Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 33-37)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أقول : لمّا بيّن سبحانه وتعالى أنّ محبّته منوطة باتّباع الرسول فمن اتّبعه كان صادقاً في دعوى حبّه لله ؛ وجديراً بأن يكون محبوباً منه جلّ علاه ، أتّبع ذلك ذكر من أحبّهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبنون طريق محبّته ، وهي الإيمان به مع طاعته ، فقال { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي اختارهم وجعلهم صفوة العالمين وخيارهم بجعل النبوّة والرسالة فيهم ، فآدم أوّل البشر ارتقاء إلى هذه المرتبة فإنّه بعدما تنقّل في الأطوار إلى مرتبة التوبة والإنابة اصطفاه تعالى واجتباه كما قال : { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [ طه : 122 ] فكان هادياً مهدياً وكان في ذريته من النبيين والمرسلين من شاء الله تعالى وأمّا نوح عليه السلام فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ونجا هو وأهله في الفلك فكان بذلك أباً ثانياً للجمّ الغفير من البشر ، وكان هو نبيّاً مرسلاً وجاء من ذريّته كثير من النبيين والمرسلين ، ثمّ تفرّقت ذريته وانتشرت وفشت فيهم الوثنية حتّى ظهر فيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبيّاً مرسلاً وخليلاً مصطفى وتتابع النبيّون والمرسلون من آله وذريّته وكان أرفعهم قدراً وأنبههم ذكراً آل عمران قبل أن تختم النبوة بولد إسماعيل عليهم الصلاة والسلام . { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } قيل إنّ الذريّة من مادّة ذرأ المهموزة أي خلق كما أنّ البرية من مادّة برأ وقيل من مادّة ذرو ، فأصلها ذروية وقيل هي من الذرّ وأصلها فعلية كقمرية . قال الراغب : والذرية أصلها الصغار من الأولاد وإن كان قد يقع على الصغار والكبار معاً في التعارف ويستعمل للواحد والجمع وأصله الجمع . وقال الأستاذ الإمام : يقال إنّ لفظ الذرية قد يطلق على الوالدين والأولاد خلافاً لعرف الفقهاء وهو قليل والمشهور ما جرى عليه الفقهاء وهو أنّ الذريّة الأولاد فقط فقوله " بعضها من بعض " ظاهر على الأول . ويخصّ على الثاني بآل إبراهيم وآل عمران . ويصحّ أن يكون بمعنى أنّهم أشباه وأمثال في الخيرية والفضيلة التي هي أصل إصطفائهم على حدّ قوله تعالى : { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] وهو استعمال معروف . أقول : وهؤلاء الذين يشبه بعضهم بعضاً من هذه الذرية هم الأنبياء والرسل قال تعالى في سياق الكلام على إبراهيم : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 84 - 87 ] { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي إنّه سبحانه وتعالى كان سميعاً لقول امرأة عمران عليماً بنيّتها في وقت مناجاتها إيّاه وهي حامل بنذر ما في بطنها له حال كونه محرّراً ، أي معتقاً من رقّ الأغيار لعبادته سبحانه وخدمة بيته أو مخلصاً لهذه العبادة والخدمة لا يشتغل بشيء آخر ، وثنائها عليه تعالى عند هذه المناجاة بأنّه السميع للدعاء ، العليم بما في أنفس الداعين والداعيات . قال الأستاذ الإمام : ورد ذكر عمران في هذه الآيات مرتين فبعضهم يقول أنّهما واحد وهو أبو مريم ، ويستدلّ على ذلك بورودهما في سياق واحد . وأكثرهم يقول إنّ الأول أبو موسى عليه السلام والثاني أبو مريم ( عليها الرضوان ) وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة تقريباً . وذكر تفصيل ذلك على ما هو معروف عند اليهود قال : والمسيحيون لا يعترفون بأنّ أبا مريم يدعى عمران ولا ضير في ذلك فإنّه لا يلزم أن تكون كلّ حقيقة معروفة عندهم وليس لهم سند لنسب المسيح يحتجّ به فهو كسلسلة الطريق عند المتصوفة يزعمون أنّها متصلة بعلي أو بالصديق وليس لهم في ذلك سند متصل يحتجّ بمثله . وأقول : إنّ نسب المسيح في إنجيلي متى ولوقا مختلف ، ولو كتب عن علم لما وقع فيه الخلاف . { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } قالوا إنّ هذا خبر لا يقصد به الإخبار ، بل التحسّر والتحزّن والاعتذار . فهو بمعنى الإنشاء وذلك أنّها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت الله والإنقطاع لعبادته فيه ، والأنثى لا تصلح لذلك عادةً لا سيّما في أيّام الحيض