Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 26-27)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

روي عن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربّه أن يجعل ملك فارس والروم في أمّته فنزل قوله تعالى : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } وقال الأستاذ الإمام ما معناها : إنّ الكلام متصل بما قبله صحّ ما قيل في سبب النزول أم لم يصحّ . والكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع من خوطبوا بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب ، فالمشركون كانوا ينكرون النبوّة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، كما أنكر أمثالهم على الأنبياء قبله . وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل وقد عهد في غير موضع من القرآن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في مقام بيان عناد المنكرين ومكابرة الجاحدين وتذكيره بقدرته تعالى على نصره وإعلاء كلمة دينه ، فهذه الآية من هذا القبيل . كأنّه يقول له : إذا تولّى هؤلاء الجاحدون عن بيانك ، ولم ينظروا في برهانك . وظلّ المشركون منهم على جهلهم ، وأهل الكتاب في غرورهم ، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء ، وتتذكّر أنّه بيده الأمر يفعل ما يشاء ، وهذا يناسب ما تقدّم في الردّ على نصارى نجران من أمره بالإلتجاء إليه سبحانه بقوله : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } [ آل عمران : 20 ] . قال : وعلى هذا التفسير يصحّ أن يكون الملك بمعنى النبوّة أو لازمها ولا شكّ أنّ النبوّة ملك كبير لأنّ سلطانها على الأجساد والأرواح ، على الظاهر والباطن ، قال تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] فإن لم يكن هذا الملك عين النبوّة فهو لازمها ونزع الملك على هذا القول عبارة عن نزعه من الأمّة التي كان يبعث فيها الأنبياء ، كأمّة إسرائيل فقد نزعت منها النبوّة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويمكن أن يفسّر النزع هنا بالحرمان فإنّه تعالى يعطي النبوّة من يشاء ويحرم منها من يشاء . فإن قيل إنّ النزع إنّما يكون لشيء قد وجد صحّ أن يجاب عنه بأنّ هذا على حدّ قوله تعالى حكاية عن لسان الرسل { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } [ الأعراف : 89 ] فإنّهم لم يكونوا في ملّتهم ، إذ يستحيل الكفر على الأنبياء . هذا سياقه وقد تبع فيه الإمام الرازي إلاّ أنّه زاد عليه كلمة " أو لازمها " والتمثيل غير ظاهر على المعنى الثاني والآية حكاية عن شعيب عليه السلام وهي جواب عن قول قومه : { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] فهم قد طلبوا منه وممّن آمن معه أن يعودوا في ملّتهم وكان أولئك المؤمنون في ملّتهم ، ففي جوابه عليه السلام تغليب للأكثر وهو متعيّن . ومثل الرازي أيضاً بقوله تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] وفيه ما فيه . أقول : والظاهر المتبادر أنّ المراد بالملك السلطة والتصرف في الأمور والله سبحانه وتعالى صاحب السلطان الأعلى والتصرف المطلق في تدبير الأمر وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات فهو يؤتي الملك في بعض البلاد من يشاء من عباده إمّا بالتبع لما يختصّهم به من النبوّة كما وقع لآل إبراهيم ، وإمّا بسيرهم على سننه الحكيمة الموصلة إلى ذلك بأسبابه الإجتماعية كتكوين العصبيات كما وقع لكثير من الناس ، وينزعه ممّن يشاء من الأفراد ومن الأسر والعشائر والفصائل والشعوب بتنكّبهم سننه الحافظة للملك ، كالعدل وحسن السياسة وإعداد المستطاع من القوّة كما نزعه من بني إسرائيل ومن غيرهم بالظلم والفساد . ذلك أنّنا لا نعرف ما قضت به مشيئته عزّ وجلّ إلاّ من الواقع لأنّه لا يقع في الوجود إلاّ ما يشاء . وقد نظرنا فيما وقع للغابرين والحاضرين ومحصنا أسبابه فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة كما قال في هذه السورة { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ } [ آل عمران : 137 ] الآية وبيّن بعض هذه السنن في نزع الملك ممّن يشاء وإيتائه من يشاء بمثل قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ } [ إبراهيم : 13 - 14 ] وقد فصّلنا هذا المعنى في سورة البقرة أفضل تفصيل فليراجع الآية ( 247 ) من شاء . وبهذا يظهر وجه اتّصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } [ آل عمران : 12 ] فهي تتضمّن تأكيد الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين . وقد قال أبو سفيان للعبّاس يوم رأى جيش المسلمين زاحفاً إلى مكّة : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً : فقال العبّاس رضي الله عنه : كلاّ إنها النبوّة . وكان أبو سفيان يعني أنّ الأمر كلّه تأسيس ملك وما كان الملك مقصوداً ، ولكنّه جاء معناه والمراد منه تابعاً لا أصلاً والفرق عظيم ، والغرض من