Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 23-25)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كان سابق الكلام في تقرير التوحيد وإقامة الدلائل عليه وعلى الحشر وبيان ثواب العاملين ، وقيام الحجّة على المعاندين ، لأنّ البلاغ قد أوضح المحجّة للناس ، فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولّوا فحسابهم على الله تعالى . ثّم ذكر أشدّ ما كان من أهل الكتاب الذين تولّوا عن الدعوة من قبل إذ كانوا يقتلون الأنبياء والآمرين بالقسط ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يحزنه إعراضهم ، ولذلك التفت إلى خطابه بأعجب شأنهم في الدين لذلك العهد فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمّد ؟ قال على ملّة إبراهيم ودينه ، قالا فإنّ إبراهيم كان يهودياً فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلّما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم " فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ } إلى قوله : { يَفْتَرُونَ } . " ذكر هذا التخريج السيوطي في لباب المنقول وأخرجه أيضاً ابن جرير في تفسيره . فكتاب الله الذي يدعون إليه هو التوراة على هذا الوجه . قال ابن جرير : وقيل بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمّد ، وإنّما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ فأبت . روي ذلك عن قتادة وابن جريج ورجّح الأول ، ومعناه ألم تر يا محمّد إلى هؤلاء الذين تعجب لعدم إيمانهم بك على وضوح ما جئت به كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم . ووقائع الأحوال في عصر التنزيل تتفق مع كلّ من القولين . فقد كانوا يقولون عن حكم التوراة إذا خالف أهواءهم كما يفعل أهل كلّ دين في طور إنحلال الدين وضعفه وكانوا ربّما تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عازمين على قبول حكمه حتّى إذا كان على غير ما أحبّوا خالفوه كما فعلوا يوم زنا بعض أشرافهم وحكموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه لأنّهم إنّما فزعوا إليه ليخفّف عنهم . أمّا قوله : { أُوتُواْ نَصِيباً } فقد علم ما هو تفسيره المختار عندنا فيما تقدّم أوّل السورة من تفسير التوراة والإنجيل وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الآية إنّه مبيّن لقوله تعالى : { أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } وهو بمعنى : { لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] فالنصيب عبارة عن تمسكهم بالألفاظ بتعظيمها وتعظيم ما تكتب فيه مع عدم العناية بالمعاني بفقهها والعمل بها . قال : ولك أن تقول : إنّ ما يحفظونه من الكتاب هو جزء من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم ( أو قال الكتب ) وقد فقدوا سائره وهم مع ذلك لا يقيمونه بحسن الفهم له والتزام العمل به . ولا غرابة في فقد بعض الكتاب فالكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام التي يسمّونها التوراة لا دليل على أنّه هو الذي كتبها ولا هي محفوظة عنه بل قام الدليل عند الباحثين من الأوروبيين على أنّها كتبت بعده بمئات من السنين ( أراه قال خمس مئة سنة ) وكذلك يقال في سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء في المجموع الذي يسمّونه ( الكتاب المقدّس ) أقول ولا تعرف اللغة التي كتبت بها التوراة أوّل مرّة ولا دليل على أنّ موسى عليه السلام كان يعرف اللغة العبرانية وإنّما كانت لغته مصرية فأين هي التوراة التي كتبها بتلك اللغة ومن ترجمها عنها ؟ أمّا قوله تعالى : { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } فالمتراخي فيه وجهان : أحدهما : استبعاد تولّيهم لأنّه خلاف الأصل الذي يكون عليه المؤمن . ثانيها : أنّهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولّى ذلك الفريق بعد تردّد وتروٍّ في القبول وعدمه وكان من مقتضى الإيمان أن لا يتردّد المؤمن في إجابة الدعوة إلى حكم كتابه الذي هو أصل دينه . أورده الأستاذ الإمام وقال : على أنّهم لم يكتفوا بالتردّد حتّى تولّوا بالفعل ولم يكن التولّي عرضاً حدث لهم بعد أن كانوا مقبلين على الكتاب خاضعين لحكمه في كلّ حال وآن ، بل هو وصف لهم لازم بل اللازم لهم ما هو شرّ منه وهو الإعراض عن كتاب الله في عامّة أحوالهم : فجملة " وهم معرضون " ليست مؤكّدة للتولّي كما قيل بل هي مؤسسة لوصف الإعراض الذي هو أبلغ منه . وإنّما قال : " فريق منهم " لأنّ هذا الوصف ليس عاماً لكلّ فرد منهم بل كان منهم أمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون . ومنهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . أقول : وهذا ممّا عهدنا في أسلوب القرآن من تحديد الحقائق والإحتراس في الحكم على الأمم فتارةً يحكم على فريق منهم في مقام بيان شؤونهم وتارةً يحكم على أكثرهم وإذا أطلق الحكم في بعض الآيات يتبعه بالاستثناء - استثناء الأقل كقوله : { تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 246 ] . { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } روى ابن جرير وغيره من المفسّرين أنّ بعض اليهود قالوا ذلك وأنّ هذه الأيّام المعدودات هي أربعون يوماً مدّة عبادتهم العجل . وقال الأستاذ الإمام : إنّه لم يثبت في عدد هذه الأيّام شيء وليس في كتب اليهود التي في أيديهم وعد بالآخرة ولا وعيد ، فكلّ ما وعدت به على العمل بالكتاب هو الخير والخصب والسلطة في الأرض ، وما أوعدت به هو سلب هذه النعم وتسليط الأمم عليهم ، ولكن الإسلام بيّن لنا أنّ كلّ نبي أمر بالإيمان باليوم الآخر ووعد وأوعد فهذا هو الحقّ سواء أوجد في كتبهم أم لم يوجد يعني أنّنا نعدّ هذا ممّا أضاعوه ونسوه على ما بيّنا في تفسير التوراة والإنجيل . قال : والجملة عبارة عن استسهال العقوبة والاستخفاف بها اتّكالاً على إتّصال نسبهم بالأنبياء واعتماداً على مجرّد الإنتساب إلى الدين وكانوا يعتقدون أنّ ذلك كافٍ في نجاتهم ؛ ومن استخفّ بوعيد الدين زاعماً أنّه خفيف في نفسه أو أنّه غير واقع بمن يستحقّه حتماً تزول حرمة الأوامر والنواهي من نفسه فيقدم على إرتكاب المحارم بلا مبالاة ويتهاون في الطاعات المحتّمة وهكذا شأن الأمم عند ما تفسق عن دينها وتنتهك حرماته ، ظهر في اليهود ثمّ في النصارى ثمّ في المسلمين . وأقول : لعلّ المراد بعبارة الآية أنّهم كانوا يعتقدون أنّ الإسرائيلي إذا عوقب فإنّ عقوبته لا تكون إلاّ قليلة كما هو اعتقاد أكثر المسلمين اليوم إذ يقولون المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إمّا أن تدركه الشفاعات ، وإمّا تنجيه الكفّارات وإمّا أن يمنح العفو والمغفرة بمحض الفضل والإحسان ، فإن فاته كلّ ذلك عذّب على قدر خطيئته ثمّ يخرج من النار ويدخل الجنّة وأمّا المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار كيفما كانت حالهم ومهما كانت أعمالهم . والقرآن لا يقيم للإنتساب إلى دين ما وزناً وإنّما ينوط أمر النجاة من النار ، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار ، بالإيمان الذي وصفه وذكر علامات أهله وصفاتهم وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة مع التقوى وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن . وأمّا المغفرة فهي خاصّة في حكم القرآن بمن لم تحط به خطيئته وأمّا من أحاطت به حتّى استغرقت شعوره ورانت على قلبه فصار همّه محصوراً في إرضاء شهوته ولم يبق للدين سلطان على نفسه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . لهذا يحكم هذا الكتاب الحكيم بأنّ من يجعل الدين جنسية وينوط النجاة من النار بالإنتساب إليه أو الإتّكال على من أقامه من السلف فهو مغتر بالوهم ، مفتر يقول على الله بغير علم ، كما قال هنا { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي بما زعموا من تحديد مدّة العقوبة للأمّة في مجموعها وهذا من الإفتراء الذي كان منشأ غرورهم في دينهم ، ومثله لا يعرف بالرأي ولا بالفكر لأنّه من أمر عالم الغيب فلا يعرف إلاّ بوحي من الله وليس في الوحي ما يؤيّده ولا يوثق به إلاّ بعهد من الله عزّ وجلّ ولا عهد بهذا وإنّما عهد الله هو ما سبق في سورة البقرة : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 80 - 82 ] . ثمّ توعدهم تعالى على هذا الإفتراء بقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب في مجيئه وهو يوم الدين { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } بأن رأت ما عملته محضراً موفّى لا نقص فيه فكان منشأ الجزاء ، ومناط السعادة أو الشقاء ، دون الإنتماء إلى دين كذا ومذهب كذا أو الإنتساب إلى فلان وفلان من النبيين والصالحين . ألا إنّهم يرون يومئذ أنّ الجزاء يكون بشيء من داخل نفوسهم لا من شيء خارج عنها . يكون بما أحدثته أعمالهم فيها من الصفات الحسنة أو القبيحة ومقدرة بقدر ذلك . ويرون أنّ الناس سواء في هذا الجزاء لا إمتياز فيه بين الشعوب وإن سمّي بعضها بشعب الله . ولا بين الأفراد وإن لقّبوا أنفسهم بأبناء الله . بل يرون هنالك العدل الأكمل ولذلك قال { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي الناس المشار إليهم بلفظ " كلّ نفس " أي لا ينقص من جزاء أحد بما كسب شيء وإن كان مثقال ذرّة . وقد قال المفسّرون في هذه الجملة كلمة أحبّ التنبيه على ما فيها . قالوا : فيها دليل على أنّ العبادة لا تحبط وأنّ المؤمن لا يخلّد في النار لأنّ توفية جزاء إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها . فإذن هي بعد الخلاص منها . والعبارة للبيضاوي ونقلها أبو السعود كعادته . وأقول : إنّ الكسب هنا ليس خاصاً بالعبادة والإيمان بل هو عام شامل لكلّ ما عمله العبد من خير وشرّ فإذا أرادوا أنّ الآية تدلّ على أنّه لا بدّ من الجزاء على الكسب ، كما هو ظاهر الآية لزمهم أنّ الكافر إذا أحسن في بعض الأعمال - ولا يوجد أحد من البشر لا يحسن عملاً قطّ - وجب أن يجازى عليه وهم لا يقولون بذلك . ولذلك خصّصوا وأخرجوا الآية عن ظاهرها وإذا نحن جمعنا بين هذه الآية التي وردت ردّاً لقول الذين زعموا أنّهم لن تمسّهم النار إلاّ أيّاماً معدودة وآية البقرة التي وردت في ذلك أيضاً علمنا أن مراد الله في الجزاء على كسب الإنسان بحسبه ، وهو أنّ العبرة بتأثير العمل في النفس . فإذا كان أثره السيء قد أحاط بعلمها وشعورها واستغرق وجدانها كانت خالدة في النار لأنّ العمل السيء لم يدع للإيمان أثراً صالحاً فيها يعدها لدار الكرامة ، بل جعلها من أهل دار الهوان بطبعها . وإذا لم يصل إلى هذه الدرجة بأن غلب عليها تأثير العمل الصالح أو استوى الأمران ، فكانت بين جوريت على كلّ بحسب درجته كما قرّرناه آنفاً . وليس عندنا شيء عن الأستاذ الإمام في هذه الآية ولكن ما قلناه موافق لمّا قرّره في سورة البقرة .