قال تعالى : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } أي بمكانة الأنثى التي وضعتها وأنّها خير من كثير من الذكور . ففيه دفع لما يوهمه قولها من خسّة المولودة وانحطاطها عن مرتبة الذكور وقد بيّن ذلك بقوله : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ } الذي طلبت أو تمنّت { كَٱلأُنْثَىٰ } التي وضعت ، بل هذه الأنثى خير ممّا كانت ترجو من الذكر وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ( وضعت ) على أنّه من كلامها ، وعليه يكون المعنى : وليس الذكر كالأنثى فيما يصلح له كلّ منهما : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } العوذ الإلتجاء إلى الغير والتعلّق به . فمعنى أعوذ بالله من الشيطان . ألجأ إليه وأعتصم به منه وأعاذه به منه جعله معاذاً له يمنعه ويعصمه منه والإعاذة بالله تكون بالدعاء والرجاء . والرجيم المطرود عن الخير . وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما واللفظ هنا لمسلم " كلّ بني آدم يمسّه الشيطان يوم ولدته أمّه إلاّ مريم وابنها " وفسّر البيضاوي المسّ هنا بالطمع في الإغواء ، وقال الأستاذ الإمام : إذا صحّ الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة . ولعلّ البيضاوي يرمي إلى ذلك . والحديث صحيح الإسناد بغير خلاف ويشهد له من وجه حديث شقّ الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظّ الشيطان منه . وهو أظهر في التمثيل ، ولعلّ معناه أنّه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلى الله عليه وسلم ، ولا بالوسوسة كما يدلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في شيطانه : " إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم " رواه مسلم وفي رواية زيادة : " فلا يأمر إلاّ بخير " . فإن قيل : إنّ حديث استخراج حظّ الشيطان منه ونحوه يدلّ على أنّه كان له حظّ منه قبل ذلك . وهذا ينافي قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] وهو صلى الله عليه وسلم صفوة عباده وخاتم رسله المصطفين الأخيار فإنّ الآية تنفي سلطة الشيطان عن عباد الرحمن في كلّ آن . فالجواب : أنّ الآية تنفي السلطان عليهم لا أصل الوسوسة فإذا وسوس الشيطان ولم تطع وسوسته لم يكن له سلطان ، ومعنى الحديث أنه لم يعد له طريق إلى الوسوسة ولا إلى الأمر بالشرّ قط . وهذه مرتبة عليا لا يرتقي إليها كلّ عباد الله وقد ذكر أهل الحديث من خصائصه صلى الله عليه وسلم إسلام شيطانه : وجملة القول أنّ الشيطان لم يكن له عليه سلطان ما ولكن كان له حظّ وطمع فزال وغلبه نور النبوّة حتّى يئس وزال حظه فلم يعد يأمر إلاّ بخير أو أسلم كما ورد . فإن قيل : إنّ ما فسّر به البيضاوي حديث مريم وعيسى يقتضي أن يكونا أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممتازين عليه إذ كان يطمع فيه ولم يطمع فيهما . وهذا ما يشاغب به دعاة النصرانية عوام المسلمين مستدلّين بالحديث على تفضيل عيسى على محمّد عليهما الصلاة والسلام ، أو على أنّه فوق البشر . فالجواب أنّ كتاب هؤلاء الدعاة حجّة عليهم ، ففي الفصل الرابع من إنجيل مرقص ما نصّه : " [ 1 ] أمّا يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية [ 2 ] أربعين يوماً يجرّب من إبليس ولم يأكل شيئاً في تلك الأيّام ولمّا تمّت جاع أخيراً [ 3 ] وقال له إبليس إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزاً [ 4 ] فأجابه يسوع قائلاً : مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة من الله [ 5 ] ثم أصعده إبليس إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان [ 6 ] وقال له إبليس لك أُعطي هذا السلطان كلّه ومجدهن لأنّه إلي قد دفع وأنا أعطيه لمن أريد [ 7 ] فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع [ 8 ] فأجابه يسوع وقال : " اذهب يا شيطان " إنّه مكتوب للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد [ 9 ] ثمّ جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل [ 10 ] لأنّه مكتوب أنّه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك [ 11 ] وأنّهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رحلك [ 12 ] فأجاب يسوع وقال له إنّه قيل