النبوة غير الغرض من الملك ، ولذلك لم يسمّ الصحابة من جعلوه رئيس ملكهم ومرجع سياستهم ملكاً ، بل سمّوه خليفة . { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } العزّ والذلّ معروفان ومن آثار الأول حماية الحقيقة ونفاذ الكلمة ، ومن أسبابه كثرة الأعوان وملك القلوب بالجاه والعلم النافع للناس وسعة الرزق مع التوفيق للإحسان ، ومن آثار الثاني الضعف عن الحماية ، والرضى بالضيم والمهانة ، كذا قال الأستاذ الإمام . وقد يكون الضعف سبباً وعلّة للذلّ لا أثراً معلولاً وهو الغالب ، ولا تلازم بين العزّ والملك ، فقد يكون الملك ذليلاّ إذا ضعف استقلاله بسوء السياسة وفساد التدبير حتّى صارت الدول الأخرى تفتات عليه كما هو مشاهد . وكم من ذليل في مظهر عزيز ، وكم من أمير أو ملك يغرّ الأغرار ما يرونه فيه من الأبّهة والفخفخة فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين فمثله كمثل ملوك ملاهي التمثيل ( التياترات ) والتشبيه للأستاذ الإمام . هذا ولا عزّ أعلى من عزّ الإجتماع والتعاون على نشر دعوة الحقّ ومقاومة الباطل إذا اتّبع المجتمعون سنّة الله تعالى فأعدّوا لكلّ أمر عدّته . وقد كان المشركون في مكّة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يعتزّون بكثرتهم على النبي والمؤمنين { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8 ] فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان بهذا ويفقهوا معنى كون العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] . { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } قال الأستاذ الإمام قدر المفسّر ( الجلال ) هنا كلمة " والشرّ " هرباً من المعتزلة على أنّه ليس في العبارة نفي لكون الشرّ بيده كما أنه ليس فيها إثبات له فلا معنى لتصادم المذاهب فيها وحسبنا قوله : { إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي إثبات أنّ كلّ شيء بيده لا يعجزه شيء والبلاغة قاضية بذكر الخير فقط سواء كان السبب في نزول الآية خاصّاً ، وهو ما كان في واقعة الخندق من بشارته صلى الله عليه وسلم أنّ ملك أُمّته سيبلغ كذا وكذا أو عاماً وهو حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المنكرين فإنّه ما أغرى أولئك المجاحدين بإنكار النبوّة والاستهانة بدعوة الحقّ إلاّ فقر الداعي وضعف من اتّبعه من المسلمين وقلّتهم ، فأمره الله تعالى أن يلجأ هو ومن اتّبعه إلى مالك الملك والمتصرّف المطلق التصرّف في الإعزاز والإذلال وذكرهم في هذا المقام بأنّ الخير كلّه بيده فلا يعجزه أن يؤتي نبيّه والمؤمنين من السيادة والسلطان ما وعدهم وأن يعزّهم ويعطيهم من الخير ما لا يخطر ببال الذين يستضعفونهم { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } [ القصص : 5 ] على هذا الأصل أمر الله نبيّه بأن يدعوه - والمؤمنون تبع له بهذه الكلمات ويلجؤا إليه بهذه الرغبة فكان المناسب ذكر الخير الذي وعدوا به فقط وأنه بيده وحده . وأقول : إنّه لا يسند إلى يده تعالى أو يديه إلاّ النعم الجليلة والمخلوقات الشريفة فلا يقال : إن الشرّ بيد الله تعالى ، على أنّ جميع ما خلقه الله تعالى ودبّره هو خير في نفسه والشرّ أمر عارض من الأمور الإضافية . فلا توجد حقيقة هي شرّ في ذاتها وإنّما يطلق لفظ الشرّ على ما يأتي غير ملائم للأحياء ذات الإدراك ، ولا منطبق على مصالحهم ومنافعهم . وسبب ذلك في الغالب سوء عملهم الاختياري ، ومن غير الغالب أن تقوّض الريح لهم بناءً أو يجرف السيل لهم رزقاً وكل من الريح والسيل من أعظم الخيرات في ذاتهما . ومن الخير والنعم ما قدّرته السنن الإلهية وأخبر به الوحي من ترتيب العقاب على العمل السيء . فإنّ ذلك أعظم مربّ للناس وعون لهم على الإرتقاء في الدنيا والسعادة في الآخرة . ومن تدبّر سورة الرحمن فقه ما نقول . وللإمام ابن القيمّ كلام في هذه المسألة لا بأس بإيراده هنا . قال في كتاب " شرح منازل السائرين " ، ونقله السفاريني في شرح عقيدته ما نصّه : " إنّ الشرّ كلّه يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه وهو من هذه الجهة شرّ وأمّا من جهة وجوده المحض فلا شرّ فيه مثاله إنّ النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة وإنّما حصل لها الشرّ بقطع مادّة الخير عنها فإنّها خلقت في الأصل متحرّكة لا تسكن ، فإن أُعينت بالعلم وإلهام الخير تحرّكت بطبعها إلى خلافه ، وحركتها من حيث هي حركة خير ، وإنّما تكون شرّاً بالإضافة لا من حيث هي حركة ، والشرّ كلّه ظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فلو وضع في موضعه لم يكن شرّاً . فعلم أنّ جهة الشرّ فيه نسبة إضافية ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها وإن كانت شرّاً بالنسبة إلى المحلّ الذي حلّت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضدّه من اللذّة مستعدّة له فصار ذلك الألم شرّاً بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه فإنّه سبحانه لا يخلق شرّاً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإنّ حكمته تأبى ذلك بل قد يكون ذلك المخلوق شرّاً ومفسدة ببعض الاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده ، بل الواقع منحصر في ذلك فلا يمكن في جناب الحقّ جلّ جلاله أن يريد شيئاً يكون فساداً من كلّ وجه وبكلّ اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما . هذا من أبين المحال ، فإنّه سبحانه بيده الخير والشرّ ليس إليه ، بل كلّ ما إليه فخير ، والشرّ إنّما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، فلو كان إليه لم يكن شرّاً فتأمّله . فإنقطاع نسبته إليه هو الذي صيّره شرّاً . فإن قلت : لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة . قلت هو من الجهة ليس بشرّ والشرّ الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه والعدم ليس بشيء حتّى ينسب إلى من بيده الخير . فإن أردت مزيد إيضاح في ذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والإمداد . فهذه هي الخيرات وأسبابها ، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى الله ، وإعداده خير وهو إليه أيضاً . فإذا لم يحدث فيه إعداداً ولا إمداداً حصل فيه الشرّ بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل ، وإنّما إليه ضدّه فإن قلت فهلاً أمدّه إذ أوجده ؟ قلت : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه سبحانه يوجده ويمدّه وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمدّه بحكمته . فإيجاده خير والشرّ وقع من عدم إمداده . فإن قلت : فهلاّ أمدّ الموجودات كلّها ؟ فالجواب : هذا سؤال فاسد يظنّ مورده أن تساوي الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل ، بل الحكمة كلّ الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها . وليس في خلق كلّ نوع منها تفاوت فكلّ نوع منها ليس في خلقه من تفاوت . والتفاوت إنّما وقع بأمور عدمية لم يتعلّق بها الخلق وإلاّ فليس في الخلق من تفاوت ( قال رحمه الله تعالى ) : فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حقّ الفهم فراجع قول القائل : @ إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع @@ { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } أي تدخل طائفة من الليل في النهار ، فيقصر الليل من حيث يطول النهار ، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك . أي إنّك بحكمتك في تدبير الأرض وتكويرها وجعل الشمس بحسبان تزيد في أحد الجديدين ما يكون سبباً لنقص الآخر فلا ينكر على قدرتك وحكمتك أن تؤتي النبوة والملك من تشاء كمحمّد وأمّته وتنزعهما ممّن تشاء كبني إسرائيل . فإنّك تتصرّف في شؤون الناس كما تتصرّف في الليل والنهار { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } كالعالم من الجاهل والصالح من الطالح والمؤمن من الكافر { وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } كالكافر من المؤمن ، والجاهل من العالم ، والشرير من الخير ، وقد مثّل المفسّرون للحياة الحسيّة بخروج النخلة من النواة والعكس ، وخروج الإنسان من النطفة ، والطائر ونحوه من البيضة وبالعكس . والتمثيل صحيح وإن أثبت علماء هذا الشأن أنّ في النطفة حياة ، وكذا في البيضة والنواة ؛ لأنّ هذه الحياة إصطلاحية لأهل الفنّ في عرفهم دون العرف العام الذي جاء التنزيل به . ومن الأمثلة الصحيحة في العرفين خروج النبات من التراب . وقد جاء القرآن بتسمية ما يقابل الحي ميّتاً سواء كانت الحياة حسية أو معنوية وسواء كان ما أطلق عليه لفظ الميّت ممّا يعيش ويحيا مثله أم لا وهو استعمال عربي صحيح فصيح . والجملة كسابقتها مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء إلى آخر ما في الآية السابقة وكلّ شيء عنده بمقدار . فقد أخرج من العرب الأميين ، خاتم النبيين والمرسلين ، كما أخرج من سلائل الأنبياء والصدّيقين ، أولئك الأشرار المفسدين ، ذلك أنّ سننه تعالى في الإجتماع قد أعدّت الأمّة العربية لأن يظهر خاتم النبيين منها - أعدتها لذلك بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة واستقلالها حتى صارت هذه الأمة أقوى أمم الأرض استعداداً لقبول الدين الذي هدم بناء التقليد والاستعباد ، واستبدل به بناء الاستدلال والاستقلال ، من حيث كان بنو إسرائيل كغيرهم من الأمم يرسفون في قيود التقليد للأحبار والرهبان ، مرتكسين في أغلال الاستبداد من الملوك والحكّام ، فما أعطى سبحانه ما أعطى ونزع ما نزع إلاّ بإقامة السنن التي هي قوام النظام ومناط الإبداع والأحكام { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يطلب منه ، لأنّ الأمر كلّه بيده ، وليس فوقه أحد يحاسبه ، أو بغير تضييق ولا تقتير ، أو بغير حساب من هذا المرزوق ولا تقدير ، ولكنّه بقدر وحساب ، ممّن وضع السنن والأسباب .