الدين والشريعة ، وفي الكون والطبيعة ، فمن الأول تقرير العدل في الاعتقاد كالتوحيد الذي هو وسط بين التعطيل والشرك . ومن الثاني جعل سنن الخليقة في الأكوان والإنسان الدالّة على حقيّة الاعتقاد قائمة على أساس العدل فمن نظر في هذه السنن ونظامها الدقيق يتجلّى له عدل الله العام ، فالقيام بالقسط على هذا من قبيل التنبيه إلى البرهان على صدق شهادته تعالى في الأنفس والآفاق لأنّ وحدة النظام في هذا العدل تدلّ على وحدة واضعه . وهذا ممّا يفنّد تفسير بعضهم للشهادة بأنّها عبارة عن خلق ما يدلّ على الوحدانية من الآيات الكونية والنفسية . كذلك كانت أحكامه تعالى في العبادات والآداب والأعمال مبنية على أساس العدل بين القوى الروحية والبدنية وبين الناس بعضهم مع بعض . فقد أمر بذكره وشكره في الصلاة وغير الصلاة لترقية الروح وتزكيته ، وأباح الطيّبات والزينة لحفظ البدن وتربيته ، ونهى عن الغلو في الدين والإسراف في الدنيا وذلك عين العدل ، فهذا هو القسط في العبادات والأعمال الدنيوية . وأمّا القسط في الآداب والأخلاق فهو صريح في القرآن كصراحة الأمر بالعدل في الأحكام قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وقال : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [ النساء : 58 ] . وإذ قد تجلّى لك صدق الشهادة فعليك أن تقرّ بها قائلاً : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تفرّد بالألوهية وكمال العزّة والحكمة . فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ولا يخرج شيء منها عن مقتضى الحكمة البالغة . { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } قرأ الجمهور " إن " بالكسر على أنّ الجملة مستأنفة وقرأها الكسائي بالفتح على أنّها تعليل للشهادة بالتوحيد ، أي شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو ، لأنّ الدين عند الله هو الإسلام له وحده ، أو عطف على " أنّه " أو بدل منه . أقول : الدين في اللغة الجزاء ، والطاعة والخضوع أي سبب الجزاء . ويطلق على مجموع التكاليف التي يدين بها العباد لله فيكون بمعنى الملّة والشرع . وقالوا إنّ ما يكلّف الله به العباد يسمّى شرعاً باعتبار وضعه وبيانه ويسمّى ديناً باعتبار الخضوع وطاعة الشارع به . ويسمّى ملّة باعتبار جملة التكاليف . والإسلام مصدر أسلم وهو بيان يأتي بمعنى خضع واستسلم وبمعنى أدّى ، يقال أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه . وبمعنى دخل في السلم وهو بالفتح والكسر بمعنى الصلح والسلامة وبالتحريك الخالص من الشيء ومنه قوله تعالى : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } [ الزمر : 29 ] أي خالصاً له لا يشاركه فيه من يشاكسه . وتسمية دين الحقّ إسلاماً يناسب كلّ معنى من معاني الكلمة في اللغة وأظهرها آخرها في الذكر لا سيّما في هذا المقام ، ويؤيّده الآية الآتية وقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً } [ النساء : 125 ] وقد وصف إبراهيم بالإسلام في عدّة سور ووصف غيره من النبيين بذلك . يعلم بذلك إنّ الحصر في قوله : { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } يتناول جميع الملل التي جاء بها الأنبياء لأنّه هو روحها الكلّي الذي اتّفقت فيه على اختلاف بعض التكاليف وصور الأعمال فيها وبه كانوا يوصون راجع تفسير [ البقرة : 128 و131 و 133 ] والأستاذ الإمام لم يقل هنا إلاّ بعض ما قاله هناك وبذلك كلّه تعلم إنّ المسلم الحقيقي في حكم القرآن من كان خالصاً من شوائب الشرك بالرحمن ، مخلصاً في أعماله مع الإيمان ، من أي ملّة كان ، وفي أي زمان وجد ومكان ، وهذا هو المراد بقوله عزّ وجلّ : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] الآية وستأتي . ذلك إنّ الله تعالى شرّع الدين لأمرين أصليين : أحدهما : تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات ، وقدرتها