لا تجرّب الرب إلهك [ 13 ] ولمّا أكمل إبليس كلّ تجربة فارقه إلى حين " . اهـ . فهذا صريح في أنّ إبليس كان يوسوس للمسيح عليه السلام حتّى يحمله ويأخذه من مكان إلى مكان ، وقصارى الأمر أنّه لم يكن يطيعه فيما أمر به من السجود له ومن امتحان الربّ إلهه ( أي إله المسيح ) وقوله لا تجرّب الربّ إلهك يراد به ما ورد في سفر التثنية آخر أسفار التوراة [ الأنعام : 16 ] ومثله قوله ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان . وقوله للربّ إلهك تسجد إلخ وذلك ممّا يدلّ على أنّه كان متّبعاً للتوراة . هذا وقد تقدّم تحقيق القول في الشيطان ووسوسته في سورة البقرة والمحقّق عندنا أنّه ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين ، وخبرهم الأنبياء والمرسلون ، وأمّا ما ورد في حديث مريم وعيسى من أنّ الشيطان لم يمسّهما وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وحديث إزالة حظّ الشيطان من قلبه فهو من الأخبار الظنّية لأنّه من رواية الآحاد . ولمّا كان موضوعها عالم الغيب والإيمان بالغيب من قسم العقائد وهي لا يؤخذ فيها بالظنّ لقوله تعالى : { إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] كنّا غير مكلّفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا . وقال بعضهم : يؤخذ فيها بأحاديث الآحاد لمن صحّت عنده ، ومذهب السلف في هذه الأحاديث تفويض العلم بكيفيتها إلى الله تعالى : فلا نتكلّم في كيفية مسّ الشيطان ولا في كيفية إخراج حظّه من القلب ، وإنّما نقول إنّ ما قاله الرسول حقّ وأنّه يدلّ على مزية لمريم وإبنها وللنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركهم فيها سواهم من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، وهذه المزية لا تقتضي وحدها أن يكون كلّ واحد منهم أفضل من سائر عباد الله المخلصين ، إذ قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد في الفاضل ، فليست مريم أفضل من إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام لأنّ اختصاص الله إيّاهما بالنبوّة والرسالة والخلّة والتكلّم يعلو كون الشيطان لم يمسّهما عند الولادة . على أنّ الحديث ورد في تفسير كونه تعالى تقبّل من أمّها إعاذتها وذريّتها من الشيطان . وهذه الإعاذة قد كانت بعد ولادتها والعلم بأنّها أنثى وظاهر الحديث أنّ المسّ يكون عند الوضع . والله ورسوله أعلم بمرادهما . { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي تقبّل مريم من أمّها ورضي أن تكون محرّرة للإنقطاع لعبادته وخدمة بيته وهو أبلغ من قبلها وزاده مبالغة وتأكيداً وصفه بالحسن كأنّه قال فقبلها ربّها أبلغ قبول حسن { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي ربّاها ونماها في خيره ورزقه وعنايته وتوفيقه تربية حسنة شاملة للروح والجسد كما تربّى الشجرة في الأرض الصالحة حتّى تنمو وتثمر الثمرة الصالحة لا يفسد طبيعتها شيء ولعلّه عبّر عن التربية بالإنبات لبيان أنّ التربية فطرية لا شائبة فيها . ومن مباحث اللفظ أنّ القبول مصدر " قبل " لا " تقبل " والنبات مصدر لنبت لا لأنبت ، ولكن العرب تخرج المصدر أحياناً على غير صيغة الفعل والشواهد على هذا كثيرة { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } شدّد الكوفيون من القرّاء الفاء وخفّفها الباقون والمعنى على الأولى وجعل زكريا كافلاً لها وعلى الثانية ظاهر وقرؤوا زكريا بالقصر وبالمدّ { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ } وهو مقدّم المصلّى ويطلق على مقدّم المجلس ، كما قال ابن جرير وقيل لا يسمّى محراباً إلاّ إذا كان يصعد إليه بالسلاليم . وأقول : المحراب هنا هو ما يعبّر عنه أهل الكتاب بالمذبح ، وهو مقصورة في مقدّم المعبد لها باب يصعد إليه بسلّم ذي درجات قليلة ويكون من فيه محجوباً عمّن في المعبد { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } قالوا كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف . والله لم يقل ذلك ولا قاله رسوله صلى الله عليه وسلم ولا هو ممّا يعرف بالرأي ولم يثبته تاريخ يعتدّ به والروايات عن مفسّري السلف متعارضة ، وفي أسانيدها ما فيها وممّا قال ابن جرير في ذلك : إنّ بني إسرائيل أصابتهم