على التصرّف في الكائنات ، لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها ، أو لما هو دونها في استعدادها وكمالها . وثانيهما : إصلاح القلوب بحسن القصد في جميع الأعمال ، وإخلاص النيّة لله وللناس ، فمتى حصل هذان الأمران إنطلقت الفطرة من قيودها العائقة لها عن بلوغ كمالها في أفرادها وجمعياتها . وهذان الأمران هما روح المراد من كلمة الإسلام . وأمّا أعمال العبادات فإنّما شرّعت لتربية هذا الروح الأمري في الروح الخلقي . ولذلك شرط فيها النيّة والإخلاص ومتى تربّى سهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الأدبية والمدنية التي يصل بها إلى المدينة الفاضلة وتحقيق أمنية الحكماء . آه ما أشدّ غفلة الناس عن حقيقة الإسلام ! أي سعادة للناس تعلو عرفان كلّ فرد من أفرادهم أنّه أوتي من الاستعداد ما أوتيه من يوصفون بالولاية والقداسة ، ويدلّون بالزعامة والرياسة ، فمنهم من يستعبد بها الناس استعباداً روحانياً ، ومنهم من يستعبدهم بها استعباداً سياسياً ، وإخلاص كلّ فرد من أفرادهم في عمله الديني لله وعمله الدنيوي للناس ؟ هذه السعادة هي روح الإسلام وحقيقته حجبتها عن بعضهم الرسوم العملية ، والتقاليد المذهبية ، وعن آخرين النزعات النظرية ، والتقاليد الوضعية ، فالأوّلون يرمون بالكفر أو البدعة كلّ من خالف مذاهبهم ، والآخرون ينبذون بالغباوة والتعصّب كلّ من لم يستعذب مشربهم ، فمتى يكثر المسلمون الخالصون المخلصون للأوّلين والآخرين ، فيكونوا حجّة الله عليهم وعلى جميع العالمين ؛ وآية الوحدة الفاضحة للمختلفين ، ؟ ؟ { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } قيل إنّ المراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصّة وقيل النصارى خاصّة . ويدعم هذا القول : أنّ الآيات نزلت في نصارى نجران كما تقّدم . والصواب : أنّها عامّة لا تخصّ فريقاً دون آخر . والجملة بيان لسبب خروج أهل الكتاب عن الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على ما تقدّم في الجملة الأولى ، فصاروا مذاهب وشيعاً يقتتلون في الدين والدين واحد لا تفرّق فيه ولا مثار للاختلاف بله الاقتتال . وهذا السبب هو البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء كما فصّله الأستاذ الإمام تفصيلاّ في تفسير : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً } [ البقرة : 213 ] فليراجعه من لم يقرأه ومن كان على علم بالتاريخ وخاصة نشأة المذاهب في كلّ أمّة ، وفشو البدع في كلّ ملّة ، فهو الذي يفهم . كنه المراد من هذه الآية فلولا بغي رؤساء الدين والدنيا ونصر مذهب على مذهب لما تعصّب لكلّ مذهب يشتقّ من الدين شيعة تنصره وتؤيّده في كلّ مسألة وتقاوم كلّ من يقاومه وتضلّلهم متوكئة على علم الدين ومستندة إلى نصوصه بتفسير بعضها بالرأي والهوى وتأويل بعضها وتحريفه أو يوافق المذهب المنتحل . ويجب على المسلم أن لا ينظم الآية في سمط أخبار التاريخ ولا في سلك علم الملل والنحل ، أو علم المناظرة والجدل ، بل يتلوها متذكراً أنّها ما أنزلت إلاّ هداية وعبرة لمن يؤمن بالقرآن ليتّقوا الخلاف في الدين والتفرّق فيه إلى شيع ومذاهب اتباعاً لسنن من قبلهم . نحن المسلمون نعتقد أنّ دين المسيح عليه السلام هو الإسلام الذي بيّنا معناه آنفاً وأنّ أساسه التوحيد والتنزيه وأنّ الرؤساء الروحيين وغير الروحيين ، لا سيّما الملوك والأحبار الرومانيين ، هم الذين بتفرّقهم جعلوا ذلك الدين الإلهي الواحد مذاهب ينقض بعضها بعضاً ، وأهله شيعاً يفتك بعضهم ببعض ، وإنّه لولا بغيهم لما تمزّق شمل آريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد والتنزيه ، بعد فشو الشرك والتشبيه ، إذ حكم المجمع الذي ألفّه الملك قسطنطين سنة 325 م بمقاومة آريوس وإحراق كتبه وتحريم اقتنائها ولمّا انتشر تعليمه من بعده قضى تيودوسيوس الثاني باستئصال مذهبه وإبادة