أزمة حتّى ضعف زكريا عن حملها وإنّهم اقترعوا على حملها فخرج السهم على نجّار منهم ، فكان يأتيها كلّ يوم من كسبه بما يصلحها فينميه الله ويكثّره فيدخل عليها زكريا فيجد عندها فضلاً من الرزق فإذا وجد ذلك { قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } أي من أين لك هذا الأيّام أيّام قحط { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ولا توقّع من المرزوق ، أو رزقاً واسعاً ( راجع آية 27 ) وأنت ترى أنّه لا دليل في الآية على أنّ الرزق كان من خوارق العادات . وإسناد المؤمنين الأمر إلى الله في مثل هذا المقام معهود في القديم والحديث . قال الأستاذ الإمام ما مثاله مبسوطاً : إنّ القرآن نزل سائغاً يسهل على كلّ أحد فهمه من غير حاجة إلى عناء ولا ذهاب في الدفاع عن شيء خلاف الظاهر ، فعلينا أن لا نخرج عن سنّته ولا نضيف إليه حكايات إسرائيلية أو غير إسرائيلية لجعل هذه القصّة من خوارق العادات ، والبحث عن ذلك الرزق ما هو ، ومن أين جاء ؟ فضول لا يحتاج إليه لفهم المعنى ولا لمزيد العبرة . ولو علم الله أنّ في بيانه خيراً لنا لبيّنه . أمّا ما سيقت القصّة لأجله وهو الذي يجب أن نبحث فيه ، ونستخرج العبر من قوادمه وخوافيه ، فهو تقرير نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصّاً بشعب إسرائيل وشبهة المشركين الذين كانوا ينكرون نبوّته لأنّه بشر . وبيان ذلك : أنّ المقصد الأول من مقاصد الوحي هو تقرير عقيدة الألوهية وأهمّ مسائلها مسألة الوحدانية ، وتقرير عقيدة البعث والجزاء وعقيدة الوحي والأنبياء . وقد إفتتحت السورة بذكر التوحيد وإنزال الكتاب ثمّ كانت الآيات من أوّلها إلى هذه القصّة أو قبيل هذه القصّة في الألوهية والجزاء بعد البعث بالتفصيل وإزالة الشبهات والأوهام في ذلك ، ثمّ بيّن إنّ الإيمان بالله وادّعاء حبّه ورجاء النجاة في الآخرة والفوز بالسعادة فيها إنّما تكون باتّباع رسوله ، وقفى على ذلك بهذه القصّة التي تزيل شبه المشركين وأهل الكتاب في رسالته وتردّها على وجوههم . ردّ عليهم بما يعرفونه من أنّ آدم أبو البشر وأنّ الله اصطفاه بجعله أفضل من كلّ أنواع الحيوان وتمكينه هو وذريّته من تسخيرها وهذا متّفق عليه بين المشركين وأهل الكتاب ، ومن اصطفاء نوح وجعله أبا البشر الثاني وجعل ذريّته هم الباقين ، ومن اصطفاء إبراهيم وآله على البشر . فإنّ العرب وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك فالأوّلون يفخرون بأنّهم من ولد إسماعيل وعلى ملّة إبراهيم كما يفخر الآخرون بإصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم . فالله سبحانه وتعالى يرشد هؤلاء وأولئك وجميع البشر إلى أنّه هو الذي إصطفى هؤلاء بغير مزيّة سبقت منهم تقتضي ذلك وتوجبه عليه . فإذا كان الأمر له في إصطفاء من يشاء من عباده وبذلك إصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم . فما المانع به من إصطفاء محمّد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى أولئك ؟ لا مانع يمنع ذلك عند من يعقل . فإن قيل إنّه لم يعهد أن بعث نبيّاً من غير بني إسرائيل بعد وجودهم . قلنا ولِمَ إصطفى بني إسرائيل عند وجودهم ؟ أليس ذلك بمحض مشيئته ؟ بلى . وبمحض مشيئته إصطفى محمّداً صلى الله عليه وسلم . فهذه المثل مسبوقة لبيان أنّه تعالى يصطفي من خلقه من يشاء . أمّا الدليل على كونه شاء إصطفاءه فإصطفاه بالفعل فهو أنّه إصطفاه بالفعل إذ جعله هادياً للناس مخرجاً لهم من ظلمات الشرك والجهل والفساد ، إلى نور الحقّ الجامع للتوحيد والعلم والصلاح ، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية بأظهر من أثره ، بل أثره أظهر ، ونوره أسطع ، صلّى الله عليه وعلى كلّ عبد مصطفى - وهذا بيان لوجه اتّصال القصّة بما قبلها من أوّل السورة . ومن هذه المثل قصّة مريم فإنّ أمّها إذا كانت قد ولدتها وهي عاقر على خلاف المعهود كما نقل أو يقال إذا كان قبول الأنثى محرّرة لخدمة بيت الله على خلاف المعهود عندهم وقد تقبّله الله فلماذا لا يجوز أن يرسل الله محمّداً من غير بني إسرائيل على خلاف المعهود عندهم ؟ ومثل هذا يقال في قصّة زكريا عليه السلام الآتية ومن ذلك كلّه . يعلم أنّ أعماله تعالى لا تأتي دائماً على ما يعهد الناس ويألفون .