الآريوسية بقانون روماني صدر في سنة 628م وبقيت مذاهب التثليث يكافح بعضها بعضاً . نعيب ذلك عليهم ولكن يجب علينا أن لا ننسى أنفسنا ولا يغيب عنّا ما أُصبنا به من الخلاف والتفرّق عسى أن يسعى أهل الإيمان الصادق والغيرة في نبذ الاختلاف والشقاق ، والعود إلى الوحدة ، والإتّفاق ، كما كنّا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه الراشدين عليهم الرضوان . { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدة الدين ووجوب الاعتصام به وحرمة الاختلاف والتفرّق فيه وهي المراد بالعلم في قوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } { فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } يحاسب من كفر فيجازيه بما يستحقّ . وقد تقدّم تفسير سريع الحساب في سورة البقرة [ آية : 202 ] فليراجع . أمّا هذا الكفر فهو عبارة عن ترك الإذعان لهذه الآيات والإمتثال لها ومن لوازمه تأويلها بما يصرفها عن معناها لتوافق مذاهب أهل التأويل . كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم وما اعتادوه من التحريف والتأويل ، وإلى الرجوع إلى حقيقته وهي إسلام الوجه لله والإخلاص له في كلّ عمل كما نطقت هذه الآيات التي ورد أنّها نزلت عند مجيء وفد نصارى نجران . فقوله تعالى : { فَإنْ حَآجُّوكَ } يعني به أهل الكتاب أو عام أي فإن جادلوك بعد أن جئتهم بالحقّ اليقين ، وأقمت عليه البيّنات والبراهين ، ودمغت الباطل ، بالآيات والدلائل ، { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } أي أقبلت عليه بعبادتي مخلصاً له معرضاً عمّا سواه أنا ومن اتّبعني من المؤمنين . قال الأستاذ الإمام : كأنّه يقول إنّ من يقصد إلى الحجاج بعد تأييد الحقّ وتفنيد الباطل لا يقصد إلاّ إلى المجادلة والمشاغبة لمحض العناد والمشاكسة وذلك شأن المبطلين وأمّا طالب الحقّ فإنّه يبخل بالوقت أن يضيع سدى { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ } أي لليهود والنصارى ومشركي العرب وكانوا ينسبون إلى الأمّ لجهلهم كما تقدّم في تفسير سورة البقرة وخصّ هؤلاء بالذكر - والبعثة عامّة - لأنّهم هم الذين خاطبهم الرسول بالدعوة بلا واسطة { أَأَسْلَمْتُمْ } كما أسلمت لما وضحّت لكم الحجّة أم لا قال البيضاوي ونظيره قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] وفيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة . اهـ . وقال الأستاذ الإمام : الاستفهام للتقريع والمراد بالإسلام روح الدين الذي نزل به الكتاب ومقصده ، يعني أنّه ليس لهم إلاّ الرسوم منه { فَإِنْ أَسْلَمُواْ } هذا الإسلام { فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } . قال الأستاذ الإمام : لأنّ هذا هو روح الدين فمن أصابه فهو على هداية من هذا الوجه فإن غشيه مع ذلك شيء من الباطل الصوري فهو لا يلبث أن يزول متى ظهر له الدليل على بطلانه ولذلك كان إسلامهم هذا لا بدّ أن يستتبع اتّباعك فيما جئت به ، لأنّ من كان كذلك فهو نيّر القلوب متوجّه دائماً إلى طلب الحقّ ، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى جاءه وظهر له { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } معرضين عن الاعتراف بما سألت عنه ، لعلمهم أنّهم ليسوا على شيء منه ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ } لحقيقة الإسلام ، وما أمرت به من الأحكام ، { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } فهو أعلم بمن طمس قلبه فارتكس في شقائه ، ووقع اليأس من إهتدائه ، ومن يرجى له بتوفيق الله من بعد ما لا يرجى له اليوم . أقول : ومثل هذه الآية نصّ قاطع في حصر وظيفة الرسول بالبلاغ عن الله وأنّه ليس مسيطراً على الناس . ولا جبّاراً ولا مكرهاً لهم على الإسلام وقد صرّحت آيات أخرى بمفهوم الحصر في التبليغ يعرف مواقعها حفاظ القرآن والمكثرون من تلاوته .